اختتمت في تورينتو الكندية بداية هذا الأسبوع قمة مجموعة العشرين للدول الصناعية الكبرى والدول الناشئة ببيان يلخص موقفا متوسطا بين الجناح المؤيد لسياسة الانكماش الاقتصادي عن طريق اجراءات التقشف تتزعمه كل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، والجناح المنادي باستمرار سياسة الحفز الاقتصادي تتزعمه كل من كنداواليابان والولايات المتحدةالأمريكية. أما مشروع القرار المتعلق بفرض ضرائب خاصة على رأسمال المصارف الرأسمالية ونتائجها المالية فقد طوي تماما تحت ضغط اللاعبين الرئيسيين في الحقل المالي العالمي من جهة وبتأثير من الصين التي قايضت إلغاء المشروع - مثلما توقعنا في المقال السابق - بتحرير جزئي لليوان العملة الصينية واستغلال موضوع العقوبات على إيران جراء مسعاها في اكتساب النووي. أما مطلب الأفارقة بشأن إدماج مجموعة "النيباد" في مجموعة العشرين فقد بقي خطابا على ورق في انتظار أن تتمكن القارة السمراء من أدوات الضغط والتأثير في القرارات الدولية كما هو الاتحاد الأوربي والى حد ما الصين . قمة كبيرة وقرارات صغيرة أجمعت الدول المشاركة في قمة مجموعة العشرين على ثلاثة قرارات، كلها ذات طابع محلي تخص المجموعة ذاتها، إلا أن باقي العالم سيتأثر حتما بدرجة تنفيذها. الأول يخص عجز الموازنات في الدول الصناعية والذي تقرر أن يتم خفضه الى النصف في آفاق العام 2013 بشرط ألا يؤثر ذلك على النمو في تلك الدول، والثاني يخص أسواق المال والمصارف التي تقرر أن تضبط بشرط ألا يؤثر ذلك على سياسات الاقراض، أما القرار الأخير فيتعلق بحرية التصرف في تنفيذ قرارات القمة التي يجب أن تراعي المصالح الداخلية لكل دولة.وبالنظر الى الاشتراطات التي وضعت كقيود أمام هذه القرارات، فإنه من الصعوبة تصور تنفيذ حقيقي لها، خاصة وأن موجة واسعة من الاحتجاجات الشعبية عمت كلا من اسبانيا وفرنسا قبيل الاعلان عن بيان القمة وربما ستتوسع تلك الاحتجاجات لتشمل دولا صناعية أخرى - كما يحدث اليوم في اليونان - كلما ضغطت حكومات تلك الدول على موازناتها مثلما أوصت قمة العشرين . وهكذا، لا تجد تلك الدول حاليا بديلا فعالا عن التمويل بالعجز الموازني لتلبية الطلب الداخلي الذي يلامس في تلك الدول مستوى "الرفاه"، والدليل على ذلك أن كُلاًّ من اليونان واسبانيا والبرتغال وايرلندا تجاوزت الحد المسموح به في مؤشر نسبة عجز الموازنة الى الناتج الداخلي الخام ليصل المؤشر في بريطانيا مثلا الى 12 بالمائة، وجاوز في اليونان عتبة 13 بالمائة، في حين تنص اتفاقية عضوية الاتحاد الأوربي على أن السقف المسموح به يستقر عند3 بالمائة. وربما هذا ما دفع بالرئيس الأمريكي خلال انعقاد قمة العشرين الى التحذير من أثر قرار التقشف في الموازنات في الدفع الى حالة ركود لا تبقي ولا تذر، وقال بأنه يخشى أن يستمر عجز الموازنات في التصاعد حتى العام 2015. ونفس الشعور عبرت عنه الهند على لسان وزيرها الأول الذي قال: "لا يسعني إلا أن أعبر عن خوف الدول من العودة لوضعية الركود إذا ما تم تطبيق سياسات التقشف ".وتعني سياسات التقشف التي تنادي بها المستشارة الألمانية "إنجيلا ميركل" - التي تمكنت في وقت قياسي من جر الموقف الفرنسي الى صفها - وشرعت في تطبيقها الحكومة الجديدة في بريطانيا بقيادة المحافظين والليبراليين، أن يتم التخلي عن بعض تدابير الحماية الاجتماعية وضبط نفقات الحكومة والتقليص من الوظائف غير المجدية اقتصاديا، إضافة الى تقييد الانفاق الحكومي بموارد الميزانية الفعلية وليس بالدين العام الذي تجاوز في الدول الصناعية نسبة 110بالمائة من الناتج الداخلي الخام. سياسات تصب في أدبيات النظرية الاقتصادية في خانة الانكماش، لكنها تصطدم في الواقع الصناعي بخطط حفز النمو التي مازالت تنادي بها واشنطن . المصارف الرأسمالية تتجنب الأسوأ ظلت إدارات المصارف الرأسمالية تحبس أنفاسها ساعات قبل الاعلان عن بيان تورينتو المتوج لأشغال قمة العشرين أول هذا الأسبوع، لا لشيء، إلا لأن توقعات بشأن فرض ضرائب خاصة على رأسمال البنوك ونتائجها المالية، وقد يتطور موضوع الضرائب هذا الى اجراءات عقابية ضد المؤسسات التي لا تحترم معايير الضبط في أسواق المال أو تضارب في ودائع المودعين أو تتوسع في بيع الدين والمنتجات المشتقة من السندات، وخاصة في قطاع المساكن الذي شرع في الانتعاش في كل من أمريكا وبريطانيا. إلا أن تجنب الاعلان عن هذا النوع من الضرائب جعل البنوك الرأسمالية تتجنب الأسوأ بعد موجة الافلاس التي عصفت بها أواخر عام 2008، وتمكنت هذه الأخيرة من كسب معركة أخرى مع واضعي السياسات في الدول الصناعية لصالح الاستمرار في تحقيق أرباح إضافية جراء سياسات الاقراض الرأسمالية. ويبدو أن اليابانوكندا والولايات المتحدةالأمريكية تعاونت جميعها على دعم طموحات البنوك الخاصة في تجنب قيود جديدة عليها، بدليل التصريح الذي أدلى به الوزير الأول الكندي "ستيفان هاربر" خلال انعقاد قمة العشرين حيث قال: "لتحقيق الانعاش لا مفر من مواصلة خطط التحفيز، ولكن على الدول الصناعية أن تتعهد بأنه عند نهاية خطط التحفيز تكون الأنظمة المالية والموازنية سليمة" ويعني ذلك ان الاقتصاد المبني على الاقتراض سيستمر وأن اللجوء الى دور البنوك الرأسمالية سيتواصل، وأن أسواق المال ستبقى الخادم الوفي لطموحات تلك البنوك على الأقل في الأفق المنظور والى غاية العودة الى توازن النمو والتشغيل في الاقتصاد الكلي وبالتالي نهاية عصر خطط التحفيز . كلام يلتقي بشكل كامل مع تصريح الرئيس الأمريكي " باراك أوباما ". الصوت الافريقي الحاضر الغائب غاب الصوت الافريقي في اجتماع مجموعة العشرين بعد أن علا في قمة الثماني بفضل الدعوة الكندية التي شملت عشر دول نامية منها سبع دول إفريقية، ومن يضمن أن القمة القادمة للدول الثماني تكرر المبادرة الكندية؟ مبادرة كندا استهدفت تحقيق مكسب على طريق الديبلوماسية تجاه الدول النامية وإضفاء لمسة كندية خاصة على مسار القمم التي تعقدها مجموعة الثماني التي مازالت تستحوذ على غالبية الأصوات في المؤسسات المالية الدولية وفي مجلس الأمن، واليها تعود رئاسة كل من البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، وهي التي تقرر في مكان بقية العالم. ومع أن إفريقيا تحتل الموقع المتقدم في نسبة النمو التي تفوق نظيرتها في المجموعة الصناعية حيث تلامس 5 الى 6 بالمائة، وهي القارة الأولى من حيث مؤشر نسبة الدين العام الى الناتج الداخلي الخام الذي يستقر حاليا عند أدنى مستوى عالمي أي 20 بالمائة، في حين يتجاوز الرقم سقف 38 بالمائة في الدول الناشئة، و110 بالمائة في الدول الصناعية الكبرى، وهي القارة الأقل اعتمادا على القروض الربوية في تمويل النمو فيها والأكثر تحكما في السياسات الموازنية، وهي القارة الأكثر غنى في العالم من حيث الموارد الطبيعية، حيث تحتل المرتبة الأولى في انتاج الماس واحتياطي الذهب والمرتبة الثانية في حجم السكان، إذ تمثل 13 بالمائة من سكان العالم. قارة بهذه المواصفات الاقتصادية والمالية تغيب عن اهتمام مجموعة العشرين ويظل صوتها مبحوحا ويبحث عن صدى وسط عالم من المنافسة الصوت المسموع فيه هو صوت المصلحة وأدوات الضغط، وقارة بتلك المواصفات لا تراها الدول الصناعية إلا بمنظار المساعدات الموجهة للتنمية والمرافقة، في حين أنها تستحق أكثر من ذلك، أي الى أدوات تسريع النمو والمشاركة الفعلية من مجموعة الكبار في دعم الشروط الأساسية والقاعدية لتحقيق تنمية مستديمة ومتوازنة .