الحلقة 16 عاد الطالب من سفره المضني، وقبل أن يتهيأّ للسفر أصيب بمرض ألزمه الفراش وجعله يعاني من ألمين: ألم المرض، وألم الخوف أن يتمدد المرض إلى أن تبتدئ الدراسة بجامع الزيتونة، فيبطل السفر أو تفوته دروس أو يمنع من القبول. * حان وقت السفر وجاء نسيب ووجد الطالب طريح الفراش، وبعد النظر والتفكير، رأيا أن يؤجلا السفر أياما وينتظرا الفرج، ولعل الله تعالى يعجل به، فتنطلق النفوس من عقالها، وتبتسم الحياة بعد عبوسها، ويورق الأمل بعد جفافه!. وما كاد الطالب يتماثل للشفاء، ويعود إلى حالته الطبيعية، حتى أصيب نسيب بمرض ضرسه، فصار لا ينام من آلامه، وانتفخ وجهه حتى اختفت معالمه، وذهب إلى رجل في القرية لينزعها له، ولكن الرجل أكد له أن في انتزاعها ضررا كبيرا كنّا نجهله إذْ ذاك، وعرفناه بعد! حان وقت السفر إلى جامعة الزيتونة ! وحان وقت السفر، وليس من صالح الطالبين تأخيره، لأنه لم يبق لبداية السنة الدراسية بالجامعة إلا قرابة شهر، وهكذا، وبالرغم من مرض نسيب وضعف الطالب محمد الصالح الصديق الذي كان في النقاهة، فإنهما استعدا للسفر، وعينا يومه، ومحالا حاول والد هذا الطالب الأخير أن يثنيهما عن عزيمتهما، ويؤجّلا السفر إلى السنة المقبلة، وكم بصرهما بمتاعب السفر وهو الذي سافر وطوّف بكثير من البلدان، وذهب إلى تونس للدراسة وذاق مشاق الأسفار، ومتاعب الغربة، ومرارة الحرمان، ولكن الطالبين أصرا على السفر، ورضيا بكل ما يواجههما من شدائد ومحن، ولو شاء الشيخ لمنعهما من السفر لأبوّته وسلطته الأدبية، فهو إمام المنطقة، وخبير بشؤون الحياة، وكلماته ومواعظه ملء الأسماع، وملء الأفواه، والناس من كل حدب وصوب يتعاقبون على داره للمشورة والاستفتاء والاستنصاح، ولكنه اكتفى بتبصيرهما بما سيواجههما من مشاق مضنية، وظروف قاسية، وأحوال مجهولة ! عزم الطالبان على السفر بعد صلاة الصبح من يوم 28 أوت 1946، وكان رفيقهما إلى تيزي وزو ليركبا القطار من هناك رجلا من قرية قريبة اشتهر بالتقوى وحب العلماء وخدمتهم، ومحاولة نيل رضاهم، وكان طوال الطريق يحدثهما عن مشائخ المنطقة، وأئمتها الذين عرفهم وعرف جهادهم في خدمة الدين واللغة العربية، وكانوا في نظره في القمة الشامخة وكان يتصورهم حماة الإسلام وحاملي لواء نهضته، وسرّ نشاطه الدافق في الجزائر . وكان يقول لهما من حين لآخر : ستعودان كهذا اليوم إلى هذه المنطقة بنور العلم، لتضيئا فيها جوانب الحياة كما أضاءها هؤلاء ! . وكان المثير حقا أن يتحدث هذا الأميّ عن العلم والعلماء، بهذه الرغبة، وهذه الشهوة، وهذه اللهجة، التي تصور نقاء الطوية، وصدق النية، وذكاوة الفؤاد، ويشجع طلاب العلم والمعرفة على المضي في طريقهما وهو المحروم من العلم. وبدأت المغامرة الشاقة ... ودّع الرجل الطالبين على باب محطة القطار بكلمات رقيقة، وطلب منهما أن يدعوا له بجامع الزيتونة في السجود ! دخل الطالبان المحطة، وأخذا تذكرتين إلى قسنطينة، وبعد ساعة تقريبا من الانتظار، انطلق بهما القطار، وأخذ ينهب الأرض، ويطوي ما حوله من بنايات وأشجار، ومن حين لآخر يطلق صفيرا تهتز له المشاعر، وعلى المقاعد من حولهما أناس لا يربطهما بهم إلا هذا الحيّز الضيق، وهذا الزمان المحدود، الذي يجمعهم ثم يفرقهم، وما إن انطلق القطار حتى أسلموا لنوم عميق هادئ، يبدو أن الأحلام الجميلة تتطاير حولهم تطاير الحمائم البيضاء حول المروج الخضراء وهكذا يبدو للطالبين ! رقدوا قعودًا .. فلا ترى إلا أفواها مفغورة، وأعناقًا ملتوية، ولا تسمع إلا شخيرا منكرا مزعجا .. أما الطالبان فإنهما يفكران في هذه المغامرة التي لا يعلم إلا الله عواقبها. فبينما يشعران بنشوة في الأعماق من سفرهما إلى جامع الزيتونة بتونس، للكرع من مناهله، إذ يتذكران أنهما بلا رخصة، فيشعران بالنكد وتصدّع القلب! وعندما وقف القطار في محطة تبسة، وتأهبا للنزول، تقدم إليهما تاجر كان التقاهما بقسنطينة، وتجاذب معهما أطراف الحديث عن الطريق إلى تونس، وأعطاهما وصية شفوية إلى تاجر بالكويف يدعى عمر يحب العلم والعلماء، قد يساعدهما في سفرهما، وكان هذا التاجر قد حنّكته تجارب السفر، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وكان كثير التنقل بين الجزائروتونس، وكان مما ذكره لهما، أن الطريق إلى تونس بلا رخصة مغامرة انتحارية، والأفضل السفر من تبسة مشيًا على الأقدام إلى ما بعد الحدود لمن يعرف الطريق. دخلا مدينة تبسة، وأخذا يسألان عن حمام يبيتان فيه ليلهما، وكان الوقت إذ ذاك العاشرة صباحا، وموعد انطلاق القطار إلى الكويف على الثالثة من مساء الغد، وقد قيل لهما، إن هذا القطار الذي يربط بين تبسة والكويف، قد رفعت عنه الرقابة وهذا من صالح الطالبين! دلا على حمام في حي شعبي متطرف، فاتجها إليه وتركا فيه أمتعتهما، ثم انطلقا في جولة داخل المدينة للتعرف عليها، وللتسلي والترويح عن النفس، وقد رأيا في هذه الجولة شوارع نظيفة، وديارا رحيبة، وأسواقا بهيجة، وفرنسيين يتهادون في الشوارع، في تيه وزهو وخيلاء... يستروحون أَرَجَ النسيم، ويجتلون جمال الطبيعة المتبرجة .. أما أبناء الوطن، فكانوا غرباء في وطنهم، يبدو ذلك من مشيتهم، ونظرتهم : شجو في القلوب، وحزن على الوجوه، وجوع في البطون، وبؤس وشقاء تعكسهما رثاثة الملبوس ووسخه . في حضرة الشيخ العربي التبسي ولمعت في ذهن أحدهما فكرة وهما يتجولان، وهي أن يزورا مدرسة (تهذيب البنين والبنات) التي يدرس فيها الأستاذ الشيخ العربي التبسي إذ ذاك، وفعلا زارها وحضرا درسًا من دروس الشيخ، والتقيا فيها ببعض الطلبة من منطقة القبائل، وما يزال عالقا بالذهن أن الطالب السيد عبد الرحمن بن الشيخ وقد توفي منذ أربع سنوات دعاهما لتناول الغداء معه وكان خبزًا وتمرا، ولأول مرّة يشبعان الطعام منذ خروجهما من الدار ! وفي الساعة الثالثة مساء اتجها إلى حديقة بقلب المدينة للراحة والتمتع بمناظر الطبيعة، واستطاعا أن يُخضعا أنفسهما للمتعة، ويصرفا ذهنيهما عن قضية السفر بلا رخصة، التي تنغص حياتهما، وتشغل بالهما كل وقت. ولما أخذا نصيبهما من الراحة والمتعة، وهمّا بالنهوض للتجوال في المدينة، رغبة في التعرف على المدينة أكثر، لاحظا رجلا كهلا في هندام إمامٍ: جبة وبرنوس وعمامة لُفَّتْ على رأسه بإتقانٍ، تنطق ملامح وجهه، وحركات بدنه، ونظرات عينيه، بأن الرجل إذا لم يكن إماما، أو رجل علم، فهو لا شك من أهل الجاه والشأن ! لقاء غريب مريب أقبل نحوهما يتهادى في خطوات ثقيلة مزهوة، وفي يده عصا مقمعة بفضة، يتوكأ عليها حينًا، ويحركها يمنة ويسرة حينًا آخر، ولما وصل إليهما حيّاهما ثم استأذنهما في الجلوس معهما وقال لهما : إن قلبي انجذب نحوكما عندما رأيتكما . ففسحا له في مقعدهما الرخامي، وكلُّهما تقدير له واحترام، لهيئته الأنيقة، ومظهره المتميز؛ وبعد أن جلس نظر إليهما نظرة استطلاع، لا تخلو من عطف وإشفاق، وقال لهما : يبدو أنكما غريبان عن هذه المدينة، أليس كذلك؟ فقالا : نعم . فقال : يظهر أنكما طالبان، فأين تدرسان؟ فسكت نسيب، وعلى هذا اتفق مع زميله عند بداية السفر أن يتولى الحديث باسمهما معا فيما يعرض لهما من شؤون الحديث، لأنه يتحدث العربية بطلاقة، نتيجة توليه التدريس بزاوية الشيخ عبد الرحمن اليلولي، وتمرنه على التحدث بها. فأجابه قائلا : كنا ندرس بإحدى الزوايا بمنطقة القبائل، ونحن الآن في الطريق إلى تونس لإكمال الدراسة بجامع الزيتونة ! فقال الرجل - في لهجة كلها إعجاب وتقدير وتشجيع ما شاء الله ما شاء الله أكثر الله من أمثالكما، وجعلكما قدوة لأبنائنا، فإن الجزائر في أمس الحاجة إلى علماء، يتسلحون بالعلم في الخارج، ليعودوا مصابيح منيرة هادية، ينيرون أمامها الطريق! كان يتحدث بالدارجة ولكنه في طلاقة وجرأة ورزانة، وعلى ثغره بسمة عريضة، ومن حين لآخر كان يتنفس ملء رئتيه، ويَعُبُّ النسيمَ عبًّا ! ثم صمت، والصمت أحيانا بلاغة وبيان، وبعد رَدَحٍ من الزمان، التفت إليهما وقال في صوت خفيض ولكنه قويّ النبرة : هل عندكما رخصة أو جواز سفر؟ فقال المتحدث : لا شيء عندنا سوى التوكل على الله والثقة في عونه ! فهزّ الرجل رأسه فزمَّ على شفتيه، ونظر إلى المتحدث بنصف عينه وقال له : لا يا بني، ليس هذا توكلا، إنما هو مغامرة انتحارية، لا أشجعكما عليها، إن عيون فرنسا ورجال أمنها ورقباءَها مبثوثون في كل مكان، ولن تنفلتا منهم أبدًا، أما إذا نويتم السفر مشيًا على الأقدام فتلك نهايتكما الحتمية، التي لا يرضاها لكما حتى عدوكما! فقال المتحدث : ولكن ما العمل؟ وليس أمامنا إلا هذه المغامرة بأحد نوعيها، ذلك هو نصيبنا، ولكل امرئ من دنياه ما قدر له ! فوضع الرجل ذقنه على عصاه، ومدّ بصره بعيدا، شأن من شغله الأمر، وشفّه الألم، وتصدّع قلبه مما سمع، ثم تنهد، وأغمض عينيه، وبدا كأنه غارق في تأمل باطني عميق، وبعد لأْيٍ فتح عينيه، ومسح وجهه، وحوْقل مرتين، ثم قال لهما: متى تنويان السفر؟ فقال المتحدث: مساء الغد في قطار الثامنة إن شاء الله. فقال الرجل بعد أن حلب ريقه: آلمني وضعكما، وشعرت يعلم الله بما ينتظركما على أيدي الفرنسيين من إهانة وتعذيب، أو في الطريق من مشاق، قد تودي بحياتكما، ولذا قررت أن أخدمكما، وأسعى في إنقاذكما، مما ينتظركما من سوء العواقب ! وقبل أن يُتم كلامه ويكشف لهما عما نوى أن يفعله قالا معًا شاهقين وهما يحسان كأن أبواب الجنة قد فتحت أمامهما : جازاك الله عنّا خيرا، وكادت الدموع من شدة الفرح تنفرط من عيونهما ! مظهر جميل ومخبر حقير شرير قال الرجل : أعرف رجلا في الأمن يعطي الرخص بالدراهم، ولا يتأخر عن ذلك إن قصدته، فليعطني كلّ منكما ( 500 ) فرنك صانتيم، وسآتيكما بالرخصة، وأجري على الله ! وإذا كان هذا الثمن في عهدنا هذا لا يذكر، فإنه سنة 1946 مبلغ له وزن واعتبار ! ولم يكد الرجل ينتهي من عرضه الجميل الجليل، حتى شعر الطالبان بأطياف الفرح تتدفّق من أعماقهما، واحتبست الألفاظ عليهما، فلم يدريا كيف يشكرانه، وأحسا كأنّ أفقا قد أشرق أمامهما، فما كان منهما إلا أن أخرجا من جيبهما المبلغ المطلوب. وقبل أن يضع الدراهم في جيبه حدّجهما ببصره وهو يقول : انتظراني ولا تبرحا هذا المكان حتى أعود . أخذ الرجل ألف فرنك وهو يقول : المهم أن تَدْعُوَا لنا في جامع الزيتونة، ثم انطلق كالسّهم كمن لدغته العقرب، لا يلوي على شيء ! وظل الطالبان ينتظران عودة الرجل في شوق وظمأ، ويتطلّعان إلى الوجهة التي اتجه نحوها في تلهف، وما دار بِخَلَدِهِمَا أنه سارق، وجاسوس معا، حتى حلت الساعة السابعة، فعندئذ فقط أخذا يشكّان في الرجل، ولكن لطيبتهما وقلة تجاربهما، لم ييأسا منه إلا عندما حلت الساعة التاسعة، وصارا يستلفتان أنظار المارة . ذهب الطالبان إلى الحمام يجرّان أذيال الخيبة، وتعصرهما الآلام، ويتعجبان من مظهر الرجل، وأناقته، وأسلوبه في الحديث، ثم يرتفع الستار عن حقيقته، فإذا هو مراء، كاذب، خدّاع، غشاش، مختلس، حقير !