الداعية السعودي الشيخ عائض القرني جاريت السودانيين في لهجتهم ... لكن الجزائر بلد لا ينسى ! لم تكن ردة فعل الجزائريين نحو الداعية السعودي الشيخ عائض القرني مدهشة للسعوديين وحدهم، الذين لم يعرفوا عن الجزائر كثيرا، ولكنها أيضا أذهلت القرني الذي غادر بلاده و"يده على قلبه"، خوفا من مفاجآت العنف والإرهاب، الذي عرف الداعية الجبلي كما يقول عن نفسه شؤمه وسؤه في الرياض، وفي سجون حاور فيها أعتى مشايخ التكفير الذين كان الإفتاء ب " قتل المسلم والمعاهد " بالنسبة إليهم أسهل من شرب " كوب قهوة " في أحد مقاهي العاصمة الفارهة . * ودهشة القرني من حمل الجزائريين له على الأكف، دفعته إلى محاولة الإجابة عن سر لهفتهم عليه، فقال إنهم ينعتونه والشيخ سلمان العودة وكوكبة من علماء السعودية ب "دعاة الوسطية"، وهو النهج الذي يعبر عنه القرني بمذهب "اللملمة"، والذي يفسره بالقول "توصلت إلى قناعة بأن الخطاب الذي يجمع الأمة كلها بفرقها ومذاهبها هو خطاب الكتاب والسنة، وذكر محاسن كل قوم في ديارهم وعلى منابرهم ومن ثم الإسرار إليهم بالملاحظات فيما بينك وبينهم، وقد جربت هذا النهج في أوروبا على مدى ثمانية أشهر مع جماعات متناحرة مثل السلفية، والتبليغ، والإخوان، والصوفية، فوجدت منها الاستجابة والترحيب " . ويرفض القرني الذي يمازح قراءه في كتابه "عاشق" بأن أول عمل ديني قام به كان الصلاة على جنازة "عنز" في قرية عشيرته جنوب السعودية، أن يكون ما سماه مذهب "اللملمة" التصالحي، مداهنة في الحق، وقال "بل هو تغليب جانب الرحمة واليسر، والتبشير الذي دعا إليه النبي عليه الصلاة والسلام " . هذا الخطاب كان نقطة الجذب التي قال القرني إنها لمست شغاف قلوب الجزائريين، إلى جانب عزفه على وتر أمجادهم في الثورة والجهاد ومواجهة المستعمر . إلا أن القرني في هذا الحوار الرمضاني الذي خص به "الشروق"، ذهب إلى أبعد، حينما كشف لنا سرا أبقاه مكتوما منذ أن عاد من الجزائر، وهو "إرسال عينيه لدمعها مدرارا" ساعة هتف له بالنشيد الوطني الجزائري، الذي قال إنه ألهب حماسته، وأخرجه عن طوره، فاستسلم للدمع على وقعه تنهال . . وأشياء أخرى تناولها القرني في الحوار المقتضب معه . منذ متى وأنت تصوم؟ على ما أظن فإنني أصوم منذ العاشرة من عمري تقريبا، بأمر من الوالد . * هل كنت تتحايل على الوالدين لالتهام أكلة في الخفاء؟ في صغري كان عند الوالد علبة من (الحلاوة الطحينية)، وكنت صائما، وأتوق لهذه الحلاوة، فقد كانت تمثل لي إغراء كبيرا، فانتظرت الوالد حتى ذهب لصلاة العصر، فسطوت عليها، فأكلت منها حتى شبعت، ثم غسلت وكأنني صائم وأفطرت معهم، فقد كنت صغيرا في تلك الفترة. ما هي الأماكن التي يلجأ إليها الأطفال خفية للاستمتاع بالأكل؟ منها المطبخ إذا كان الوالدان نائمين، وهناك طريقة اكتشفتها وهي أن تستيقظ في أول النهار ووالداك نائمان، وتذهب إلى المطبخ، لأن الإعداد للإفطار يبدأ بعد العصر تقريبا، فكنت أستغلّ هذه الأوقات المناسبة، ومنها أن تذهب إلى المخزن أو إلى السطح، وهناك طرق كثيرة لمن فتح الله عليه . طقوس رمضان ( الإسهاب في الشراء والأكل، السهر، التلفاز ... ) ما هو نصيبك منها؟ السهر، ولكنه في القراءة والكتابة، ثم إنني متوسط في الشراء، وأما التلفاز فقليل، وأما الأكل فمتوسط . ماذا تحوي ذاكرتك من مواقف رمضانية تأبى النسيان؟ منها أني ما نسيت البلدة التي كنت أعيش فيها آل سليمان بلقرن، حيث كنا نجتمع بعد صلاة التراويح في بيت واحد من الجيران بالتناوب، وتكون البيوت بالترتيب (بالدور)، فكنت أفرح صراحة بهذه الجلسة، وأنا طفل صغير أتظاهر بالصيام؛ لأن من يصمْ يكنْ له نصيب وجائزة بحضور هذه المجالس، وتجدني قبل الغروب بين الأهل حتى لا يُشك في صيامي . ومن المواقف أن والدي أخبرني ذات مرة بأنه سيحضر رمضان فكنت أظن أنه رجل أو وافد أو غيره، فتجدني أرعى الأفق انتظارا لرمضان هذا وبظني أنه رجل . وهذا في صغري . ومن المواقف أنه كان عندنا إمام للمسجد في البلدة، فجاء شاب أكبر مني وقال له: يا عم أنا في البارحة نسيت فأكلت خبزا، فقال له: إن كنت نسيت فمعذور، فقال الشاب: ولكني نسيت أيضا فأكلت تمرا مع إخواني، فقال له: إن كنت نسيت فمعذور، فقال الشاب: ولكني نسيت أيضا فدخلت المطبخ وشربت لبنا، فقال له الشيخ : الله يفتح عليك، قطّعت رمضان من كل جانب . رغم أن رمضان يحوي وجبتين أساسيتين ( الفطور والسحور ) إلا أن أجساد الجنسين في تمدد، هل نالك جزء من هذا التوسع البيولوجي في السنة الماضية .. وإلى أي شيء يعود السبب من وجهة نظرك؟ الحقيقة أن الناس في رمضان بين مقلّ ومكثر، لكن الغالب على الناس أنهم إذا جاء رمضان جمعوا على المأدبة ما لذّ وطاب، حتى ربما تتجاوز الخمسين نوعا وشكلا، فإذا جاء الإفطار ضربوا فيها ضربة من لا يخشى الموت ولا يخشى الفقر، وأنا أنصح أن يكون الأكل بالتدرج، فلا يكون دفعة واحدة، حتى لا يصاب الإنسان بجلطة، ثم ينقل للعناية المركزة أو لقسم الباطنية، وأكثر الشهداء هم شهداء التخمة شهداء الباطنية، ولذلك فقتلى أمتنا من أكثر الأمم ضحايا لغرفة الباطنية أو ضحايا للبطن، وأسأل الله أن يلهمنا رشدنا؛ لأننا نتمدد بالأجسام على حساب العقول، مما يسبب خمولا في الذاكرة، وتخمة في البدن، ولذلك أستاذ مصطفى انظر في شارع واحد عندنا في الرياض تجد سبعين مطعما ما بين مثلوثة ومظبي ومندي ومقلي ومشوي ومكبوس وغيره، ومكتبة واحدة . ما هو الشيء الذي يزعجك وتتمنى زواله في رمضان؟ تحويل الفضائيات رمضان إلى رقص ودبكة وعرضات وغناء، حتى لكأن شهر التوبة والرحمة والغفران والإنابة تحوّل إلى ألف ليلة وليلة، من مسلسلات وأفلام وغناء وإغواء، فأصبحت هذه كلها شغل الناس الشاغل . وما هو الشيء الذي يبهجك في رمضان وتتمنى أن يستمر طوال العام؟ إقبال الناس على المساجد وخاصة التراويح، وكثرة الذكر، وقراءة القرآن، والصدقة، فهذه كلها مبهجات والحمد لله . وجبة الإفطار الرمضاني تلم شتات الأسرة بقية العام جراء المطاعم والوجبات وربما الأعمال .. كيف ترى أثر ذلك على محيطك الأسري، وكم مرة أفطرت خارج البيت ( رمضان الماضي ) ؟ أنا يا أخي أحرص في رمضان ألا ألبّي دعوة خارج البيت، وطلبت من إخواني ألا يجيبوا الدعوات خارج بيوتهم، فوجبة الإفطار مع الأهل لها طابع وطعم خاص، خاصة إذا اجتمعت بأهلك قبل الإفطار بخمس أو عشر دقائق ورفعوا أيديهم داعين الله؛ لأن للصائم دعوة لا تردّ، فأرجوكم يا إخواني أن تجتمعوا قبل الإفطار بعشر دقائق، وترفعوا أيديكم وتدعوا الله سبحانه وتعالى، فهذه وقفة تاريخية لا تُنسى وربانية وإيمانية . إلى أي شيء ينحاز قلبك .. رمضان الريف أم رمضان المدن .. ولماذا؟ رمضان الريف لما فيه من هدوء، وطعم الزيارات والجلوس مع الجيران، والسمر المباح، والتلقائية، والأجواء المناسبة، ورؤية النجوم في الليل، والخضرة، والجبال والسفوح، أما المدن فضجيج وصجيج وحركات وآلات، ولا ترى فيها النجوم، ولا القمر، ولا تشاهد إلا هذه العمارات والسيارات . ما إن يهل هلال رمضان حتى تعود الطيور المهاجرة إلى أوطانها .. لماذا من وجهة نظرك؟ وهل سبق أن صمت رمضان خارج السعودية؟ لم يسبق لي أن صمت رمضان خارج السعودية، قد أكون صمت يومين لوجود محاضرة أو دروس في أبو ظبي أو دبي مثلا، يوما أو يومين. أما البقية فنصومها في بيوتنا. أما عن سبب عودة المهاجرين والمسافرين إلى المملكة في رمضان فذلك لأن جو رمضان في المملكة جو مختلف، وأنا أدعو كل السياح والمسافرين للعودة في رمضان إلى أهلهم والإفطار معهم، لأن هناك جو القرآن، جو الصوم، جو الصلاة، والدعاء، وصلاة التراويح، والذكر، أما من يجعل رمضان سياحة وتغييرا في نمط الحياة وبرنامجه اليومي فذلك مما لا يصلح. ما هو الوقت المفضل لديك لقراءة القرآن؟ أنا في الليل، لكنني أوصي إخواني أن يأتوا مبكرين للصلوات مع الأذان ويتلون القرآن حتى الإقامة، وبعد الصلاة لا بد من جلسة لقراءة بعض القرآن الكريم، وأوصي إخواني جميعا أن يكثروا في رمضان من قراءة القرآن، حتى لو تركوا الكتب الأخرى، والبرامج الأخرى، فهذا شهر القرآن والذكر الحكيم . هل تلجأ إلى التفسير لمعرفة الكلمات القرآنية .. أم تكتفي بالقراءة فقط؟ كنت فيما سبق أراجع التفسير لمعرفة معاني الكلمات القرآنية، فألفت التفسير والحمد لله، واطلعت على معاني الكلمات، فصرت والحمد لله أتدبر بنفسي . كثرة البرامج التلفازية ( دينية، كوميدية، ترفيهية ) هل عكرت عليك صفو العبادة وسلبت روحانية الشهر منك؟ لا أتصور هذا؛ لأنني أتحكم في نفسي بهذا الشيء، فلا أسلم نفسي للتلفاز، ولا أقضي أمامه إلا وقت الأخبار مثلا أو مشاهدة برنامج، لكنني أعود إلى مكتبتي وإلى برنامجي . * الازدواجية التي تكون في شهر رمضان بين نهار روحاني وليل كرنفالي طربي .. هل هي ثمرة واقعنا العربي أم ماذا بالضبط؟ صحيح أن هذا من نتائج الواقع العربي؛ لأن الواقع العربي (مشقلب وملخبط)، أعني ما فيه من تناقضات كثيرة، والواجب أن نرشّد حياتنا ليكون عندنا توازن، لأن ديننا قائم على الوسطية، وإعطاء العقل حقه، وإعطاء القلب حقه، وإعطاء الجسم حقه، ولكن العجيب أن بعض الناس أعطوا القلب حقه، وتركوا الجسم أو أعطوا كل شيء للجسم وتركوا العقل . فالواجب علينا أن نقتصد حتى في العبادة، سيرا على السنة، والمباحات نقتصد فيها، ولكنني أشاهد غالب الناس الآن قد حوّلوا ليلهم ليل سهر ومسلسلات وقيل وقال، في كلام لا ينفع . * ماذا بقي في ذاكرتك من زيارتك الأخيرة للجزائر؟ الحقيقة أن ما بقي كثير، وسأخبرك بنكتة أخ مصطفى، فقد راسلني الأستاذ محمد يعقوبي رئيس تحرير جريدة الشروق الجزائرية، وهي صحيفة يطبع منها ما يقارب سبعمائة ألف نسخة، من أكبر الصحف هناك، راسلني يبارك لي بقناة "لا تحزن" التي سوف أطلقها إن شاء الله فكتبت له رسالة بنكتة قائلا له: أبارك لكم بتحرير الجزائر من الفرنسيين، لأنني كنت صغيرا حين حصل هذا، وجئت الجزائر ونسيت أن أبارك لكم، والآن أعتبرها فرصة فأبارك لكم بخروج الفرنسيين من الجزائر، ومبارك لكم هذا الفوز والنصر. لكن في الجزائر - ومعي الشيخ محسن الزهراني - مشاهد لا أنساها، جبال من البشر شاهدناهم أمامنا ولله الحمد وله الشكر والفضل . ماذا حدث لك يوم وقفت للنشيد الوطني الجزائري؟ أولا استشرت إخواني وكان منهم الشيخ محسن الزهراني، والدكتور يحيى الهنيدي، والدكتور عبد الرحمن القحطاني، وقد قام أساتذتهم والمشايخ في المدرجات، فرأيت من الصعب عدم القيام؛ لأن السلام الوطني هذا يعني نشيد الاستقلال والنصر والكفاح، فقلت: نتوكل على الله ونقوم، لكن صدقني أنه من روعة المشهد وروعة النشيد أن عيوني قد دمعت . مجموعة من السلفيين الجزائريين - بعد زيارتك - رفضوا الوقوف ل " قسما " ، كيف تقنعهم بسلامة موقفك أنت؟ أقنعهم بأن هذا للمصلحة وتأليف القلوب، وأن هناك أدلة مسهلة في الباب، ويجب أن نجلو قلوب الناس، والحمد لله فليس هناك محرم ظاهر، وأبشرك فالحجة موجودة . بأمانة، ما هو الموقف الذي أظهر نواجذك من الضحك في السودان؟ لا أكتمك سرا أنني أحترم السودانيين، وأشكرهم شكرا جزيلا، لكنني متعجب من المناصب عندهم، حتى قلت لزملائي وحين قدمنا فإذا المقدم هو رئيس المجلس الشعبي الديمقراطي الاتحادي العربي الاشتراكي لشباب السودان، فكنت أقول لإخواني: لاحظوا المنصب، رئيس الاتحاد خذ نفَسا، العربي الاشتراكي خذ نفَسا، لشباب السودان خذ نفَسا، التعبوي النهضوي خذ نفَسا، ولهذا أقول نكتة هنا أخبرني السودانيون بها بل هو سياسي سوداني كبير، يقول: إن أنور السادات قال اسم ليبيا، قال: الجماهيرية العربية خذ نفَسا، الاشتراكية خذ نفَسا، الشعبوية خذ نفسا، العظمى خذ نفَسا . وهل جاريتهم في العامية السودانية؟ أنا أحفظ من اللطائف، وقالوا: اعطنا مما تحفظ من اللطائف فأعطيتهم ثلاثا، قلت: عندنا في السعودية كان هناك سوداني إمام فيقول للناس: استووا، استووا، ثم التفت خلفه فإذا رجلان متباعدان في الصف، فقال: تقاربوا لا يدخل الشيطان بينكم، فقال له أحدهما باللهجة السودانية -وقد قلدتها لهم- (وما لو ياخي؟ داير شنو ياخي؟ خليو إذا هداهو ربي يدخل يصلي معنا، أنت ياخي تكره من يصلي معنا؟). والثانية أن السوداني حتى لو جاءته أكبر مصيبة، يهز رأسه ويقول: (يا سلام، يا سلام، يا سلام). وهناك أخرى أن جعفر النميري طلب سكرتيرا له لا يأكل الحرام أبدا، فاختاروا له رجلا صالحا، ولكنه نحيف جدا، وكأنه جلد على عظم، فلما نظر إليه جعفر النميري قال : هذا يا أخي لا يأكل حراما، ولا يأكل حلالا . مساحة فاضية لك ماذا تحب أن تقول فيها؟ أشكركم، وأشكر صحيفة "الشروق"، والحقيقة أن الأخ مصطفى -ولا أقولها مجاملة- له عندي مثلما لي عنده ودّ خاص منذ سنوات، ودائما ما تتوفق مقابلاتي معه جزاه الله خيرا، وهذا لنيّته الطيبة إن شاء الله، وتحية أيضا للأستاذ محمد يعقوبي على ما يقدمه ومبادراته في الجريدة .