قابلت وزير الطاقة والمناجم الأسبق "شكيب خليل" في الرياض العام 2007 على هامش قمة قادة "أوبك" وسألته عن آفاق انخراط الجزائر في المنظومة الطاقوية الاقليمية الجديدة والتي تتزعمها ألمانيا ومعها دول الاتحاد الأوروبي فرد بأن هذا النوع من المشاريع هو ضرب من الخيال، وأن معاليه يجهل أي مسعى يخص الجزائر في هذا الاتجاه . * وبعدها بعامين أعلن -على لسان الخارجية الألمانية وبمناسبة الذكرى الأولى لإطلاق الاتحاد من أجل المتوسط في 13 من جويلية 2009- عن مشروع طموح لربط أوروبا بشمال افريقيا عن طريق الطاقة الشمسية هو مشروع "تكنولوجيا الصحراء" أو"ديزرتك" بميزانية قدرها 560 مليار دولار، وسارعت الجزائر يومها الى إبداء تحفظها على لسان نفس المسؤول مؤكدا ما قاله لي في الرياض، فكتبنا يومها وبتاريخ 22 جويلية 2009 بالشروق مقالنا "الجزائر ومشروع ديزرتك: وأخيرا أدركنا مصالحنا" على أساس أن تجربة الجزائر مع الاستثمار الأجنبي في قطاع الطاقة حولها الى ساحة ممتازة لتحويل الأرباح دون مقابل مكافئ من تحويل التكنولوجيا . * وبعد سنة أخرى وبمناسبة انعقاد مؤتمر الطاقة العالمي الواحد والعشرين بمونريال الكندية الأسبوع الماضي أبدت الجزائر على لسان الوزير الجديد لقطاع الطاقة بالجزائر يوسف يوسفي استجابة صريحة لمسعى التنويع الطاقوي والاستفادة من الطاقات المتجددة، وسرعان ما تناقلت وكالات الأنباء ووسائل الاعلام تصريحات المسؤول الجزائري الجديد وتصفها بالتحول المهم في موقف الجزائر تجاه المشاريع الطاقوية الجديدة في المنطقة، ومما يؤكد هذا التحول تصريح متزامن للرئيس المدير العام للشركة الجزائرية "سونلغاز" على هامش المؤتمر المذكور حيث ألمح بأن مشروع "ديزرتك" قام على فكرة جزائرية أطلقت على هامش مؤتمر عقدته مؤسسة لمنظمة الأممالمتحدة هي "الأونيبيد" بالعاصمة التونسية تونس العام 1993. فهل يعني ذلك تحولا حقيقيا في موقف الجزائر تجاه أكبر مشروع عالمي للطاقات النظيفة؟ وماذا يعني ذلك من وجهة نظر استراتيجيات الدول؟ * * الأسواق المتحولة * تتربع الجزائر على عرش السوق الطاقوية تجاه أوروبا في المرتبة الثانية ولا تنافسها في ذلك سوى روسيا التي تملك ميزات نسبية أقوى في مجال الغاز، ولكن المشهد المستقبلي لأول زبون استراتيجي بالنسبة للجزائر يتجه لسوق جديدة للطاقة لا تملك الجزائر فيها شيئا مزايا تجارية هي سوق الطاقات المتجددة والمتولدة عن الشمس والماء والرياح، أي الى سوق تضم منافسين جدد فضلا عن روسيا، وأعني بذلك كلا من المغرب وليبيا ومصر وإلى حد ما تونس الشقيقة. وإذا كانت الجزائر متفوقة عن المغرب -مثلا- في مجال الطاقة الأحفورية: النفط والغاز، فإنها بالنسبة لخام الشمس تعادله تماما بطاقة سنوية قدرها 300 ساعة. والمتتبع للمسعى الأوروبي في مجال استهلاك الطاقة يكتشف بأن العام 2050 سيكشف عن سوق طاقوية جديدة تماما ومتطورة لصالح الطاقات النظيفة، وأن سلوكا جديدا ومتحولا ينمو بين المواطنين في الاتحاد الأوروبي لاستخدام هذا النوع من الطاقة، وأن ألمانيا بدأت في تحويل حرارة باطن الأرض الى سطحها عن طريق تقنية "الجيوترميك"، وأن فرنسا بصدد إعداد الدراسات التقنية لإطلاق محطات شمسية اقليمية بطاقة 20 جيكاواط على آفاق 2020، وأن أوروبا تستهدف إحلال الطاقة النظيفة محل الطاقة التقليدية بالقدر الذي يستجيب لتوصيات مؤتمر "كوبنهاجن" حول البيئة أي خفض الانبعاث الحراري السام بنسبة 80 بالمئة، وكمرحلة أولى ستحتل الطاقة الشمسية 15 بالمئة من الاستهلاك الأوروبي للطاقة الى جانب طاقات محلية متولدة عن المياه والرياح. مشهد يدفع بالبحث في التحكم أكثر في تكاليف الانتاج، ويقلل بالتالي من سعر الوحدة الحرارية، ويبعث سوقا أخرى تختلف كلية عن السوق الحالية وبشكل هيكلي . * * الجزائر بين يديها سوق عالمية أخرى * ليس أمام الجزائر محاور تحكيم كثيرة في مجال السياسات المتعلقة بإنتاج الطاقة، فقد بدأ العد العكسي للاحتياطي من الغاز والنفط بسبب التثمين السيء للفترة التاريخية السابقة، وجراء دخول لاعبين جدد للميدان وعلى رأسهم كل من قطر في مجال الغاز المسال والعراق في مجال النفط. كما بدأ العد العكسي لسلوك الاستهلاك المبني على الطاقة الملوثة للجو، وفي أمريكا -الزبون الاستراتيجي للجزائر في مجال النفط- دعوات متصاعدة لوقف الاستيراد وتوظيف المخزونات الاستراتيجية تحسبا لعصر تصبح فيه مادة النفط سلعة لا ثمن لها كما هو الفحم تماما . وضع مستقبلي أفرز تطورا في السلوك الاستثماري للشركات الكبرى على شاكلة شركة " ألتيكساس " الأمريكية التي تحولت من أول شركة لإنتاج النفط الى أول شركة لإنتاج الطاقة الهوائية . * وفي هذا السياق للجزائر ميزات تنافسية في مجال الطاقة الشمسية تتجاوز الطلب الداخلي على الكهرباء الى الطلب العالمي كما صرح بذلك "لستر براون" وهو رئيس معهد "إيرث بوليسي" على هامش ندوة للطاقة عقدت بمونريال الأسبوع الماضي: "تتوفر الجزائر على طاقة شمسية كافية لتموين الاقتصاد العالمي برمته"، وبالفعل للجزائر خام من الطاقة غير قابلة للنضوب منها طاقة الشمس وطاقة الرياح وطاقة المياه ولكن المسعى الناجع لتثمين تلك الطاقة يشترط رؤية شاملة تجمع بين البعدين السياسي والاقتصادي معا، فتحت قيد التكنولوجيا لا تتمتع الجزائر بالقدر الكافي من امكانيات الانتاج بمستوى الحجم والأمن الصناعي، وتحت القيد المالي ليس لها القدر الكافي من امكانيات الاستثمار موازاة من خطط الانفاق العمومي الحالية. وتحت القيد الفني توصف الاستثمارات في الطاقات المتجددة بالاندماج الصناعي والجهوي الذي يحمل مدلول المشروعات المشتركة، وذلك بسبب تفاوت تكاليف الانتاج وحجم السوق ومستوى الطلب من دولة الى أخرى . * معطيات تدفع الى تعجيل التفكير في مقترح جزائري يجمع بين اشتراطات السيادة، تقنية التفاوض، استغلال حاجة الشمال لشمس الجنوب، استباق خطوات الشركاء المحتملين في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، تلبية الطلب الداخلي المتزايد على الطاقة ومنها الطاقة الكهربية، وأخيرا التثمين التجاري لمدخلات الطاقة المتجددة التي تزخر بها بلادنا بالسعر العادل الذي يضمن حقوق الأجيال. تركيبة معقدة بلا شك ولكنها ممكنة لسببين: جدوى الطاقة الشمسية المضمون لتوفير 50 بالمئة من احتياجات أوروبا وشمال افريقيا من الكهرباء، وكسب سوق جديدة في افريقيا لا تكاد تضمن -حاليا- أكثر من 30 بالمئة من احتياجاتها من الكهرباء. والسبب الثاني هو التنافس داخل الاتحاد الأوروبي لكسب ود الجزائر بين المحور الألماني ويمثله مشروع "ديزرتك"، والمحور الفرنسي ويمثله "المخطط الشمسي المتوسطي"، وهو تنافس يعطي للجزائر فرصة ذهبية أخرى كي تظل متربعة على سوق الطاقة في أوروبا في انتظار استكمال اقتصاد وطني متنوع يقلل من تبعية البلاد للأسواق الخارجية من زاوية انتاج الثروة وليس فقط تحويل الطبيعة أو التنازل عنها . * * *