عندما قامت المقاومة اللبنانية بقتل ثمانية جنود إسرائيلييين وأسر اثنين كانت تعلم تماما طبيعة العدو الاسرائيلي، وخبرت اساليبه القتالية ومواطن قوته وضعفه، على مدى أكثر من عشرين عاما، لذلك استطاعت أن تستوعب الضربة الأولى للهجوم الإسرائيلي، ثم تنتقل إلى المبادرة الاستراتيجية التكتيكية، بقلم العميد مزوزي بلقاسم (ضابط متقاعد) وبفضل التحضير الجيد، ومستوى التدريب العالي، والشحنة الإيمانية القوية امكن لها أن تنتصر في النهاية انتصارا كبيرا لا غبار عليه لأنها: منعت العدو من تحقيق أهدافه وكبدته خسائر فادحة في الأفراد والمعدات أسقطت المشروع الأمريكي الصهيوني للشرق الأوسط الجديد برمته أذكت روح المقاومة لدى الشعوب العربية والإسلامية. وإذا كسبت اسرائيل شيئا ما من هذه الحرب فإنما كان ذلك بفضل الولايات المتحدة الأمريكية التي تسلطت على مجلس الأمن ووجهت قراره (1701) بما يحفظ ماء وجه اسرائيل! عوامل النصر: لاشك أن النصر لم يأت هكذا صدفة، ولكن نتيجة عمل شاق دؤوب استغرق أكثر من ست سنوات وصمود أذهل العالم كله، وأهم هذه العوامل هي: 1 قوة الايمان والعقيدة، فالمسلم بطبعه يسعى إلى الشهادة في سبيل الله دفاعا عن دينه ووطنه، ليجد مكانه مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا، ويحرص على الشهادة حرص عدوه على الحياة. 2 التحضير الجيد لمسرح العمليات؛ فقد قامت المقاومة الاسلامية منذ سنة 2000 بانشاء الملاجئ للأفراد ومنصات الصواريخ والأسلحة الثقيلة بطول الجنوب وعرضه وشق انفاق للمواصلات والمناورة على عمق مناسب آخذة بعين الاعتبار وسائل التدمير المتطورة المتوفرة لدى العدو، كما أنشات مراكز محصنة للقيادات على مختلف المستويات ومخازن الاسلحة والمواد التموينية الكافية لمدة طويلة. 3 المعرفة الجيدة لنفسية العدو وقراءة نواياه بناء على التجارب السابقة، فهي تعلم يقينا أن إسرائيل تبيت لعدوان قد يحدث في أية لحظة اعتمادا على القوات الجوية، والقوات المدرعة (الدبابات والمشاة الميكانيكية) من أجل ذلك عمدت إلى تسليح المجاهدين بعدد كبير من الأسلحة المضادة للدبابات والطائرات المنخفضة وبالأخص المروحيات، وكانت هذه مفاجأة كبيرة للعدو، كما كانت قيادة المقاومة تدرك جيدا ضعف العمق الاستراتيجي، للكيان الصهيوني، وهشاشة مجتمعه الاستيطاني، ونتيجة لذلك وجهت ضربات موجعة جدا للمستوطنات الشمالية والمدن الوسطى بالصواريخ التكتيكية المتوسطة المدى (75 150كم) وراجمات الكاتيوشا بأنواعها ويعتقد وجود صواريخ يصل مداها إلى 200 كلم، وقد استعملت هذه الترسانة بشكل عقلاني وفعال. 4 التموية والخداع الاستراتيجي والتكتيكي: استطاعت المقاومة اللبنانية أن تموه أنشطتها المتعلقة بالتسليح وإعداد مسرح العمليات طيلة ست سنوات دون أن تسطيع اسرائيل المعروفة بمخابراتها القوية ووسائل استطلاعها المتطورة جدا أن تكتشف شيئا من ذلك، كما أنها لم تستطع اختراق تنظيم حزب الله وهي التي اخترقت كل النظم والمؤسسات العربية السياسية، والعسكرية والإقتصادية وحتى الإجتماعية. 5 كفاءة القيادة وثباتها: تتجلى كفاءة القيادة في فهمها لطبيعة المعركة قبل بدايتها والتخطيط الدقيق لكل جوانب الحرب السياسية والعسكرية والإعلامية وإدارتها وقراءة الموقفين الدولي والعربي بشكل سليم، لذلك كان الاعتماد كليا على الإمكانيات الذاتية للمقاومة والشعب اللبناني، أما ثبات القيادة فيتجلى في استمرار الاعمال القتالية بنفس الزخم بل أن وتيرتها تتصاعد من يوم للآخر وتزداد خسائر العدو تبعا لذلك دون أن يضطرب الإمداد أو يرتبك القادة الميدانيون مما يدل على انسياب الأوامر والتقارير بالاتجاهين بشكل جيد، كما أن الكلمات التي يوجهها قائد المقاومة الإسلامية السيد حسن نصر الله بمعدل مرة أو مرتين في الأسبوع كانت تثبيتا للمجاهدين وتقريرا للأمة بواقعية وموضوعية لم نعهدهما في الخطاب العربي سابقا، وهذا دليل على حرصه على مصداقية القيادة وإعلامها الحربي تماشيا مع شعار المعركة (الوعد الصادق) سير المعركة: بقدر ما كانت قيادة المقاومة ثابتة ومستقرة كان الارتباك والاضطراب هو السائد في أوساط القيادة الإسرائيلية السياسية والعسكرية على السواء وظهر ذلك جليا في أمرين: 1 تحديد الاهداف السياسية، والإستراتيجية من الحرب؛ فقد انخفض سقفها من تدمير حزب الله، وإحداث تغيير جذري في لبنان وفي المنطقة وتحرير الإسيرين إلى طرد المقاومة إلى ما وراء الليطاني وإبعاد صواريخه عن شمال الأرض المحتلة، ثم تقلصت الأهداف مرة أخرى إلى تكوين شريط أمني بعمق 6 8 كم والاحتفاظ به إلى حين وصول القوات الأممية لتنقص أخيرا إلى كيلومتر واحد، وتبعا لذلك تغيرت القرارات بخصوص العملية البرية واضطربت حبالها بين عملية محدودة إلى عملية موسعة إلى عملية شاملة لتنتهي أخيرا كل صورها إلى الفشل الذريع. 2 نوع وحجم القوات اللازمة لتحقيق الأهداف المطلوبة؛ فبينما كان الاعتماد في الأسبوع الأول على الضربات الجوية المكثقة ومدفعية الأسطول البحري ومدفعية الميدان والصواريخ التي اتخذت من المدن والقرى والبنى التحتية دون تمييز أهدافا رئيسية أملا في القضاء على الروح المعنوية للشعب اللبناني وإثارته ضد المقاومة، وكذلك تجنبا للخسائر البشرية، وعندما تبين للقيادة الإسرائيلية أن هذه الأسلحة رغم قوتها لا تحسم المعركة اضطرت إلى إدخال القوات البرية في المعركة بعد عشرة أيام من التردد بسبب الذعر الذي يصيب جنودها أمام مجاهدي حزب الله الذين تركوا فيهم صدمات نفسية لا تنسى. خصصت القيادة الإسرائيلية في البداية حوالي فرقتين تعملان على شكل كتائب مختلطة (دبابات ومشاة ميكانيكية) بغرض احتلال بعض النقاط الحاكمة داخل الأراضي اللبنانية بعمق 2 3 كم، والحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات الميدانية تمهيدا لزج وحدات أخرى في المعركة لاحتلال خط آخر بعمق أكبر وهكذا حتى الوصول إلى نهر الليطاني، ولكن هذه الوحدات فشلت في مهمتها ولم تستطع الوصول إلا إلى نقطتين أو ثلاث بعد معارك طاحنة استغرقت نحو أربعة أيام بلياليها ثم مالبثت أن انسحبت منها تحت ضربات المقاومة وتهاوت دبابات العدو كلعب الأطفال، وبالتالي انهار البنيان من اساسه. وتكررت المحاولات الإسرائيلية عدة مراة في محاور عديدة على مدى اسبوع تقريبا ولكنها لقيت المصير نفسه. في نهاية الأسبوع الثاني من القتال البري تأكدت القيادة العسكرية الاسرائيلية أن حجم القوات المدفوعة للقتال غير كاف، فقررت دفع ما يعادل فرقة أخرى لعل وعسى، ولكن الموقف الميداني أصبح أصعب وأخطر نظرا للخسائر الفادحة في الأفراد والدبابات، ورغم انزال القوات المحمولة جوا عدة مرات في حركات استعراضية إلا أن ذلك لم يجد نفعا، بل تحولت هذه الوحدات المعزولة إلى فريسة سهلة أمام أسود المقاومة، ولم يبق إذا أمام القيادة العسكرية الاسرائيلية التي زاد ارتباكها إلا لعب الورقة الأخيرة الباقية في جعبتها وهي دفع المزيد من القوات في المعركة مع توجيه ضربات جوية هستيرية بدافع الانتقام من المدنيين والإمعان في تدمير لبنان شعبا وأرضا. فمع فجر اليوم الثلاثين من بداية العدوان زجت القيادة الاسرئيلية بلواء إضافي في القطاع الشرقي مع انزال جوي بقوة بغرض الوصول باي ثمن إلى مجرى نهر الليطاني من أقرب طريق، وهنا حدثت الكارثة بالنسبة للجيش الإسرائيلي، حيث تمكنت المقاومة من قتل نحو ثلاثين عسكريا اسرائيليا، وإصابة أكثر من 120 آخرين بجروح، وتدمير 37 دبابة مير كافا ونحو 10 جرافات وآلية أخرى، لقد كانت المعركة البرية كارثة حقيقية للجيش الاسرائيلي ومجزرة في حق دبابات مير كافا المرعبة. ومن جهتها اعتمدت المقاومة استراتيجيا على مبدأين أساسيين: اختيار أسلوب الحرب الشعبية (حرب العصابات) نقل جزء من الحرب إلى عمق العدو لأول مرة لتكبيده أكبر الخسائر الممكنة ماديا، وبشريا ونفسيا بفضل المدفعية الصاروخية (الكاتيوشا) والصواريخ التكتيكية القصيرة المتوسطة المدى. تكتيكيا طبقت أسلوب استدراج العدو إلى الكمائن ومناطق القتل، والعمل بالمجموعات الصغيرة على أجنابه وخطوطه الخلفية مع الاستعمال الواسع للاسلحة المضادة للدبابات والاشتباك من مسافات قصيرة، وهذا ما أوقع خسائر فادحة في مدرعاته وأثار رعبا في أفراد مشاته. ومما زاد المقاومة تألقا في هذه المواجهة تلك المفأجاة التي احدثها استخدام صواريخ أرض / بحر والتي نتج عنها تدمير ثلاث قطع هي من أفضل ما تمتكله البحرية الاسرائيلة. نتائج المعركة: أفرزت هذه المعركة نتائج باهرة بالنسبة للمقاومة اللبنانية، لم يتوقعها الجانب الإسرائيلي إطلاقا؛ فزيادة على الهزيمة المعنوية والنفسية التي ستبقى آثارهما مدة طويلة سجلت الخسائر المادية والبشرية في الفترة من 12 / 7 إلى 7 / 8 / 2006 كما يلي: القتلى 343 الجرحى 617 الدبابات المدمرة كليا 118 دبابات لحقت بها اضرار كبيرة 46 آليات أخرى 96 الحوامات 5 طائرة مقاتلة ف 16 1، جاء ذلك في تقرير ديبلوماسي أمريكي ينسب المعلومات التي وردت فيه إلى تقرير القيادة العسكرية الاسرائيلية قدمته للحكومة، وإذا أضفنا إليه ما سجلناه نحن في الفترة من 8 / 8 إلى 13 / 8 وهي الفترة الأقسى على الجيش الاسرائيلس تصبح الأرقام النهائية كالتالي: القتلى 432 الجرحى 877، الدبابات 210 آليات أخرى 112 والباقي بدون تغيير، أما من جانب المقاومة فقد أعلن عن استشهاد 62 مجاهدا ونحو 1200 مدني أغلبهم من الأطفال، وجرح أكثر من 3500 مع تدمير شبه شامل للقرى والبلدات الحدودوية، والضاحية الجنوبية لبيروت، وإلحاق أضرار بالغة بالبنية التحتية اللبنانية، والمنشآت القاعدية والصناعية قد تصل في بعض المناطق إلى أكثر من 80٪ هذا هو النصر الوحيد الذي حققه الجيش الإسرائيلي في هذه الحرب. الدروس المستخلصة من الحرب: اثبتت هذه الحرب العدوانية على الشعب اللبناني جملة من المدروس والحقائق نوجزها فيما يلي: 1 إن السلام مع إسرائيل مع الضعف والتشرذم أمر مستحيل، كما أن الاعتماد الكلي على مجلس الأمن في استرجاع الحقوق ضرب من الأحلام، في ظل الهيمنة الأميريكية على مفاصل الأمم المتحدة. 2 إن المقاومة السياسية والمسلحة بأسلوب الحرب الشعبية (حرب العاصابات) هي السبيل الأنجع لمجابهة العدو المتفوق عسكريا وتكنولوجيا وأنه بالامكان هزيمة أي معتد مهما كانت قوته. 3 أحدثت هذه الحرب فرزا حقيقيا وليس تآمريا في الانظمة العربية وأبانت إلى أي حد انخرط بعضها في المشروع الأمريكي / الصهيوني، ومدى اتساع الهوة بين الشعوب وانظمتها. 4 سقوط المشروع الأمريكي للشرق الأوسط الجديد اسوة بسابقه (مشروع الشرق الأوسط الكبير)، واتسعت رقعة المقاومة بعد أن كانت في أفغانستان والعراق وفلسطين فقط. 5 أنه لو استخدمت كل الإمكانات العربية والإسلامية السياسية والاقتصادية لدعم المقاومة لكانت النتائج أفضل بكثير. وفي الأخير يمكن القول أن هذه الحرب قد أثبتت أن أمور التصدي والتحرير قد خرجت من أيدي الانظمة العربية الفاشلة والمتواطئة، وأصبحت في أيدي الشعوب وستتسع دائرة المقاومة لتشمل العالم العربي والاسلامي، ولن يقف في طريقها أحد بعد الآن.