الدرس الأكبر المستفاد من السقوط الحر للعالم العربي في أتون الفوضى الخلاقة التي يحمل لها الغرب الشعوب قاطبة جه من حطب، ووحل تهارش النخب على السلطة بلحم ودم الغلابة من الدهماء يبدأ بإعراب جملة العلاقات مع قوى الاستكبار الغربية بجواز كسر الفاعل منها، حتى تتحقق شروط رفع المفعول به في هذه الأمة. * لو أن الشعوب كانت تتعلم وتتفقه من محنها وإحنها، لكانت الشعوب العربية قد استوعبت عشرات الدروس التي لا تتجمع عادة للشعوب إلا عبر عقود من الزمن. الشهور الثمانية المنصرمة تواصل نهارها بليلها في ظاهرة صوتية عربية متواصلة غير مسبوقة، لا في تاريخ العالمين العربي والإسلامي، ولا في تاريخ الشعوب قاطبة. قطعة زمنية من التاريخ المركز بنسيج مشدود، ولحى سميك، قد نحتاج إلى تفكيكها لإدراك ما حصل، ونتعرف على من نصب المنسج، ومن سعى ذهابا وإيابا بخيوط النسيج، ومن خطط ورسم وزركش، وفتق ورتق تلك الخرقة الحمقاء التي أريد لشعوب العالم العربي أن تستر بها عورات قد هتكها الحكم الجائر، وسوءات فضحها غلو الأنظمة في استبداد غبي، يفتقر إلى فقه السياسة بالمطلق، وشراهة بهيمية للحكم عند نخب معارضة مسلحة بمعاول الهدم، ومشايخ قد حملوا فقه الدين كالحمار يحمل أسفارا، ودهماء قد يئست من رحمة الله، لتسقط في حبال الدجال حالها كحال الباحث عن حتفه بظلفه. * * التعقل بإعطاء الفرصة للعقل * قد يكون من المبكر محاولة استدراج شعوبنا إلى هدنة، أو حتى إلى استراحة مقاتل تلتقط فيها الأنفاس، ويسلط العقل على المشهد، بل على هذه المشاهد المتداخلة التي يستعصى فهمها حتى على المحللين المحايدين من خارج ساحات المواجهة. غير أنه ليس من المبكر على بعض العقلاء من النخب العربية، من الطرفين في قلاع السلطة المسلحة بخرسانة الإقصاء الشامل للشعوب، أو في أرخبيل المعارضات المستغرقة في أحلام اليقظة، ليس من المبكر عليهم أن يسعوا إلى استشراف مآلات ما يحدث، برصد موضوعي لما حدث، والتعرف على الفاعلين في اللعبة الكبرى التي يخضع لها العالم العربي دون استثناء، ويعالج ككتلة واحدة يراد تفكيكها، وإعادة ترتيبها وفق شهوة اللاعبين الكبار، وليس كما تشتهيه سفن الشعوب العربية التي فتحت جميع أشرعتها للرياح والأعاصير بلا ربان حذق يمسك بالدفة. * قد نحتاج قبل ذلك إلى تحرير بعض المسلمات التي لا يطعن فيها سوى معاند مكابر. * * أنف في السماء وأست في الوحل * الأولى: أن الأوضاع في العالم العربي كانت مع نهاية سنة 2010 قد تهاوت إلى الحضيض، وبلغت طبقة الطين هنا، والصخر الصلد هنالك، ولم يعد بإمكان المياه العفنة، التي تراكمت لعقود من زمن سيادة الاستبداد الأحمق الجاهل، لم يعد بإمكانها أن تطلب سبل التطهر بالأرض الطهور، فكان ذلك السخط الذي وجد طريقه إلى السطح في تلك الانفجارات المتعاقبة، وكان يفترض أن يسارع العقلاء في السلطة كما في المعارضة إلى البحث عن الفرص المتاحة لإحداث التغيير، وإنجاز الإصلاحات التي كان يحتاجها العالم العربي. ولأننا لم نفعل، بل لم ننتبه أصلا إلى حاجة العالم العربي إلى الإصلاح والتغيير بالطرق السلمية، فإن غيرنا قد رصد مبكرا الحالة، وسعى إلى التفجير الحر بدل انتظار التغيير السلس الآمن. * الثانية: أن الأنظمة التي خرجت من رحم الاستبداد، ونشأت في أحضانه، واستخفت بشعوبها، وغرها ذلك الدعم الغربي المأجور بأموال الأمة وثرواتها، لم تستعد إطلاقا لهذه المواجهة المفتوحة مع شعوبها، وراهنت على فرضية حمقاء مفادها: أنه ما دامت تخدم بأمانة وتفاني مصالح الأقوياء، فإن قوى الاستكبار لن تفرط فيها ولن تخذلها. * الثالثة: أن القوى السياسية المعارضة التي يئست من إمكانية الوصول إلى السلطة عبر النضال السياسي السلمي، وتفكيك منظومة الاستبداد بالوسائل التقليدية مع مرور الزمن، قد انتقلت بمعظم أطيافها إلى خيار الاستقواء بالدعم الأجنبي السياسي والعسكري، تماما كما كانت تفعل الأنظمة المتهمة بالعمالة والخضوع لإملاءات الغرب. * * من غزو الأوطان إلى استعمار دار السلطان * الرابعة: إن الغرب الذي بقي لعقود من الزمن يستبعد مجرد التفكير في رؤية بعض القوى الإسلامية تشارك في السلطة، قد استفاد من تجربة أفغانستان والعراق، واستعانته حصرا بقوى إسلامية من السنة والشيعة، واكتشف أن ما كانت ترفضه بعض الأنظمة الأكثر قربا منه وولاء له، فإن قوى المعارضة لا تمانع في منحه بالمجان، وحتى قبل أن تمسك بزمام السلطة، سواء في ملف النزاع العربي الصهيوني، أو في ملفات السيادة على الإقليم والثروات، وما يتطلبه الاندماج في منظومة العولمة من استحقاقات. * الخامسة: إن الغرب الذي خبر الأنظمة، والنخب والشعوب العربية، وقد رضيت جميعها في بحر عقد من الزمن بسقوط بغداد، وإهانة الكرامة العربية في معتقلات أبو غريب وغوانتنامو، ورضيت بموقف المتفرج على العبث الصهيوني في لبنان وغزة، وسلمت بتقسيم السودان، إن الغرب بات يراهن اليوم على ما هو أبعد من الاحتلال المباشر المكلف، ويتطلع إلى وضع اليد بالكامل على العالم العربي عبر الأنظمة الضعيفة التي سوف تنتجها ثورات يشترك فيها الحابل والنابل، وديمقراطيات برلمانية هزيلة تتقاتل داخلها عشرات الأحزاب بمرجعيات على طرفي نقيض. * * دروس التاريخ في رفع المفعول به * هذه المسلمات الخمس التي لا تحتاج إلى جهد ذهني كبير للتوافق عليها كحقائق، يدعمها الكثير من الشواهد على الأرض، سوف تساعدنا على استخلاص جملة من الدروس التي نحتاج إلى استيعابها لفهم ما حدث ويحدث، واستشراف بعض المآلات التي بدأت تتضح معالمها، بعضها له صلة بمسؤولياتنا الجماعية كشعوب ونخب وحكام في ما حصل من هدر لفرص كثيرة أتيحت لنا للدخول في لعبة الأمم من موقع القوة، كأمة لها كل ما تحتاجه من مقومات بشرية ومادية، وجيواستراتيجية، لتكون فاعلا لا مفعولا به، والبعض الآخر له صلة بفشلنا في إدارة الصراع الحقيقي والمستدام مع قوى الاستكبار الغربية، وقصورنا المريع في تحديد مصالحنا، والتعرف في كل زمن على الصديق والعدو، والحليف والمناوئ، وأخيرا انسياقنا الأعمى إلى التعامل بسذاجة، يغذيها خمول ذهني متأصل، مع مؤسسات ما يسمى بالشرعية الدولية. * * الثابت والمتغير في عداوة الغرب المستدامة * جملة هذه الدروس تحتاج إلى تفصيل أكثر، حتى وإن كان المواطن العربي على إلمام بها، وهي حاضرة في ذهنه حين لا تعمي الأهواء والأساطير بصيرته. وحتى لا نخرج عن سياق الأحداث القريبة منا، فإني سأتوقف عند واحد من الدروس المتكررة التي سرعان ما تنساها الذاكرة الجمعية للشعوب العربية، وأعني تحديدا قصورنا المريع في تمييز العدو من الصديق. * لقد خُدعنا، وخدعنا أنفسنا بتلك المقولة التي يرددها المفكرون والمحللون السياسيون، على أنه: "لا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة، بل مصالح دائمة" سمحت للبعض من حكامنا ونخبنا التسويق لمسارات حمقاء بلا أفق، مثل الرهان على إمكانية فتح حوار حضارات مع الغرب المسيحي، أو التعويل على صداقة ممكنة مع الولاياتالمتحدة، أو الانخداع بما كان يسمى بالسياسة العربية الديغولية لفرنسا، أو حتى التعويل على الرأي العام الشعبي الغربي، الذي كثيرا ما خدعنا ببعض مظاهر الرفض لسياسات حكوماته، ليفاجئنا بتجديد الثقة لنفس الزمرة من القتلة ومجرمي الحرب. * * إجماع "ديمقراطي'' على سحق العربي * الدرس الأخير في هذا السياق جاءنا هذه المرة من الجمعية الوطنية الفرنسية، التي صوتت بإجماع واسع لم يستثن منه سوى الحزب الشيوعي الفرنسي، منح الرئيس الفرنسي ساركوزي صكا على بياض لمواصلة العدوان على الشعب الليبي، بما يعني أن العدوان على الشعب الليبي لم يكن مجرد نزوة عابرة لرئيس فرنسي، عرف طوال عهدته الأولى بعداء بيّن للعالم العربي، ومواقف مؤيدة للكيان الصهيوني، بل كان قرارا يحصى بإجماع ممثلي الشعب الفرنسي من اليمين واليسار، تماما كما تناوب اليمين واليسار الفرنسي على إبادة الشعب الجزائري، وكما يتداول العمال والمحافظون في بريطانيا على استعداء العرب والمسلمين، ويتداول الجمهوريون والديمقراط في الولاياتالمتحدة على إدارة سياسة واحدة قوامها العداء المطلق للشعوب العربية. * * إبطال زواج متعة العرب مع الغرب * في مقالة سابقة لاندلاع أحداث ما سمي بالربيع العربي، كنت قد دعوت إلى عقد تسوية تاريخية بين الشعوب والحكام العرب، ورأيت وقتها أن من أهم شروط التسوية، أن تلتزم الأنظمة، أيا كانت، ومهما كان حجم استبدادها وفسادها، أن تلتزم بحماية مصالحنا ومقدراتنا من هذا الافتراس الغربي المستدام، على اعتبار أن استبداد الأنظمة العربية، مع كل ما ارتكبت في ظله من مظالم واستهتار بالحقوق، فإنه لم يخلف في جسم الأمة ما خلفته سبع سنوات من الاحتلال الأمريكي للعراق، وأن الخراب المادي الذي ينسب بحق للحكام المفسدين، على امتداد العقود الست الماضية، لا يعادل الخراب والدمار الذي تسبب فيه الاستقواء بالقوات الأمريكية وحلف الناتو في العراق وليبيا في شهور قليلة، وأن المعركة من أجل تفكيك منظومتي الاستبداد والفساد سوف تكون حتما معركة قاصرة، حتى حين تنجح في ترحيل بعض رموز النظام كما حصل في مصر وتونس، ما لم تجعل على رأس أولوياتها واجب الاستنفار المتواصل لدفع العدوان الغربي الدائم على أمتنا، والحد من شراهته التي لا تعرف حدودا لافتراس ثرواتنا، فضلا عن أطماعه الاستراتيجية في تفكيك المفكك وتقسيم المقسم، وتغيير مقومات هويتنا. * * دوام السلامة في معرفة العدو الدائم * أنا أعلم مثل غيري أننا نعيش في عالم مفتوح، تتحكم فيه قوى جبارة، وتتداخل فيه المصالح بقدر يستحيل معه العيش خلف جدار مثل جدار برلين، ولا أمانع أن ندخل مع الغرب في شراكة قوامها التبادل العادل للمصالح، شريطة أن نحرص لعقود قادمة، وربما لأكثر من ذلك، على اعتباره عدوا استراتيجيا لأمتنا، مستعدا للفتك بنا متى وجدت السبل إلى ذلك كما يفعل الآن مع الشقيقة ليبيا. * في اعتقادي هذا أهم درس ينبغي أن نستخلصه، ونستوعبه، ونتوافق عليه، كيفما كانت صيغ الحكم التي نتوصل إليها بالطرق السلمية، أو حتى عبر الثورات حين تنسد سبل التغيير السلمي، لأني أرى في التوصل إلى إلزام حكوماتنا ومؤسسات دولنا بالتعامل مع الغرب وقوى الاستكبار فيه كعدو دائم ينبغي الحذر منه، واحد من أفضل الضمانات لتفكيك الاستبداد القائم، ومنع عودته إلى الساحات التي طرد منها أو على الأقل أضعف فيها. * * أحكام التجارة بين الشعوب والحكام * قناعتي أنه كلما اجتهدنا في إبعاد حكوماتنا عن معاشرة قوى الاستكبار الغربية، وألزمناها بمبدأ العداوة الدائمة لها، نكون قد ألزمناها بالاحتماء بشعوبها من غضب قوى الاستكبار، حين يحلو لقوى الاستكبار أن تقول لفلان من الزعماء ارحل، ولعلان من الحكام لقد فقدت الشرعية وعليك أن تتنحى. فالحكومات لا تستبد ضد شعوبها إلا عندما لا تكون بحاجة إلى شعوبها، ولا ترى في قمعه والاستهتار به أي تهديد لمصالحها، فلنجعلها على الدوام بحاجة إلى شعبها، لأن العلاقة بين الشعوب والحكام لا تحكمها المبادئ ولا الأخلاق، ولا تلك الأساطير التي تسوق لنا حول التفاني في خدمة المواطنين، بل هي أكثر العلاقات البشرية التي لا تقوم سوى على المصالح.