نحن، أبناءَ الشعب الذي امْتُحِن بالاحتلال، واكتوى بنيرانه، في شكله العنصري، المتوحش.. نحن أبناءَ الجيل الذي أدرك الاستعمارَ في سنوات عمره الأخيرة، واتضحت معالم وعيه الوطني، وعلامات شعوره القومي مع بزوغ فجر الاستقلال... نحن الذين شاهدنا كيف كان وجود الغاصب كلُّه كارثة تاريخية عظمى؛ إذ رافقت المأساة كلَّ مرحلة من مراحله؛ واقترن دخولُه إلى وطننا، وخروجُه منه، بمشاهد التقتيل والتدمير والترهيب والتخريب... ولم يغادره إلا بعد أن غطَّى كلَّ شبر من أرضه بالجثث والجماجم والأشلاء، وروى كل بقعة من أديمه بدماء الشهداء والمجاهدين... نحن الشاهدين الأحياءَ على مأساة وطننا، مع البقية الباقية من المجاهدين الذين حملوا أمانة تحرير الوطن، و"ما بدلوا تبديلا"... ما كان يخطر ببال أحد منهم، ولا منا، أننا بعد أقلَّ من خمسين سنة سنجد نفوسنا، شأننا في ذلك شأن الأجيال الشابة نفسها، أمام بدائل مرعبة، حائرين أمام طرفي إشكالية مستحيلة، الاحتلال الأجنبي، أو الاستبداد الوطني؟ وكأنما هو القدَرُ المحتوم لتلك الأجيال، وقَدَرُنا معهم، أنه لابد لنا ولهم، من القبول بأحدهما! وكلاهما مُرعب، وكلاهما لا يُحْتمل ولا يُطاق! فمن المسؤول، يا تُرى، عن هذه الصيرورة المحزنة التي يصبح فيها حكم المستبد المتسلط الوطني في كفة من الميزان؛ وفي الكفة الأخرى المقابلة لها، وحشُ الاحتلال الأجنبي الرابض، المتربص، بخبثه المعهود، وسجله الحافل بالجرائم والمؤامرات؟ * * لقد عرفنا في بلادنا، منذ مطالع استقلالنا الوطني، ضروبا من الثنائيات وأطروحات البدائل العجيبة التي أقْحِمَت في الحياة الفكرية والثقافية، وفُرضت عليها فرضا، وهي بَعْدُ في المَهْد صَبيّة! وكانت بعض عواقبها وخيمة على سلامة المجتمع، وعلى نسيج وحدته الوطنية. وقد جرت العادة بالنظر إليها باعتبارها خِصاما داخليا بين مكونات نخبة وطنية متنوعة المنازع والمشارب. وإن كان الكثيرون يرون فيها امتدادا لأطماع خارجية يبغي أصحابُها استمرار هيمنتهم الفكرية واللغوية، وبالتالي الاقتصادية والسياسية، على البلاد وشعبها. ولكنْ، للتوسّع في الحديث عن ذلك كله مناسبة أخرى قد تتيح لنا تناولَه بشكل أشمل وأعمق. وإنما نريد اليوم حصر حديث هذا الأسبوع في البدائل المُرْعبة التي اخترناها عنوانا لهذه الأسطر، إما خلود الاستبداد بالعنف والتوريث، وإما عودة المحتل الأجنبي في صورة جديدة! فكيف صار الأمر إلى هذه الوضعية التي لم تكن تخطر على بال؟ ومَن المسؤول عن هذا التطور الكارثي لربيع عربي كانت مطالعه المُزهِرة، وآفاقه المنوِّرة، تُبَشِرُ بمستقبل وَرْدِي؟ * * لا نظن أن أحدا من العرب، (أو من غيرهم)، في حاجة إلى تطويل في الشروح، أو إسهاب في التحليلات، ليدرك أن هذه الرقعة الجغرافية المترامية التي ننتمي إليها هي مَوْضوعة، مِن قوى الهيمنة العالمية، تحت المجهر بصفة دائمة، لأهميتها القصوى من جميع النواحي، ولاسيما الاقتصادية والسياسية والإستراتيجية، في حالَيْ الحرب والسلام. وهي لذلك تُخْضِعُها (تلك القوى) لرقابة دقيقة ومستمرة، بالوسائل البشرية والتكنولوجية، لكي لا يحدث فيها أي شيء خارج إرادتها يمكن أن يعرّض للخطر أيًّا من مصالحها الحيوية، أو يهدد بشكل من الأشكال حلفاءها في المنطقة، ونَخُصُّ منهم الكيان الإسرائيلي أولا، بالأسبقية والأفضلية؛ ثم باقي أتباعها التقليديين من حكام العرب الذين يمثل وجودُهم، وبقاؤهم، واستقرارُ بلدانهم، أكبرَ ضامن للمحافظة على تلك المصالح. ويلعب البعض منهم دور الحارس اليقظ، الأمين، لتلك المصالح، ولا يتردد في إلحاق أنواع الأذى بأشقائه وحتى بشعبه، وارتكاب ضروب من الآثام لصيانتها! * * ثم حدثت المفاجأة في قُطْر عربي مجاور ما كان أحد ينتظر أن تكون فيه فاتحة الثورات العربية، لشدة ما كانت تمارسه الأجهزة الأمنية فيه من أساليب القمع والإرهاب لكل بادرة تلوح بمجرد التفكير في محاولة خلخلة ذلك الكابوس الجاثم، منذ عقود، على الأعناق، الكاتم للأنفاس. وسقط نظام الفساد والاستبداد في تونس. وما هي إلا أسابيع قليلة حتى اندلعت الثورة الشعبية في مصر، وسقط فيها نظام الفساد والخيانة، وانتصر الشعب على أجهزة لا تقل قدرة على القمع والإرهاب، من أخواتها التونسيات. فعمَّتْ أعراسُ الفرحة والسعادة أرض الكنانة وسائر الأرجاء العربية. * * وكان الذي أدهش المراقبين لهذه التطورات المتسارعة في المنطقة العربية، ذلك الغيابُ الملحوظ لأي ردِّ فعٍل من قوى الهيمنة الغرْبية في الميدان، يكون من القوة والسرعة بحيث يعَدِّلُ، نوعا ما، الميزان الذي اختلَّ بميله الراجح لصالح الشعب في القطرين، تونس فمصر. وإذا كانت المفاجأة تامة في تونس، حتى إن هذه القوى لم تجد من سبيلٍ لتدارك خطر الانهيار التام لتلك المصالح إلا بتسريع هروب الهارب، وتولية الجيش مقاليد الأمور لتهدئة العاصفة الثائرة، ومحاولة استيعاب ما أمكن من تداعياتها المرتقبة.. فإنها في مصر اضْطُرّت إلى التظاهر بتبني مطالب الثوار، فظلت * * في مسرحية غير متقنة الإخراج، تكرر مناشداتها لرأس السلطة الحاكمة بالتنحّي الفوري، بينما أقبلت على عجل تُرتّب في الخفاء استمرارَ النظام عن طريق تنصيب خَلَفِه المُهَيَّإ لهذه المهمة منذ مدة. ولكن الشعب قضى على المحاولة في مهدها، فكان لا بد من اللجوء، حينئذ إلى الجيش مرة أخرى ليقوم بالمهمة المزدوجة التي أوكلت إلى شقيقه في تونس، ريثما تلتَقِط قوى الهيمنة أنفاسَها، ويتكشَّف لها ما الذي يمكن أن تؤول إليه الأمور، فلعلها تخرج من أزمتها بأقل الخسائر.. * * ثم انفجر البركان الليبي، في "جماهيرية العقيد". ولم تكن مطالب الثائرين في البداية، كشأنها لدى أشقائهم في تونس ومصر، تخرج عن الرغبة في تخفيف وطأة الاستبداد المطلق المسلط عليهم، وفتح نافذةٍ ما لدخول قدر من نسائم الحرية؛ والكَفِّ عن تسيير البلد كما لو كان مزرعة عائلية.. ولكن رد فعل "القائد العميد" وأبنائه كان من الإفراط في العنف، والشدة في القصف، والقساوسة في العقاب، والبذاءة في الشتم.. بحيث لم يملك المتعاطفون الصادقون مع الثائرين، من العرب وغيرهم، إلا الخوف الشديد على المصير المحتوم الذي كان في انتظارهم وأسَرهم، بمن فيها مِن الأطفال والنساء، ولا سيما حين أخذ ذلك القائد، بكامل عدته الحربية، وآلياته الثقيلة، يزحف نحو مدينة بنغازي التي تجمَّع فيها معظم مَن تَجَرّأ على تَحدِّي سلطة العقيد المستبد.. * * في هذه المرة لم يُؤخذ الغرب على غِرَّة! ولم تفاجئه الأحداث. ولم يرتجل معالجتها، لأن مصالح استخباراته كانت قد أعَدَّت له قائمة مدروسة بأحوال البلدان المرشحة لاندلاع الثورات الشعبية فيها، وإن أكَّدت، في السياق نفسه، على أن بذور التمرد والعصيان على الأنظمة العربية كلها موجودة بقدر يكاد يكون متساويا في كل واحد منها. وكانت ليبيا على رأس تلك القائمة. فاستعدّت لها فرنسا التي ظهرت فجأة بمظهر المشفق الرحيم على الليبيين، وأسفرت الاتصالات الكثيفة بين الثنائي الفرنسي البريطاني عن خطة ما سُمِّي "حماية المدنيين"، بعد الحصول على الموافقة الضرورية من الشقيق الأكبر في أمريكا، فهو راعي كل "المهمات الإنسانية" التي هي من هذا النوع. وهو وحده القادر على توفير النصر الدبلوماسي في مجلس "الأمن" (!)، حيث استطاع الإصرار الغربي أن يورّط روسيا، فيَجرَّها إلى التصديق على قرار من ذلك المجلس تمت صياغته بكل عناية وخبث ليَظهر أصحابُه في براءة الخروف الوديع الذي لا يرمي إلى أكثر من منع طيران العقيد الهائج من إبادة القسم الأكبر من شعبه... * * وكان ما كان مما هو معروف النهاية، مجهول العواقب المستورة إلى حد الآن. ولعل أخطر ما كان في الأمر هذه المرة هو أنه لم يكن كما جرت العادة في أجواء المواقف العربية ذات السلبية المعتادة، والعجز الأسطوري لجامعتهم المُحنَّطة، والتواطؤ المألوف، ولكن في الخفاء، من "عرب أمريكا" كما كان يسميهم بومدين.. بل لقد تم، هذه المرة، بمشاركة صريحة، ووجه مكشوف، وإدراج تام ل"فعالياتهم" ضمن مخطط الحلف الأطلسي.. وفي سوريا الآن ورشة أخرى مفتوحة يستمر فيها عرضُ الفعاليات العربية بعزيمة لا تعرف الفتور. في سوريا نكبة أمة. ومأساة شعب. وغباوة نظام لم يحسن التعامل النزيه مع مطالب شعبه، ولا الإصغاء إلى نداءات طليعة من المواطنين المخلصين ما فتئوا، منذ مدة ليست بالقصيرة، يدعون نظام بلدهم، بإلحاح إلى إجراء إصلاحات حقيقية تمكن المواطنين من المشاركة الفعلية في تسيير شؤون البلد، وتتيح التناوب على مناصب القيادة فيه على أساس الديمقراطية والشفافية... ولكنها كانت صرخاتٍ في واد. واليوم في سورية... في سورية اليوم يُصْلبُ ضمير العرب على خشبتين؛ أما أولاهما فقد أعدَّها النظام السوري بغفلته التي يقاسمه إياها كل نظرائه في هذا الوطن العربي المنكوب بهم، وبإعراضه الإجرامي عن الاستجابة لصوت العقل قبل فوات الأوان، وهو يرى آلة التدمير الشامل تُنْصَب على قدَمٍ وساق في ساحات بلدٍ له في قلوب العرب منزلة فريدة. وأما خشبة الصليب الثانية فهي مستمدة من جذع نخلة في واحة عربية، يحملها ذو عِقال إلى متعهد دولي خبير، له تاريخ، طويل، دامٍ، في دق المسامير، وشنق الأحرار، وصلب الشعوب، وتدمير الأوطان... يقدم اليوم للسُّذج من قومنا، وبعض نخبنا، في ثوب المُنْقِض والمخلِّص !! * * أيُّ وطنيٍّ حُر؟ أي قومٍِيّ أصيل؟ أي إنسان عاقل يستطيع أن يَحْسم اليوم خياره، هادِئَ البال، مرتاحَ الضمير، بين قيادة مرتبكة، في نظام يفقد كل يوم مزيدا من توازنه، يصرخ بمِلِْء فيهِ وأفواه إعلامه الفاقد للصدقية، منذ ما قبل اندلاع الثورة، يصرخ بما لا يستطيع أحدٌ إنكارَه، بأنه يتعرض لمؤامرة متعددة الأطراف، أمريكية صهيونية أوربية، سارت في ركابها حكام الدول الخليجية الذين وفروا لها غطاء جامعة العرب، وسار معظم الآخرين في موكبهم خوفا، أو طمعا، أو عجزا، وربما الثلاثة معا في بعض الحالات...قلنا من يستطيع الحسمَ مطمئنا بين هذا الواقع، وواقع قِسْم لا يستهان به من الشعب السوري يُقدِّم المواطنون والمواطنات فيه صدورَهم العارية للعنف الأمني، والوحشية المسلحة في أبشع صورهما، وهم ينادون بسقوط نظام لم يستطع أن يميز بين تظاهرة عابرة يمكن إخمادُها بالآلة البوليسية في يوم أو أيام؛ وبين ثورة شعب مصمِّم على عدم العودة إلى خانة الطاعة والرضوخ، كيفما كانت التضحيات، وبالغا ما بلغت فيها درجة العذاب والمعاناة... * * لن تكون سورية الأخيرة، كما أنها لم تكن الأولى. فإن بقية ما يسمَّى عند العرب بالجمهوريات على القائمة، الواحدة بعد الأخرى.. أما الملكيات والإمارات فقد استكملت رَصَّ صفوفها في جبهة واحدة موحَّدة بعد أن اتسع مجلس تنسيقها الخليجي للملكيَّتين اللتين كانتا خارجه، الأردن والمغرب! والمواقف الأخيرة في الجامعة العربية تُغْني عن كل تعليق. وهنيئا للعرب ديمقراطياتُهم القادمة، وثوراتهم المبرمجة، والناشرون الجُددُ لها من أصحاب الجلالة والسمو... فمن أين نأتي، يا إلهي، بالقدرة التي تُيَسّر لنا إقناع الغافلين والمتغافلين من بقية حكامنا بأن الدَّوْر القادم عليهم، وعلى بلدانهم إن لم يستفيقوا من أوهامهم الجنونية بأن بلدانهم مختلفة، وأن ما وقع في الأقطار الأخرى لن يقع عندهم، لأنه كذا وكذا من المبررات الواهية، والتفسيرات المضحكة، لولا أنها قد تنقلب حسرة ودموعا ودماءً و..ندامة تأكل الضلوعَ نارُها حين لاينفع النَّدَم! * * وفي جزائرنا التي عرفت كل المِحَن! أفما آنَ أوانُ تَرْك التردد، وتطليق المناهج البيروقراطية البالية، والتكتيكات الهزيلة لربح الوقت؟... ومباشرة إصلاحات جدية، عبر هيأة وطنية كاملة المصداقية، ممثلة لكل القوى الفاعلة في البلاد، لرسم خارطة طريق تؤدي إلى تجسيد انتقال سلمي، خلال مراحل واضحة، ورُزْنامة دقيقة، تُفْضي بشعبنا إلى العيش في نظام مدني، ديمقراطي، جمهوري، عادل، يتصدى بكل حزم لحل المشاكل الحقيقية، وتسخير خيرات البلاد لتحقيق تنمية وطنية جديرة بتضحيات الأمة. * madrasala@hotmail.com