في شهر نوفمبر من عام 1922 اتخذ "مصطفى كمال أتاتورك"، زعيم تركيا الصاعد نجمه، إثر الحرب العالمية الأولى، قرارا بالغ الجِدّة في واقع الخلافة العثمانية المُستقرّة في بلاد الأناضول منذ قرون عديدة. وقد قضى ذلك القرار بتجريد الخليفة العثماني من كل مضامين "السّلطة" التي كان يمارسها، مما يعني أنّه قد انتزع منها كلّ صلاحياتها السابقة في حكم البلاد، والتصرّف في كافة شؤون الدولة. وبذلك صارت مجرّد "مؤسسة رمزية" تُعْنى بالشّؤون الخاصة بالدّيانة الإسلامية. ولم يكن هذا القرار إلاّ إجراءً مرحليّا أتاح للحاكم الجديد أن يُهيّئ النفوس للقرار القادم الذي كان هو المقصود منذ بدْء استيلاء أتاتورك وأنصاره على السلطة. * وبالفعل، فقد صدر قانون 13 مارس عام 1924 الذي ألغى الخلافة نهائيا، وأعلن، في بلاد الترك "نظام الجمهورية ذا الطبيعة الّلائيكية". ومنذ هذا التاريخ قفزت "مسألة الخلافة" إلى مكان الصَّدارة في قائمة الاهتمامات الإسلامية، وأصبحت موضوعاً لأنواع من النقاش والمساجلات. وقد صدق الشيخ رشيد رضا حين قال في كتابه المسمّى "الخلافة أو الإمامة العظمى"، "إن مسألة الخلافة كان مسكوتا عنها، فجعلها الانقلاب التركي الجديد أهمَّ المسائل التي يبحثون فيها". وفي أعقاب ما شهدته بعضُ أقطار الوطن العربي من تطورات ربيعية، وما استجد فيها، نتيجة لذلك من أوضاع، عادت قضية الخلافة الإسلامية تطفو على السطح من جديد، سواء بالإيماء من بعيد إلى عهود الحكم الإسلامي الأولى، أو بالدعوة الصريحة إلى بعث الخلافة في شكل معاصر لتكون أداة للحكم... ولذلك بدا لنا أنه ربما كان من النافع أن نذكر بأن هذا الموضوع ليس جديدا كما قد يبدو للبعض وأنه قد أسال حبرا كثيرا، وأثار نقاشا كبيرا منذ ما يقرب من تسعين سنة. وبقي النقاش حاميا ووصل إلى الجزائر التي كان كثير من علمائها وأدبائها وأعلام النضال الوطني فيها يتابعون كل ما يستثير النقاش، وما يُطرح من قضايا الفكر والثقافة في المشرق العربي، خلافا لما قد يُظن، وذلك على الرغم من الحصار الذي كانت تضربه سلطات الاستعمار على الجزائر بخاصة، وعلى أقطار المغرب العربي بوجه عام، لإحكام عزل الجميع عن امتدادهم الحضاري الطبيعي منذ مئات السنين؛ ولكي لا يتسرب إليهم شيء من الحركة الثقافية والفكرية الناشطة هنالك، منذ انطلاق النهضة العربية.. كان الشيخ عبد الحميد بن باديس، في هذه الفترة من الزمن، يمثل في الجزائر، ورُبما في المغرب العربي قاطبة، ضمير العروبة والإسلام الحيّ، المتحفِّز، الذي لا يترك أمرا يتصل بهما، من قريب أو من بعيد، دون أن يُدلي فيه بدلوه، ويعبّر فيه عن رأيه. فكيف إذا كان الأمر يتعلق برمز إسلامي في حجم "الخلافة" نفسها، وما يدور حول إشكاليتها من صراع!
إشكالية موضوع "الخلافة" نشر الشيخ ابن باديس، في عدد شهر مايو من عام 1938، في مجلته الشهيرة المُسمّاة "الِشّهاب"، مقالا لافتا للانتباه، جعل عنوانه في شكل تساؤل مثير هو: "الخلافة أم جماعة المسلمين؟". فما هي عناصر الإشكالية المطروحة في هذه القضية؟ وما هو الحلّ الذي توصّل إليه الشيخ ابن باديس للبسط القول في هذا التساؤل الكبير الذي طرحه؟.. والذي بدا لنا، من تحليل مقالته السالفة الذكر، أنه قد اهتدى إلى ثلاثة عناصر في الإشكالية. وقد أبرزها وخصّ كلَّ واحد منها بوقفة تحليلية. - العنصر الأول، يتعلّق بما يمكن أن نُسمّيه "الطابع الوقتي" للخلافة الإسلامية. فهو يرى أنها لم تحتفظ طويلا بكل مُقوماتها؛ لا من حيث صلاحيّاتُها الوظيفية، ولا من حيث امتدادُها الزماني والمكاني. فهي منصب لم يَتَوَلَّه شخص واحد، بجميع صلاحيّاته، إلاّ في ما سماه فترة "صدر الإسلام وزمٍن بعده". على أنّه حتى في هذه الفترة نفسها لم يسلم من "فُرقة واضطراب" كما يقول. - العنصر الثاني، يتعلق بصفة "التعددية" في منصب الخلافة. ويُعبّر الشيخ ابن باديس عن ذلك بقوله: "(لقد) قضت الضرورة بتعدّده في الشرق والغرب". ومعنى ذلك أنه فقدَ صفة أساسية من صفاته، وهي أن يكون كما كان في الأصل واحدا مُوَحِّدا. ومن المعلوم أنه كان، في وقت من الأوقات، ثلاثة خلفاء في أرض الإسلام: الخليفة العبّاسي في بغداد، والخليفة الأمويّ في قرطبة، والخليفة الفاطمي في القاهرة! - العنصر الثالث، وهو تحصيل للعنصرين السابقين، ومُؤدّاه أنّه إذا كانت الخلافة قد فقدتْ طابع الديمومة لكل مُقوّماتها الأصلية، ثم فقدت طابع الشمولية لتغطية كل الرقعة الإسلامية، كما يدلّ على ذلك لقب "أمير المؤمنين"، الذي هو اللقب الخاص بمن يتولى قيادة جميع المسلمين، فإن منصبها في نظر الشيخ الإمام، قد "انسلخ عن معناه الأصلي، وبقي رسمًا ظاهريًّا تقديسيا، ليس من أوضاع الإسلام في شيء". وخلاصة هذه الإشكالية، من خلال عناصرها المتقدّمة، وكما لخصناها بألفاظ الشيخ، هي أن الأُمّة الإسلامية لم تخسر شيئًا بإلغائها في نظره. وفي ذلك يقول: "ويوم ألغى الأتراك الخلافة ولسنا نُبرّر كلّ أعمالهم لم يُلغُوا الخلافة الإسلامية بمعناها الإسلامي، وإنّما ألغَوْا نظاما حكوميا خاصّا بهم، وأزالوا رمزا خياليّا فُتِنَ به المسلمون لغير جدوى". ويُضيف، في معرض التهْوين من حادثة الإلغاء هذه، إنّ الدُّول الغربيّة المُستعمِرة نفسها، حاولت أن تستغلّ الوضع بفرض نُفوذها في هذه القضية، عندما تبيّن لها مقدارُ افْتِتان المسلمين بها. وهكذا، بعد طرح الإشكالية بكل عناصرها، واستخلاص الدروس الهامة منها، يصل الشيخ ابن باديس إلى استعراض المواقف الصادرة عن نُخَب المُجتمع الإسلامي إزاء القضية. وهو يُجْمِلُها في موقفين اثنين يورد كل واحد منهما مُعلّقا عليه في الوقت ذاته. الموقف الأوّل: هو ذلك المتمثل في اندفاع فئات من نُخب المسلمين إلى التشبّث برمز الخلافة. وهو يُبدي عجبه الكبير من تهافُتهم في البحث عن الكيفية التي تمكنهم من الاهتداء إلى أسلوب يُعيدون به بَعْثَ الخلافة بعد إزالتها في تركيا "الكمالية". وهو لا ينسى أن يُلاحظ أنّ الصّحف في الشرق والغرب، ولاسيما صحف الانكليز، تُتابع هذا الموضوع باهتمام شديد. الموقف الثاني: هو ذاك الصادر عن الناس في مصر، وفي مُقدّمتهم مؤسّسة الأزهر التي يُولي عُلماؤها موضوع "الخلافة" عناية فائقة، ويعملون على بعثها في ديارهم، وتَوْلِيَة مَلِكِهم أمرَها. ويُبدي ابن باديس شديد العجب من ذلك لأنه لا يفهم كيف يمكن أن يستقيم هذا السعي مع واقع مصر آنئذ. وفي ذلك يقول: "يتحدّثون في مصر، وفي الأزهر، عن الخلافة كأنهم لا يرون المعاقل الانكليزية الضاربة في ديارهم، ولا يشاهدون دُور الخمور والفجور المُعتَرف بها في قانونهم".
ابن باديس يهوّن من آثار انهيار الخلافة العثمانية وبعد خطوات الدرس والتحليل هذه، يصل الشيخ الإمام إلى الإعراب عن موقفه الحازم، الصريح، الذي يُبديه في شكل صرخة استنكار وإدانة لِما يراه عبثا لا طائل من ورائه، فيقول: "كفى غرورا وانخداعًا! إن الأُمم الإسلامية اليوم، حتى المُسْتعْبَدة منها، (يقصد الواقعة تحت الاحتلال)، أصبحت لا تخدعها هذه التهاويل ولو جاءتها من تحت الجُبَب والعمائم"..! أجل، حتى من كانوا في منزلة التبجيل والتوقير من علماء الدين الإسلامي، وحتى المُنتمين منهم إلى مؤسسة ثقيلة في الميزان من نوع علماء الأزهر (أصحاب الجُبَب والعمائم!) لم يعد بإمكانهم أن يُقنعوا الجماهير المُسلمة بمثل هذه "التهاويل" كما يُسمّيها ابن باديس. وكأن نظرة شيخنا إلى أصحاب العمائم تتجاوب مع نظرة الإمام محمد عبده، حين اشتكى منهم في ذلك البيت الشعري المعروف: ولكن دِينًا عِشْتُ أبْغي صَلاحَهُ * أحَاذِرُ أنْ تَقضي عليه العمَائمُ! ومن المعلوم، من الناحية التاريخية، أن مشيخة الأزهر قد دعت العلماء في مصر، ومُديري المعاهد الدّينية، مباشرة بعد صُدور قانون إلغاء الخلافة في تركيا، (بموجب قانون 13 مارس من عام 1924، كما أسلفنا) إلى اجتماع تمّ انعقاده في القاهرة يوم 25 مارس عام 1924، أي بعد أسبوعين من إصدار ذلك القانون، لتبادل الرأي في حالة الفراغ التي أحدثها إلغاء مؤسسة الخلافة الإسلامية، في سابقة لا نظير لها في التاريخ. ولم يستطع ذلك الاجتماع أن يفعل شيئا غير الدّعوة لعقد مؤتمر جامع لعُلماء المسلمين يحضُره مندوبون من كلّ الأقطار الإسلامية. وقد حدّدوا له تاريخ مارس 1925 لانعقاده بالقاهرة. ولم يُتَحْ لذلك المؤتمر أن ينعقد في النهاية إلاّ في شهر مايو 1926. ولم يُسفر عن شيء ذي بال. وقد فهمتْ مُعظمُ الوفود مقاصد العُلماء المصريين، وسَعْيَهم الحثيث إلى انتزاع شرعيّةٍ ما لبعث الخلافة الإسلامية في القاهرة، فلم يُوافقوا على ذلك لأنهم لم يروْا إمكانية بعث الخلافة في بلد لا يتمتع بكامل حريته واستقلاله. والمُهمّ في السّياق الذي نحن فيه، والمُتعلّق بموقف ابن باديس من الخلافة، هو تساؤُلُنا: إذا كان هذا هو رأيه في الخلافة عُموما، وفي جهود الفئات الساعية إلى بعثها بوجه خاص، فما هو البديل الذي يراه جديرا بأن يسعى المسلمون إلى تحقيقه؟ وقد نعجب للطريقة التي عالج بها شيخنا الجليل هذه المسألة حين دعا صراحة إلى تجاوز النظر إليها!.. مُعْتبرًا أن مجرد الوقوف عندها في حياة المسلمين اليوم نوع من العبث "لا جَدْوى منه" كما قال. واقترح بديلا جديرا بالدرس، خليقا بالعناية والاهتمام. وربما كان فيه حلٌّ، أو بعض حلٍّ، للصراع المحتدم اليوم، بين النخب في كثير من الأقطار العربية الإسلامية، حول ما ينبغي أن تكون عليه طبيعة الدولة فيها، والمنزلة التي يمكن، أو لا يمكن، أن يحتلها الدين الإسلامي في بنائها العام. وقد ارتأى شيخنا أن يكون البديل للخلافة الإسلامية المنهارة هو ما سماه "نظام جماعة المسلمين". وهو نظام يذكرني بالحكم الذي ابتدعه الأندلسيون لنفوسهم في قرطبة، عام 422ه، إثر خلع آخر الخلفاء الأمويين، وإلغاء الخلافة الأموية فيها، وقد سموه... "نظام الجماعة". وقد سمّاه المستشرق الهولندي، رينهارت دوزي، في كتابه المسمّى "تاريخ مسلمي اسبانيا"، "نظام الجمهورية". وسنتناول بشيء من التحليل والتفصيل أهم مرتكزات النظام الباديسي المقترح في المقالة القادمة إن شاء الله. * madrasala@hotmail.com