ترى، نطيع دعاة ووعاظ التجمد أم نستجيب ونتفاعل مع علماء التجديد؟ الإمام شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب في ورقته البحثية التي نشرها في مجلة الأزهر (عدد شوال)، ويحمل عنوانُها ومحورها (ضرورة التجديد) يشير مبدئيا إلى أن المسلمين بين أيديهم نص قاطع من نصوص السنة الصحيحة يؤكد صراحة ضرورة التجديد في الدين بصورة منتظمة على أيدي النابهين من علماء هذه الأمة، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يُجدد لها دينها". الحديث الذي يذكرنا به الشيخ الطيب مشهور جدا، ولا شك عندي أن كل من يسمع طائعا طيعا لوعاظ السلفيين يعرفونه، فما الجديد الذي يطرحه؟ عنه شيخ الأزهر يقول "هذا الحديث تناوله الأقدمون بالبحث والتحليل وكتبوا فيه رسائل مستقلة، وإن كنا نلاحظ أن مرادهم من التجديد لم يتجاوز دائرة (إحياء السنة ومحاربة البدعة)، فلم يفسروا التجديد في الحديث الشريف بالمعنى المفهوم في عصرنا الآن، وهو قراءة النص الشرعي قراءة جديدة من أجل تنزيله على الواقع والمصالح المتغيرة". هنا الفرق بين من يعتقد أن التجديد هو إحياء السنة ومحاربة البدعة، وهو طبعا ما يروج له وعاظ الوهابية حتى إنهم يصفون الشيخ محمد بن عبد الوهاب مؤسس الحركة، بالمجدِّد، ويعتبرون الوهابية تجديدا للإسلام (ليس فقط تجديدا في الإسلام)، وبين من يعتقد أن التجديد -حسب تعبير وتعريف العلماء ومنهم شيخنا الطيب- هو اجتهاد في النصوص وتطبيقها على الواقع الذي نعيشه بكل المتغيرات التي يشهدها. ثم يخوض الدكتور الطيب في عش الزنانير فيسأل: "وإذا كان التجديد بهذه الأهمية في تراثنا العقلي والنقلي، فالسؤال الذي يفرض نفسه هو لماذا الجمود إذن؟" ولا يجد الشيخ الطيب حرجا في العودة إلى آراء البعض الذين أرجعوا هذا الجمود إلى النظام السياسي المستبد الذي ابتدعته الدولة الأموية، والذي أدى إلى تكريس حالة انفصام حاد بين العلوم الإسلامية وواقع المسلمين والتزم الأئمة الكبار حينها ناحية فروع الفقه كما التزم المحدثون رواية السنن، واكتفوا بقبول الأمر الواقع واستفاضوا في شروح العبادات والمعاملات على النحو الذي وصل إلينا. وأن يعتمد شيخ الأزهر وصف "المستبد" للدولة الأموية، فهذا وحده تميز عن وعاظ السلفيين الذين واجهوا النقد والهجوم الجامح من الشيعة على الدولة الأموية بحالة من التقدير والتهليل والتفخيم والتحصين للدولة الأموية، وغفلوا وتغافلوا تماما عن كونها دولة قهر وظلم أدت إلى انصراف العلماء للفروع والشكل خوفا وجزعا! ويمضي الطيب قائلاً "وبعضهم يرصد بوادر هذه الأزمة (الجمود) في ضعف الدولة العباسية، خصوصا في ظاهرة فوضى القضاء والإفتاء والاجتهاد، وجرأة غير المؤهلين علميا على اقتحام هذه المراكز الحساسة، الأمر الذي حمل المخلصين من العلماء على التحوط للدين بقفل باب الاجتهاد، منعا للفساد وسدا لباب الفوضى، وربما لم يدُر بخلدهم -آنذاك- أن الوسيلة التي لجؤوا إليها ستنتهي في ما بعد إلى غاية أكثر فسادا وفوضى إذا انتهى الأمر إلى تقليد ثم جمود ثم تعصب، وهو الثالوث الذي ضرب خصوبة الفكر الإسلامي في مقتل، وقد ظل المسلمون يعانون منه حتى الآن". ويرجع شيخ الأزهر إلى ما ذهب إليه الإمام الراحل الشيخ محمود شلتوت، حين يقول جريئا "ليس كل ما رُوي عن الرسول وإرشاداته يعد تشريعا ذا حجِّية ملزمة شرعا للمسلمين، ولنا أن نتصور القفزة الهائلة لتجديد الفكر الإسلامي فيما لو رُوعي هذا الجانب، وتمت عملية فرز دقيقة للعناصر التي يظن أنها ملزمة بينما هي في حقيقة الأمر ليست كذلك". فرق فارق بين أفكار العلماء وخطب الوعاظ، فالوعاظ يقدسون تقريبا كل ما جاءنا من السلف بصرف النظر العقلي عن حجيته الحالية، بينما العلماء يشغلون الاجتهاد فيصلا فاصلا، جوهر فكرة تجديد الدين كما يبينها شيخ الأزهر هي "عدم التفرقة بين الشريعة والفقه، وإضفاء الشريعة على آراء وفهوم بشرية، واعتبارها في رتبة النص المعصوم، فالشريعة يجب أن تتميز عن الفقه تميزا حاسما، وأن تنحصر في المقام الأول في نص القرآن والسنة الصحيحة، أما استنباطات العلماء من فقهاء وأصوليين ومفسرين ومحدثين ومتكلمين، فيجب أن يُنظر إليها على أنها معارف بشرية، أو تراث يؤخذ منه ويترك، ولا ينبغى أن يُفهم من ضرورة هذه التفرقة أننا ندير ظهورنا لتراثنا الفقهي، أو نقلل من قدر فقهائنا، أو أننا نستبدل به عناصر غريبة عنه تناقض طبيعته، ولكن هذا شيء، والنظر إليه بعين العصمة شيء آخر؛ فالتراث ليس كله مقبولا وليس كله مرفوضا، وبتعبير أدق ليس كله قادرا على مواجهة مشكلات العصر، وليس كله أيضا بعاجز عن التعامل معها". * بعضهم يرصد بوادر هذه الأزمة (الجمود) في ضعف الدولة العباسية، خصوصا في ظاهرة فوضى القضاء والإفتاء والاجتهاد، وجرأة غير المؤهلين علميا على اقتحام هذه المراكز الحساسة، الأمر الذي حمل المخلصين من العلماء على التحوط للدين بقفل باب الاجتهاد، منعا للفساد وسدا لباب الفوضى، وربما لم يدُر بخلدهم -آنذاك- أن الوسيلة التي لجؤوا إليها ستنتهي في ما بعد إلى غاية أكثر فسادا وفوضى إذا انتهى الأمر إلى تقليد ثم جمود ثم تعصب، وهو الثالوث الذي ضرب خصوبة الفكر الإسلامي في مقتل، وقد ظل المسلمون يعانون منه حتى الآن. * ليس كل ما رُوي عن الرسول وإرشاداته يعد تشريعا ذا حجِّية ملزمة شرعا للمسلمين، ولنا أن نتصور القفزة الهائلة لتجديد الفكر الإسلامي فيما لو رُوعي هذا الجانب، وتمت عملية فرز دقيقة للعناصر التي يظن أنها ملزمة بينما هي في حقيقة الأمر ليست كذلك.