إن حركة الإصلاح الديني التي قامت بالجزائر خاصة خلال الاستعمار الفرنسي ممثلة في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وعلى رأسها " الشيخ عبد الحميد بن باديس " قد قدمت إسهاما ما كان للحركة الوطنية الجزائرية أن تستغني عنه في سعيها لتعبئة جميع القوى وإعدادها للمعركة الفاصلة مع الاستعمار . لقد قام الاستعمار الفرنسي بمحاربة كل تطلع وطني في مختلف الجبهات : السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية . ولقد وجد الاستعمار في القوى الدينية المختلفة حليفا كبيرا بعد أن تمكن من ترويضها، وهي التي كانت تقود حركات المقاومة طيلة القرن ال 19 انطلاقا من المراكز الدينية كالزوايا أو حول الشخصيات الدينية.ومع حلول القرن ال 20 أمست أغلب هذه المراكز الدينية في يد قوى تصالحت مع الاستعمار واستغلت موقعها المهيمن على الجماهير المؤمنة. أمام هذا الواقع توجب على الحركة الوطنية الناشئة مع بدايات القرن العشرين أن تولى عناية كبيرة بتحرير الجماهير من اسر الأفكار البالية التي كانت تروجها الزوايا حول القضاء و القدر و مختلف المسائل المتعلقة بالعبادات والمعلومات و كان للحركة الباديسية بوصفها الجناح الديني في الحركة الوطنية أن تضطلع بهده المهمة و تتحمل العبء الأكبر في الصراع المرير مع القوى الرجعية . وأمام هذا الوضع المتردي توجّب على حركة الإصلاح أن تنتهج منهجا جديدا متقدما و فكرا توجه إلى التراث من موقف نقدي نسبيا لرؤية ما يتطلبه الحاضر من فهم جديد لأفكار التراث و تصحيح ماكان سائدا من مفاهيم دينية تعرقل مساعي الحركة الوطنية خاصة ماكان يستغل كحجة للرضا أو للتصالح مع الاستعمار كالأيمان بالقضاء و القدر مثلا. ومند البداية أدرك تجمع الزوايا الطرقية كما أدركت الإدارة الفرنسية خطر هدا الفكر الجديد عليهم فكر تنويري سوف يعمل لا محالة على إيقاظ الجماهير المخدرة و أمام هذا ازداد التقارب بين الإدارة و الزوايا و ازداد إخلاصها لها . كانت القوى الدينية آنذاك تنظر إلى الاشتغال بالدين بوصفه مهمة خاصة بها و شكلت على مر السنين كهنوتا متخصصا من حيث المراتب و الصلاحيات لا يقل عن الكهنوت المسيحي و كان الشائع أن كل مسلم يجب أن يكون له شيخ يهتدي به و يتوسط له في أمور دينية و لهذا كان ظهور الحركة الإصلاحية نشازا جاء ليقلب الأوضاع و يعكر الصفاء الذي كانت تنعم به هده القوى مع جماهير غافلة وفهمت أن المسالة حياة أو موت . أفكار وأبعاد وفهم ابن باديس و جماعته أن عليه هو أيضا أن يتقرب أكثر من مختلف تيارات الحركة الوطنية المتناقضة مع الاستعمار كما أن الدفاع عن الإسلام الصحيح لا بد أن يمر عبر تبني كافة المطالب الوطنية و ليس فقط المطالب ذات الطابع الديني . وهو موقف يستند إلى فهم جعل ابن باديس يرفض رفضا تاما المحاولات التي تستهدف شق صفوف الوطنيين و حصر نشاط الحركة في الوعظ و الإرشاد التقليديين و الابتعاد ما أمكن عن الأحزاب السياسية الوطنية و هي محاولات كانت تصدر أحيانا حتى من داخل الجمعية و هو ما دفع ابن باديس شيئا فشيئا نحو التمييز كشخصية وطنية لها نفوذها في الجمعية و خارجها. لقد حظي ابن باديس بفضل هدا الموقف باحترام و تقدير ممثلي الرأي العام السياسي و الثقافي .و هذا يبين بجلاء كيف ابتعد هدا الرجل كثيرا عن الإطار الذي كان من المفترض أن يعيش فيه بوصفه خريج مدرسة دينية في قسنطينة ثم في تونس و هو وسط لا تزال تهيمن عليه الأفكار التقليدية باستثناء قلة من المصلحين تأثروا بحركة النهضة في المشرق كما اتصلوا عن طريق الاحتكاك بالفكر الغربي المستنير. وبالطبع فان ثورة هؤلاء المجددين على الفكر التقليدي الشائع تتطلب الخروج أيضا على المنهج العام الذي كان سائدا و خاصة نظرته التقديسية للماضي بوضعه المثل الأعلى الذي لا يمكن تجاوزه و هو ما يفسر الموقف الرافض لفتح باب الاجتهاد لان الأولين حسب زعيمهم قد بلغوا الغاية التي ما بعدها غاية و هكذا جرى الخلط بين الإبداع و البدعة ما جعل الإيمان الصحيح في تناقض مع النقد و التجديد و الاجتهاد. نرى ذلك من خلال الشعارات التي تبناها ابن باديس في مرحلة مبكرة لتكوين علامات على مذهبه و مذهب جماعته و هي شعارات كان يكيفها حسب المراحل و الحاجات الإصلاحية اجتماعيا و سياسيا. أسس ابن باديس في البداية سنة 1925 "جريدة المنتقد" و هي على ما يبدو من كلمة المنتقد اختيار معتمد و مدروس لمعارضة المنهج الطرقي الذي كان شعاره ) اعتقد و لا تنتقد ( كان ابن باديس يقول ) انتقد قبل أن تعتقد ( ثم وضع مع بداية مرحلة الثلاثينات شعار ) الحق و العدل و المؤاخاة في إعطاء الحقوق للدين قاموا بجميع الواجبات ( في صدارة جريدته و هو شعار يتجاوب مع مطالب الحركة الوطنية يومئذ في المساواة في الحقوق و الواجبات بين الجزائريين و الفرنسيين و هو يتجاوب كذلك مع مرحلة سياسية في نضال الحركة الوطنية الجزائرية . ثم تعبّر الشعار فصار لنعتمد على أنفسنا و لنتكل على الله ليعبر عن مرحلة جديدة أخرى بلغها النضال الوطني بعد أن بدا الشك و اليأس يدب في الجماهير من جراء انكشاف نوايا فرنسا و عدم جديتها في التعامل مع القضية الجزائرية. أسس ابن باديس جريدة ( الشهاب ) بعد توقف ( المنتقد ) و الشهاب بمفهومه الديني أداة رصد و تصدر و حرق و هو اختيار يعبر عن موقف أكثر حدة من موقف الانتقاد . لكن هذا الموقف القائم على الانتقاد و التصدي للقوى الظلامية المتعاونة مع الاستعمار بقدرما يتميز بالشدة و الثبات فهو لا يميز موقف ابن باديس فيما عدا ذلك من القضايا و هي قضايا عالجها بقدر كبير من التسامح و التفتح و الحوار مثل قضايا فهم التراث و الشخصية الوطنية و مختلف الصراعات التي كانت دائرة في عصره . كان يقول : "نهضنا نهضة بنيت على الدين أركانها فكانت سلاما على البشرية لا يخشاها و الله النصراني لنصرانيته و لا اليهودي ليهوديته بل و لا المجوسي لمجوسيته و لكن يجب و الله إن يخشاها الظالم لظلمه و الدجال لدجالته و الخائن لخيانته ". أو كان يقول: " حق الإنسان في الحرية كحقه في الحياة و مقدار ما عنده من حرية مقدار ما عنده من حياة ". و هي مواقف تجاوز بها الكثير من زعماء الحركة الوطنية الدين كثيرا من سيطرت عليهم النظرة الحزبية الضيقة و التطلعات الشخصية على حساب القضية الرئيسية المتمثلة في محاربة أسباب البؤس و مظاهر الاستغلال و الدفاع عن الحق في العمل السياسي و التعبير الحر و الوجود الجزائري. كذلك يتجلى موقف ابن باديس التجديدي في نظرته للإسلام حيث يميز نوعين من الفهم للإسلام : إسلام وراثي و إسلام ذاتي . فالإسلام الوراثي كما يقول : "لا يمكن إن ينهض بالأمم لان الأمم لا تنهض إلا بعد تنبيه أفكار و تفتح أنظارها و الإسلام الوراثي مبني على الجمود و التقليد فلا فكر و لا نظر " مبادىء وقيم أما الإسلام الذاتي فهو" إسلام من يفهم قواعد الإسلام في عقائده و أخلاقه و آدابه و أحكامه و أعماله و يتفقه حسب طاقته في الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية و يبنى ذلك كله على الفكر و النظر فيفرق بين ماهو من الإسلام بحسنه و برهانه و ما ليس منه بقبحه و بطلاته فيحيا حياة فكر و إيمان و عمل " هناك من يستغرب اليوم هذا التقسيم بحجة إن الإسلام واحد و لا يجوز تقسيمه إلى وراثي و هو اعتراض صحيح إذا قصد بالإسلام تلك القواعد و التعليمات الواردة في القرآن الكريم و ما رافقها من شرح و ليس من المعقول إن ابن باديس كان يجهل هذا لكنه كان رجلا يتعامل مع واقع ملموس مع ممارسات دينية أو باسم الدين كانت قد ابتعدت بالمسلمين إلى الحد الذي ذكرناه من غلق باب الاجتهاد و تقديس التقليد و محاربة كل جديد . باعتباره من البدع و الضلالات و هيمنة خانقة على البلاد و العباد. أن ابن باديس يرى أن تحرير الفرد من هده الهيمنة الروحية شرط ضروري للانطلاق و بالتالي فهو لا يؤيد إسلاما يكون فيه الفرد تابعا و منقادا لغيره ولا رأي له بل لا قدرة له على تكوين رأي مستقل أو اختيار موقف خاص عن قناعة و بصيرة و هو مع إسلام ذاتي أي إسلام يكون فيه راعيا و مقتنعا بما يفعل و مسؤولا عن نفسه لأنه اختار طريقه عن فهم و قناعة . وقد هداه الموقف المبني على الاجتهاد إلى الانتباه الى الدور السلبي الذي كان يلعبه رجال الدين التقليديين آنذاك و لم يتردد في فضحهم بوصفهم متاجرين باسم الإسلام و بأنّهم كانوا في خدمة الغرب الاستعماري . تعرض ابن باديس لقضية لا تزال حتى اليوم تطرح بشكل عاطفي انفعالي و هي قضية الخلافة فكتب تحت عنوان الخلافة أو جماعة المسلمين "قال :" علمت الدول الغربية المستعمرة أن فتنة المسلمين تكون باسم خليفة أرادت أن تستغل ذلك مرات عديدة أصيبت كلها فيها بالفشل و هو لا يرى أن الوحدة الإسلامية يجب أن تطرح بهذه الصورة العاطفية و الشكلية في آن معا ذلك أن الوحدة السياسية لا تكون إلا بين شعوب تسوس نفسها و هو موقف يتماشى مع فهمه للإسلام الذاتي كما سبق الشرح و سواء أتعلق الأمر بمفرد أو بشعب فابن باديس يؤكد على حرية القرار الذي يجب أن يتوفر كشرط لأي نهوض منشود و هو لم يقل بين حكومات أو ملوك أو رؤساء . و لقد اثبت التاريخ فيما بعد أن كل مشاريع الوحدة باءت بالفشل لأنها كانت تتم بعيدة عن الشعوب أو درا للرماد في عيون الشعوب . و علق على تخلي كمال أتاتورك عن الخلافة بقوله: " إن الأتراك إنما الغوا نظاما حكوميا خاصا ورمزا خياليا فتن به المسلمون لغير ماجدوى ". وبعد ان يكشف عمالة الخليفة العثماني و يشيد بدور كمال أتاتورك يشن حملة على أصحاب الجيب و العمائم قائلا و أما شيخ الإسلام و علماؤه فيكتبون للخليفة منشورا يمضيه باسمه و يوزع على الناس بإذنه . و الواقع أن مثل هذه المواقف ليست بالقليلة في تاريخنا السياسي بحجة أن حكما غشوما خير من فتنة تدور و هي مواقف لرجال كانوا يدعون دائما أنهم يستمدون فتاويهم من الإسلام الصحيح .ولا يندر أن تتناقض الفتاوى الأنظمة السياسية كما يحدث حاليا في أزمة الخليج . مقومات الوطنية مواقف ابن باديس من هذه المسالة تعكس فهمه العميق و التقدمي و الديمقراطي لحاجات القضية الوطنية في ايام حين كان الاستعمار و أعوانه يحاولون عرقلة تبلور الوعي الوطني عن طريق زرع الفتنة العرقية تطبيقا لمبدإ (فرق تسد )و هو ما جعل ابن باديس يؤكد دائما على المجموعة من المقومات نلمسها في القول التالي : ليس تكون الأمة يتوقف على اتحاد دمها و لكن متوقف على اتحاد قلوبها و أرواحها و عقولها ينظر في وحدة اللسان و آدابه و اشتراك الآلام و الآمال ثم يقول انه لي هناك من ينكر إن الأمة الجزائرية كانت امازيغية من قديم عهدها وانّ جميع الأمم التي تبتلع الفاتحين فينقلبون إليها و يصبحون كسائر أبنائها و يؤكد على أهمية التفاعل الحضاري في تاريخ الأمة عند الحديث عن البعد الامازيغي للجزائر و هو الامازيغي الأصل بتأكيده على أن الامازيغ دخلوا الإسلام و تعلموا لغة الإسلام العربية طائعين فوجدوا أبواب التقدم في الحياة كلها مفتوحة في وجوههم فامتزجوا بالعرب بالمصاهرة و قاسموهم في مجالس العلم و شاطروهم في سياسة الملك و قيادة الجيش . هذا الموقف كان متقدما في عصر ابن باديس وهو عصر طغيان النزعة القومية الشوفينية خاصة في أوربا على أيدي النازيين و الفاشيست وقد تأثّر بها الجو العام في الجزائر بينما وقفت القوى الديمقراطية ضدها حيث يصف ابن باديس هذه النزعة بالسلبية لان الداهمين إليها (لا يعرفون إلا وطنهم و يعملون في سبيله و لو بإدخال الضر و الشر على الأوطان الأخرى بل يعملون دائما على امتصاص دماء الأمم و التوسع في الملك لا تردهم القوة و هؤلاء شر ّ على غير أممهم في مصيبة البشرية جمعاء ثم : أننا نفرق جيدا بين الروح الإنسانية و الروح الاستعمارية في كل أمر . فنحن بقدر ما ننكر هذه و نقاومها نوالي تلك و نؤيدها لأننا نتيقن أنّ كل بلاء العالم هو من هذه وكل خير يرجي للبشرية إنما سيكون يوم تسود تلك .فلتسقط الروح الاستعمارية و لتندحر و لترتفع الروح الإنسانية و لتنتشر. ان مقومات الشخصية الوطنية هي قبل كل شيء التفاعل الحضاري و التاريخي الذي يظهر هنا في البعد العربي الإسلامي المتفاعل مع البعد الامازيغي ثم يأتي ارتباط أفراد الأمة بمصير مشترك وهو ( وحدة الآمال و الآلام ) دون أن يؤثر ذلك في البعد الإنساني . هذا التفتح الذي ميز فكر ابن باديس هو ما ساعده على فهم عوامل تخلف المجتمع كما أدى به إلى التفطن إلى الجوانب الإيجابية في الحضارة الغربية ثم الدعوة إلى الآخذ منها و التعلم عليها. وقد تجسد ذلك في التحديث الذي طرا على مدارس الجمعية شكلا ومضمونا من حيث التنظيم التربوي العصري ومن حيث محتوى المناهج التعليمية رأى ابن باديس أن على المدارس الحرة ( كما كانت تسمى تمييزا لها عن المدارس الرسمية تحت إشراف الإدارة الفرنسية ) أن تعمل على إحياء اللغة العربية و السمو باللغة الفرنسية إلى قمتها لتكون معينا على الاستفادة من أسباب التقدم وهكذا فتحت المدارس للبنين و البنات معا ووجد من رجالات الجمعية من كان يشرف على جريدة (لاديفانس ) الناطقة بالفرنسية كما وجد من ناضل في سبيل ترقية المرأة ورفع حجاب الجهل عنها مثل الشاعر محمد الصالح خبشاش. "محاضرة ألقاها الأستاذ عالم بمناسبة الذكرى المائوية لميلاد الإمام عبد الحميد ابن باديس "