يقول الجزائريون صادقين والحسرة تعصر أفئدتهم "لو كنا بجوار فلسطين لحررناها من زمن بعيد".. تحمل هذه الجملة الوجدانية العميقة تشخيصا علميا للواقع العربي الرديء وللعقيدة الراسخة بالمهمة المقدسة في آن واحد.. تجد تيارا واسعا من مثقفين وسياسيين شعبيين ورسميين في أي بلد من بلاد العرب والمسلمين ينحاز لفلسطين، أما في الجزائر تجد فلسطين حاضرة لدى كل الشعب وكل القوى السياسية والأحزاب ومؤسسات الدولة.. كما كل شعوب الأرض تختلف الجزائريون يختلفون في السياسة والثقافة وتتعدد آراؤهم وتتنوع رؤاهم في القضايا العديدة ولكنهم يختلفون عن كل شعوب العرب والمسلمين بأن إجماعهم حاصل على فلسطين كل فلسطين.. توحدهم فلسطين كما لا توحدهم قضية أخرى داخلية او خارجية.. لعل هذا الكلام يساعدنا في تفكيك المسألة وبسطها بطريقة علمية تستنجد بالمنهج التحليلي والوصفي للخروج بنتائج علمية تحررنا من سطحية الأحكام على الموقف الجزائري المتميز تجاه فلسطين والشعب الفلسطيني وتجعلنا أكثر توازنا ونحن نحاول تفهم مقدرات أمتنا في معركة النهضة والانعتاق من ربقة الاستعمار.. لنصوب تحركنا في عملية ترتيب قوانا بطريقة محسوبة وواقعية. * شخصية الجزائر وأبعادها: تتشكل شخصية كل بلد نتيجة عدة عوامل جوهرية تجعله متميزا عن البلدان الأخرى حتى لو التقى معها في النسب والعقيدة .. وتميزات شخصية الجزائر هذا البلد التاريخي القديم تتضح في شخصية خاصة لا تذوب في سياقات التقسيمات الكبرى والتسميات التعميمية .. فالجغرافيا هنا تمتلك سلطانا نشطا مؤثرا في دور جملة الأفكار والعقائد ولونها.. فقبل الإسلام وبعده كانت الجغرافيا باستمرار تنتخب لأهلها مهمات خاصة تأتي الإيدولوجيا لتلون هذه المهمات وتمنحها مبررات متجددة.. وقبل الإسلام وبعده كان الاندفاع البر الجزائري في المتوسط يتحسس غارات الرومان والغربيين فيصنع في النفس والثقافة مسوغات لمهمات استثنائية .. وكانت سواحل الجزائر دوما الرابطة بين المشرق والمغرب الأقصى سندا ليس بالعسكر فقط ولكن بالثورات الفكرية التجديدية. وكان احتياج الأمة لإسناد في لحظات شبه السقوط دافعا قويا لنهوض الجزائر بأدوار تاريخية متميزة كتحرك الجزائريين نحو مصر قبل الإسلام عندما كاد نظام الحكم الفرعوني في مصر أن ينهار.. تحرك الجزائريون لينصبوا فرعونا جديدا لمصر وبعد الإسلام تحرك الجزائريون غربا لإيقاف سقوط الأندلس مائتي عام وتحركوا شرقا لإنقاذ السقوط السياسي الذريع في مصر وأقاموا دولة الفاطميين وبنوا القاهرة والأزهر الشريف.. وتحركوا يلتحقون بجيش صلاح الدين الأيوبي لإنقاذ بيت المقدس وتحركوا في البحر لإنقاذ الأسطول العثماني في مواجهة أساطيل الصليبيين في موقعة ايفرين التاريخية.. وكانت الجزائر تعبر خلال صحرائها الشاسعة نحو أدغال إفريقيا جنوبا لتكسب للعقيدة مجالات حيوية إضافية.. ولهذا كانت الجزائر هي حامية المغرب العربي كله وقلعة إفريقيا والمتحملة دوما ما كلفتها به العقيدة والجغرافيا من رسالة.. ولهذا كان سقوطها في 1930إعلانا عن سقوط المغرب العربي كله بل وسقوط إفريقيا كلها.. ومن هنا تتضح خصوصية علاقة الجزائر بقضايا الأمة وحضورها في قضايا المشرق العربي دوما هذا من جهة ومن جهة أخرى لئن كانت كل حالات التجديد الفكري والإسلامي في المغرب العربي والمشرق العربي تمس النخبة وتتحرك في دائرة محدودة من المتعلمين فإنها في الجزائر أصبحت حركات شعبية ذات مهمات سياسية واضحة كانت لها أدوار حاسمة في تاريخ المنطقة كما لابد من ملاحظة عمق التدين الجزائري وجوهره الصوفي.. من هذا كله تشكلت شخصية الجزائر وعقيدتها السياسية التي صقلتها المواجهات الكبرى مع الصليبيين قديما وحديثا. * علاقة الجزائربالقدس: تتضح حركة الجزائر في مجالها الإقليمي والعربي مكسرة قيود المناطقية يتجلى ذلك في علاقتها نتيجة كل مكونات شخصيتها سيما بعدها الديني الخاص بالقدس والمقدسات في مكة والمدينة وللقدس مكانة خاصة في التكوين النفسي والديني عند الجزائريين، بالإضافة إلى كل ما سبق من حديث عن شخصية الجزائر.. ولفلسطين الأرض المباركة في نفسية الشعب المجاهد الحر مكانة لا تجدها في نفسية أي شعب آخر من شعوب العرب والمسلمين ..فموقف الجزائر من فلسطين ليس قرارا ولا رأيا ولا وجهة نظر وليس هو عقيدة فقط، بل هو عشق وروح وتوحد وصوفية متمكنة من مريدين ووعي حضاري مكثف لا يمتلكه سوى الجزائريين تجاه فلسطين.. وفي هذا الصدد يكون من الجميل الإشارة إلى كلمات خالدات نطق بها فصحاء الجزائر تكشف عن السر المقدس في قلب كل جزائري ولكن المقام هنا لا يتسع.. * إسرائيل والجزائر: كان قادة الكيان الصهيوني في لحظات إنشاء مشروعهم الأولى ينظرون للنموذج الاستعماري الفرنسي في الجزائر بعين التدبر والتأمل ذلك لتشابه النموذجين الاستعماريين حيث كل منهما ينهج أسلوب الاستيطان الإحلالي.. وعندما أشرفت الثورة الجزائرية على الانتصار تحركت الاستخبارات الإسرائيلية تزود المنظمة الخاصة الاستعمارية في الجزائر بالسلاح والتدريب وبكل وسائل الجريمة لتقتل وتفتك لتخريب لحظة الانتصار وإفشال الاعتراف الفرنسي بهزيمته وانسحابه من الجزائر..ولهذا كان الانتصار الجزائري أقوى هزيمة معنوية يتلقاها قادة المشروع الصهيوني، وهذا ما جاء على لسان بن غوريون الذي أعرب عن خيبة أمله وأن مشروعه الاستيطاني لن يعمر في فلسطين كثيرا. * والمتابع للتقارير الإستراتيجية الإسرائيلية وحديثها التفصيلي عن الجزائر يتأكد أن إسرائيل ترى في الجزائر عدوا حقيقيا وإنها تحاول أن تحصى على الجزائر أنفاسها، حيث أن الجزائر استمرت وحيدة في المغرب العربي تقف ضد انهيار المنطقة أمام الموساد الإسرائيلي الذي انتعش في دول الجوار سنوات طويلة ولا يزال. * محور الجزائرالقدس: ولئن الجزائر قلعة المغرب العربي وحاميته ولأنها تقود الإقليم بتوسعه الإفريقي، فإن التحامها بالقدس يعتبر الجسر المتين لتوحد المشرق العربي بالمغرب العربي ..إننا هنا ننفخ على جمرة الإيمان بالوحدة التي تنشئ قيما حضارية فاعلة وإقامة علاقات متينة بين مشرق العرب ومغربهم على محور القدسالجزائر، وهكذا نكتشف أن ضمانات التوحد مكفولة وأولها الجانب الروحي الذي تشع فلسطين بنوره في جنبات جسد الأمة وتكشف للأمة حجم المخاطر الأجنبية التي تتهددها ..أن القدسوفلسطين والشعب الفلسطيني كلها مفردات متساوية لدى الجزائريين ويعتبر الجزائريون أن القدسوفلسطين خاصتهم وهم بذلك عشاق صوفيون لسماء الله الأولى وللأرض التي عرج منها نبيهم صلى الله عليه وسلم إلى السماء.. بل أن وقفهم في القدس يجعل من حائط البراق مركزه. * لم تقطع الجزائر علاقتها مع أي دولة عربية مهما بلغت الاختلافات الا مرتين مرة مع الاردن بعد احداث ايلول ومرة مع مصر بعد كمب ديفد وذلك بسبب واحد واضح انه الموقف من فلسطين ..كما ان الجزائر تميزت بموقف لم ترتق اليه أي من الدول العربية او الاسلامية ذلك ان الجزائر كانت مع الكل الفلسطيني وكان لها الدور المستمر في توحيد الجهد الفلسطيني ولم تنحز الى أي فصيل.. ولا أحد من الحكومات العربية يحمل نظافة واحتراما في العلاقة بالشعب الفلسطيني وقواه مثلما تحمل حكومات الجزائر المتتالية منذ الاستقلال.. ويظل الشعب الجزائري حاميا لهذا التوجه ..والموضوع الفلسطيني هو موضوع جزائري بامتياز حيث يعتبر الجزائريون أن الاستقلال الجزائري ناقصا حتى تتحرر فلسطين.. * ..في خاتمة هذا المقال تهتفني جملة لابن بأديس رضوان الله عليه وهو يحث العرب للنهوض من اجل فلسطين: "يا عرب إما فلسطين او الموت".. ثم يعلن: "باسم الجزائر كلها باسم الأجنة في الأرحام وباسم الموتى في الأجداث أعلن استنكاري لما يحصل في القدس الشريف"..