اقتحمت النساء والفتيات في زمننا هذا عددا من المهن والوظائف التي كانت فيما مضى حكرا على الرجال فقط، وغابت عنها المرأة بشكل كلي إلى وقت طويل، غير أن تدني الظروف المعيشية في السنوات القليلة الماضية وصعوبة ظروف الحياة ساهم في اتجاه عدد كبير من الجنس اللطيف لخوض غمار هذه المهن الرجالية، وما زاد الطين بلة ديمومة مشكل البطالة وتقلص فرص العمل حتى في وجه الجامعيين وأصحاب الشهادات المختلفة. وفي ظل هذا الواقع السلبي الأسود الذي يزداد قتامة يوما بعد يوم، ويتدرج من سيء إلى أسوأ لم تجد فئة كبيرة من الفتيات إلا اقتحام بعض المهن والميادين الخاصة بالرجال على غرار سلك الشرطة والحماية المدنية، هذه الأخيرة التي باتت في الآونة الأخيرة تستقطب عددا كبيرا من الفتيات، اللائي أضحين يرين فيها الملاذ الوحيد للفرار من شبح البطالة، خاصة بعد أن خاب أملهن في الظفر بفرصة عمل في ميادين وتخصصات أخرى. سلكي الشرطة والحماية المدنية قبلة الكثيرات أضحت بعض المهن وقطاعات العمل الرجالية في الآونة الأخيرة قبلة عدد كبير من الفتيات، لاسيما منها قطاع الشرطة ومجال الحماية المدنية، الذي أصبح بدوره قبلة ومقصدا لعدد من الفتيات الباحثات عن فرصة عمل مضمونة، خاصة في ظل الظروف المعيشية الصعبة التي زادت من حدتها وتفاقمها مشكلة البطالة التي وقفت حائلا بين الأغلبية الساحقة من الشباب وبين مستقبلهم الذي بدأت بوادره على ما يبدو تختفي مع انتشار هذه الظاهرة السلبية إلا وهي البطالة، هذه الأخيرة التي حطمت مستقبل العديد من الشباب من كلا الجنسين، ووقفت في طريق أحلامهم وطموحاتهم المختلفة أيضا، وفي خضم هذه الأجواء السلبية التي خيمت على حياة الأغلبية الساحقة من الجزائريين يبرز لنا واقع جديد لم يكن معهودا ومألوفا بهذه الدرجة، ويتمثل في الإقبال اللامتناه من قبل الفتيات على مجالات وميادين عمل كانت في السابق تقتصر على الرجال فقط، لا بل حكرا عليهم دون سواهم، وكانت في ذات الوقت لا تستقطب الفتيات على اعتبار أنها كانت لا تروقهم أصلا ولا تقع على تفكيرهم البتة، غير أنه ومع تغير معطيات الواقع اليوم وبروز ظروف جديدة على أرض الميدان التي من ضمنها هذا التقهقر الكبير في المستوى المعيشي الذي عرف تدنيا كبيرا في الآونة الأخيرة مس عددا هائلا من العائلات والأسر، وحوّل حياتهم إلى يوميات من العوز والحرمان والعدم، وهو ما دفع بفئة كبيرة من الفتيات إلى اقتحام عالم الوظائف الرجالية من أوسع الأبواب، وكل ذلك فقط من أجل الهروب من شبح البطالة الذي رفض أن يمنحهم حياة كريمة لائقة. ظروف الحياة الصعبة قلبت موازين المجتمع ورغبة منا في التعمق في حيثيات الموضوع قيد الطرح عمدنا إلى إجراء استطلاع بسيط يمس عددا من هذه الفتيات الباحثات عن تكوين لأنفسهن وتأمين مستقبل أفضل لهن ولعائلاتهن، وبداية الجولة الاستطلاعية التي قادتنا إلى بعض شوارع العاصمة، كانت باللقاء الذي جمعنا بالشابة «وهيبة» صاحبة 25 سنة التي كانت في مهمة استخراج وثائقها الشخصية الضرورية للملف الخاص بسلك الشرطة الذي كانت تسعى لتحضيره من أجل الحصول على فرصة عمل في هذا القطاع، لاسيما أنه أضحى مؤخرا يستحوذ على اهتمام عدد كبير من الفتيات وبشكل كبير جدا، وبغية معرفة رأيها وموقفها في الموضوع، وقد أكدت لنا في هذا الصدد أن هناك فعلا إقبال كبير من قبل الفتيات على هذه القطاعات التي تعد في الأساس من نصيب الرجال، والسبب حسب المتحدثة هو بالطبع ظروف الحياة القاهرة والتدني الكبير في المستوى المعيشي، إضافة إلى الاختناق الاقتصادي الذي تفاقم هو الآخر بفعل موجات الغلاء وارتفاع الأسعار الذي مس كل شيء وكان له وقعه السلبي بدرجات متفاوتة على حياة غالبية المجتمع الجزائري، إلى جانب طبعا معضلة البطالة التي أخلطت كل الأوراق وقلبت معادلة الحياة السليمة رأسا على عقب، كما حولت في نفس الوقت اهتمامات وانشغالات ورغبات الجميع وخلقت أخرى جديدة، كفئة الفتيات اللائي كانت الكثيرات منهن تحلم بفرصة عمل بسيطة وفق التخصص وفي مجال يستقطب كلا الجنسين فاخترن الخروج إلى سوق العمل للظفر بها، إلا أنها اصطدمت بشبح كبير مخيف هو هذه البطالة المحطمة، التي جعلت غالبيتهن- حسب ذات المتحدثة- يعمدن إلى تغيير وجهاتهن، حيث حطين الرحال على مهن الرجال على غرار الميدان الأمني والشرطة ومصالح الحماية المدنية، التي كان يميل إليها الرجال دون النساء عادة، أو تلك التي تستقطب بعض النساء بشكل محتشم، لكن تضيف محدثتنا أنه ما باليد حيلة فالظروف القاهرة والحاجة والحرمان والفقر أكبر من التفكير في هذا الأمر، أما فيما يخصها فتؤكد أنها بعد أن ذاقت ذرعا بظروف حياتها وأسرتها التي لا تبدو على الدوام صعبة العيش والتأقلم معها لاسيما أنها تسير نحو التدني يوما بعد آخر، وبعد أن يئست من انتظار فرصة عمل فترة طويلة على الرغم من أنها حاصلة على شهادة جامعية في تخصص الإعلام الآلي في المدى القصير، فكرت في نهاية المطاف في دخول عالم الشرطة الذي بات حسبها يملك عدة امتيازات وصفات ايجابية، حيث كشفت أنها كانت تتابع أخبار هذا القطاع من الجميع خاصة فيما يخص المسابقات التي تعمد وزارة الداخلية إلى القيام بها لانتقاء بعض المترشحين لها وفق عدد المناصب المطلوبة لدخول هذا القطاع الحساس، لتضيف أنها على علم ودراية بكل ما يتعلق بهذا المجال باستمرار، كما تقوم في الوقت نفسه ببعض الإجراءات والخطوات اللازمة للحصول على وظيفة بهذا السلك، ونجاحها في مثل هذه المسابقات سيمكنها بكل تأكيد من الظفر بفرصة عمل قارة ومستقرة، وستتمكن بذلك من توديع البطالة إلى الأبد. الوظائف الأمنية الحل مادامت الشهادة الجامعية غير مجدية والأمر سيان بالنسبة للشابة «منال» التي لم تتجاوز بعد ربيعها 27، التي لمسنا من خلال الحديث معها نفس الرأي والموقف حول الموضوع، لاسيما أنها من بين المعنيين بهذه المسألة أيضا خاصة في ظل سعيها هي الأخرى إلى ولوج عالم العمل في سلك الشرطة، وقد أخذها تفكيرها نحو ذلك الاتجاه- تضيف- بعد أن صفعتها البطالة صفعة قوية على الرغم من أنها تملك شهادة جامعية في تخصص المحاسبة، التي فشلت عبرها في الحصول على فرصة عمل تتوافق ومستواها العلمي، والذي كان بإمكانه أن ينقذها من عالم الجمود والبطالة غير أن التيار سار عكسها، بل إن الشهادة الجامعية في نظرها وقفت في وجهها وقضت على أحلامها وأهدافها في هذه الحياة، حيث لم يتوفر لديها أي نوع من الحلول الممكنة في خضم هذه المعطيات السلبية إلا اللجوء إلى علم العمل الرجالية، فطرقت بذلك وبعد أن ذاقت مرارة اليأس والإحباط النفسي وقساوة العوز والحاجة فترة من الزمن أبواب عالم مهنة الشرطة والأمن، التي كانت في وقت من الأوقات تستحوذ على بعض اهتمامها ثم تخلت عنها بعد الانشغال بالدراسة الجامعية، وهاهي تفكر في خوض تجربة العمل فيها التي دفعت إليها الحاجة والحرمان، حيث تكشف في هذا السياق أنها وخلال هذه الأيام مع حلول موسم الدخول الاجتماعي مشغولة بتحضير كل ما يلزم من أجل دخول هذا المجال، مضيفة أنها من جهة أخرى لا تتردد في الاتصال ببعض المعرف والواسطات طبعا لأن الدخول إليه والظفر بفرصة عمل ليس سهلا على الإطلاق، لتختم أن هدفها بات دخول هذا الميدان الذي سينتشلها من عالم البطالة والحرمان. ثقل المسؤولية أجبر أخريات على قبول هذا النوع من الوظائف وإذا كان عدد كبير من الفتيات قد دفعتهن البطالة القاتلة إلى ولوج عالم المهن الرجالية على غرار سلكي الشرطة والحماية المدنية اللذان يبدو أنهما من أكثر الوظائف التي تقبل عليهن الفتيات، فإن هناك من الفتيات من اقتحمن هذا المجال رغما عنهن فقط بعد أن وقفن عاجزات عن مساعدة عائلاتهن اللائي يتخبطن في معاناة كبيرة وظروف معيشية مأساوية، وهو حال الشابة "ليلى" 27 سنة التي أكدت لنا أنها اتجهت للعمل في سلك الحماية المدنية الذي لا يستهويها على الإطلاق، غير أنها عمدت إلى القيام بهذه الخطوة فقط من أجل عائلتها التي تعيش ظروفا معيشية مأساوية، وذلك لكون الوالد مريضا أما أخوها الوحيد فهو إنسان بطال ومدمن، فلم يكن أمامها من حل غير ولوج عالم الحماية المدنية الذي وفر لها فرصة عمل ملائمة، خاصة بعد أن حاصرت الديون الكثيرة والدها الذي كان يحاول أن يحمي عائلته الكثيرة العدد من شبح الجوع، لتضيف المتحدثة أنها لم تفكر يوما في العمل إلا كمترجمة وهو الميدان الوحيد الذي يستحوذ على اهتمامها، لكن ونتيجة الظروف القاهرة التي باتت عنوانا يوميا لعائلتها والرغبة في مد يد العون لها وحمل بعض أثقال المسؤولية عن والدها الذي أنهكته هذه الظروف القاسية، وأدت في ذات الوقت إلى تحويله إلى شخص مريض عليل الجسم، وهو ما يؤلمها ويجعلها تتحمل أي شيء من أجله وفي سبيل تأمين بعض شروط الحياة الضرورية لعائلتها، مضيفة أنه لو تطلب الأمر التضحية بالنفس والنفيس فإنها لن تتأخر إكراما لوالدها.