عرضت بعض القنوات الإخبارية بحر هذا الأسبوع مظاهرة في إسبانيا قام بها أفراد من المسلمين الإسبان ''الموريسكيين''، يطالبون فيها السلطات الإسبانية بالإعتذار عن المحرقة التي قامت بها محاكم التفتيش في حق أجدادهم من المسلمين بعد سقوط غرناطة سنة 1492م، وحتى لا تفوتنا هذه الذكرى المؤلمة في تاريخ أمتنا رأيت أن أكتب حول هذا الموضوع من الزاوية الغريبة التي جعلتها كعنوان للموضوع، وإنما عُدَّت هذه الزاوية غريبة، لأن المنع فيها يتعلق بما لا سلطان لبشر في الإطلاع عليه ألا وهو التفكير، ومع ذلك فقد كان شعار محاكم التفتيش آنذاك: ''ممنوع التفكير''!! فماذا فعلت محاكم التفتيش حتى استحقت هذا الإسم وصار هذا الشعار علما عليها؟ نشير في البداية إلى أنه ليس من حق أي إنسان أن يصادر الأفكار ويستأثر بها أو يؤثر بها من شاء ويمنعها عمن يشاء، لأنها شيء قابل للتملك متى وجدت القابلية للتملك، بواسطة الآلة التي وهبها الله عز وجل للإنسان والتي هي العقل، وهذا الذي لا سلطان لأحد عليه إلا خالقه سبحانه الذي أبدع في صنعه وتركيبه. ورغم أن الأفكار البشرية يتجاذبها عاملا الصواب والخطإ، فقد كفل الإسلام للناس حرية التفكير والتعبير، وجعل مقابل ذلك مسؤولية وحسابا، كما كلف المنظوين تحت رايته بأن يفكروا في الصواب ويختاروه، ويتركوا الخطأ ويردوا عليه بالفكر والحجة لا بالعنف والقوة، كما قال عز وجل: ''أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن'' وهذا حتى يعيش الناس في سلام ولا يكون تناقض أفكارهم واختلافها مطية للتناحر والإعتداء على بعضهم البعض، وكل هذا محكوم بالقاعدة القرآنية: '' لا إكراه في الدين''. والمتأمل بعين العقل في النقاش الهادئ الذي دار بين الله عز وجل وبين إبليس لعنه الله يدرك هذه الحقيقة جيدا، فرغم أن إبليس بالنسبة لقوة الله عز وجل وقدرته لا يساوي شيئا، وقد ذهبت به جرأته ووقاحته إلى مناقشة الخالق في أمره ورفضه جهرة دونما حياء أو وجل، مع كل ذلك سأله وهو العالم بحاله عن سبب رفضه السجود، فكان رده المعروف الذي استحق بسببه اللعن والطرد من رحمة الله عز وجل، هذا اللعن الذي لم يأت ابتداء وإنما جاء بعد إقامة الحجة على إبليس وبقاءه مُصِرّا على خطئه، والأعجب من ذلك كله أن يترك له المجال لنشر مذهبه والتأثير على الجن والإنس لإغوائهم وجذبهم إلى طريقه ومذهبه! فهذه القصة القرآنية التي لا غبار على مدلولاتها المذكورة في هذا السياق، تعطينا تصورا واضحا عن كيفية التعامل مع الفكر المخالف في دائرة الإسلام مهما كانت طبيعته، بحيث يكون هذا التعامل مبنيا على مقارعة الحجة بالحجة ورد الفكر بالفكر، وهذا هو ديدن الإسلام ومنهجه الثابت في التعامل مع الخارج عن دائرته فكيف بالداخل فيها، وهو ما شهد به المستشرق غوستاف لوبون حيث قال: ''إن العرب كانوا أكثر حكمة من كثير من رجال السياسة الحديثة عرفوا حق المعرفة أن أوضاع شعب لا تتناسب مع أوضاع شعب آخر فكان من قواعدهم أن يطلقوا للأمم المغلوبة حريتها ويتركوا لها الإحتفاظ بقوانينها وعاداتها ومعتقداتها'' ومع هذا الوضوح لازلنا نسمع أصداء تردد هنا ما يقال هناك -أي في الغرب- عن أن الإسلام دين العنف ومصادرة الأفكار بالقوة والإرهاب! ولدحض هذه الشبهة المدحوضة وتنوير الناس بحقيقة الموريسكيين الذين صودرت أفكارهم ومعتقداتهم بقوة الإرهاب الكنسي الذي كان يفتش في قلوب الناس عن الإيمان وعقيدة التوحيد بالتعذيب والتنكيل، نورد القليل من الكثير مما قامت به محاكم التفتيش في حق مسلمي الأندلس بعد سقوط غرناطة سنة 1492م، ومن ذلك: *منعوا المسلمين من النطق بالعربية في الأندلس *أحرقوا ما استطاعوا جمعه من الكتب العربية مهما كانت تخصصاتها العلمية، وأي حمق فوق هذا! *تعذيب كل من يشكون في أنه يخفي إسلامه ومن أنواع التعذيب التي كانوا يمارسونها للإقرار بالإسلام وبعده: إملاء البطن بالماء حتى الإختناق، واستعمال الأسياخ المحمية أو السفافيد، وسحق العظام بآلات ضاغطة، وتمزيق الأرجل، وفسخ الفك، كل ذلك بحضور الطبيب الذي يوقف التعذيب إذا رأى أن المعذب سيفقد حياته ليُترَك قليلا ثم يُستَأنف عذابه بعد ذلك! *كانوا يعرون المرأة التي يشكون في إسلامها ويتركونها في مقبرة لوحدها مقيدة بالسلاسل إلى قبر ورأسها بين ركبتيها وشعرها مرخى عليها، وتترك على تلك الحال إلى أن تجن أو تموت رعبا وجوعا! *من ثبت في حقه أنه اغتسل يوم الجمعة، أو لبس ثياب الزينة يوم العيد، أو أوثق أرجل الماشية عند الذبح، أو يصوم رمضان أو يتسحر، أو يمتنع عن أكل لحم الخنزير وشرب الخمر... يصدرون في حقه حكم الإعدام! *من شكوا في إسلامه كشفوا عن عورته، والويل له ولأسرته إن كان مختونا! *بنت محاكم التفتيش غرفا بحجم جسم الإنسان بعضها أفقي وبعضها عمودي فيتركون فيها السجين واقفا أو ممددا حتى يموت ويتساقط لحمه عن جسده البالي! *كانت لدى محاكم التفتيش آلات لسل الألسن، وأخرى لتمزيق أثداء النساء وسحبها من الصدور، ومجالد من الحديد الشائك لضرب المعذبين وهم عرايا حتى يتناثر اللحم عن العظم! وكل هذه الصور ذكرها أحد أحد قادة نابليون الذي رآها مباشرة أمامه بعد دخول مدينة مدريد، وبهذا كانت الثورة الفرنسية سببا لإلغاء محاكم التفتيش. ومن منطلق ''شهد شاهد من أهلها'' نختم هذا الموضوع بكلمة للأديب الفرنسي فولتير يقول فيها: ''لما فتح العرب إسبانيا لم يرغموا قط النصارى الوطنيين على انتحال الإسلام ولما استولى الإسبان على غرناطة أراد الكاردينال خمنيس أن ينصر كل العرب مدفوعا إلى ذلك بغيرة دينية وطموح إلى إنشاء شعب جديد يخضع لصولته وأرغم خمسين ألف عربي على أن يحملوا رمز دين لا يؤمنون به''، وهذا هو تسامح وتفتح الكاثوليك عندما يقدرون ويتمكنون!.