منذ اندلاع انتفاضة الشعب المصري والإدارة الأمريكية تسابق الزمن من أجل احتواء التغيير الذي بدا أمرا محتوما، وجاءت ردود الفعل الرسمية من البيت الأبيض وكتابة الدولة لتؤكد أن القوة العظمى أدركت أن جبهة جديدة فتحت عليها وأن جيلا جديدا من الثورات قد يضع سطوتها العالمية على المحك . ربما لم تكن الشعارات المعادية لأمريكا ظاهرة في الاحتجاجات المصرية العارمة التي يشارك فيه الملايين منذ أزيد من أسبوع، غير أن الإجماع حاصل على أن القوة الأولى التي يستند إليها النظام الحاكم في القاهرة هو الخارج ممثلا في أمريكا، وتدرك واشنطن جيدا أن الشارع المصري يتابع كل تفاصيل موقف الإدارة مما يجري في بلاده، وهو موقف بقي متأرجحا بين الدعوة إلى الانتقال السلس للسلطة وبين التأكيد على أن تغيير النظام في مصر ليس من شأن واشنطن التي لا تنحاز إلى الشعب أو الحكومة في هذه المرحلة. نظام مصر هو القاعدة الأساسية للإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، ومنذ زيارة السادات إلى القدس سنة 1977 ثم توقيع اتفاقيات كامب ديفيد مع إسرائيل أصبحت واشنطن تعتمد بشكل كلي على القاهرة في تنفيذ سياساتها في المنطقة العربية، وهو ما تجلى في عملية تفكيك المقاومة الفلسطينية وجر منظمة التحرير إلى التفاوض، وتدمير العراق وإنهاء وجوده كدولة، فضلا عن إخضاع معظم الأنظمة العربية للإرادة الأمريكية، وهذا ما يجعل مقارنة ما يجري، من حيث الآثار التي قد تترتب عنه، مع الثورة الإيرانية أمرا مبررا من الناحية السياسية حيث تسيطر المخاوف على إسرائيل والولاياتالمتحدة من عودة مصر إلى الصف العربي وهو أمر سيقلب التوازنات في المنطقة رأسا على عقب. رغم أن قضايا السياسة الخارجية لا تبدو ضمن أولويات المتظاهرين في مصر اليوم، ولم تكن سببا في إسقاط زين العابدين بن علي في تونس، فإن المؤكد أن أمريكا أصبحت اليوم مطالبة بمراجعة عميقة لسياستها تجاه المنطقة العربية، وقد بدأت الدعوة إلى إجراء هذه المراجعة قبل عشرية من الآن حيث دعا لفيف من الأكاديميين والسياسيين والدبلوماسيين الأمريكيين إلى إعادة صياغة العلاقة مع الشعوب العربية والإسلامية وعدم الاعتماد في ذلك على الأنظمة، وقد كان خطاب الرئيس باراك أوباما الذي وجهه إلى العالم الإسلامي من جامعة القاهرة بعد توليه الحكم مؤشرا على هذه الرغبة في الاقتراب أكثر من هذه الشعوب، وقد أعطت الاحتجاجات التي شهدها أكثر من بلد عربي إشارات لواشنطن على صعوبة الاعتماد مستقبلا على هذه الأنظمة وهو أمر أكدته صراحة وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلنتون عندما دعت من الدوحة إلى ضرورة قيام الأنظمة العربية بعمليات إصلاح سياسي، وقد جاء انهيار نظام بن علي كإنذار لأمريكا والغرب عموما، باعتبار أن ذلك النظام اعتمد لأكثر من عشرين سنة على الدعم السياسي الغربي الذي تغاضى عن جرائمه واستبداده بحجة أنه نظام يحارب الأصولية ويبني مجتمعا عصريا منفتحا ويضع أسس نظام اقتصادي حر، وهي نفس الصفات التي يتمتع بها نظام مبارك في نظر الغربيين مع زيادة تفصيل بالغ الأهمية وهو الدور المحوري لهذا النظام في حماية إسرائيل ومنع قيام أي تحرك عسكري ضدها أو تشكيل جبهة عربية لمواجهتها. لا تبدي واشنطن مقاومة ظاهرة لحركة التغيير، بل إن الخطاب الرسمي للإدارة ينحاز إلى إرادة الشعب، سواء في تونس أو في مصر، وهذا مؤشر على إدراك صحيح للوضع القائم وللضغط الكبير الذي يعاني منه المجتمع، لكن في مقابل هذا هناك توجه إلى احتواء التغيير وجعله لا ينفذ إلى المصالح الأمريكية ولا يغير موقع مصر في التوازنات القائمة منذ أزيد من ثلاثة عقود، غير أن المشكلة الأساسية التي تواجهها الولاياتالمتحدة الآن هي أن عملية التغيير تأتي مباشرة من الشارع، فسنوات القمع أضعفت المعارضة وقطعت صلاتها بالمجتمع، وقد بدأت القيادات الميدانية للاحتجاجات تتحول إلى قيادات سياسية كما حدث في تونس ويحدث الآن في مصر، وهذا الوضع يجعل من الصعوبة إيجاد طرف يمكن التفاوض معه أو التعويل عليه لوضع البدائل المدروسة التي تضمن الحفاظ على المصالح، وأكثر من هذا فإن الشارع يضع سقفا عاليا من المطالب يتجاوز تغيير الأشخاص ليصل إلى إعادة بناء الدولة من الأساس، وإذا تكررت التجربة التونسية في مصر فإن الوضع قد يصبح عصيا على المعالجة، فإلى حد الآن يظهر الشارع طول نفس وهو يكشف أساليب الأجهزة الأمنية التي تحاول تشتيت المتظاهرين أو تحاول نشر الفوضى، وهو لا يتراجع بمجرد تنازل النظام، بل إنه يرفع سقف مطالبه مع مرور الوقت، وفي الحالة التونسية لم ينه رحيل بن علي الاحتجاجات بل زاد من جذوتها وعزز تماسك القوى الشعبية التي صنعت التغيير وهي تصر على أن تصل به إلى النهاية. ليست الأنظمة وحدها هي التي تسقط في البلاد العربية بل تسقط معها أيضا النخب السياسية والإعلامية والمثقفة التي تمثل واجهة النظام السياسي، وبسقوط هذه النخب تخسر أمريكا الدوائر التي يمكن الاعتماد عليها من أجل الحفاظ على الوضع القائم، وستفرض القواعد الديمقراطية واقعا جديدا قد يضع أمريكا في مواجهة الشعوب مباشرة دون أن تكون هناك أنظمة تعزل المصالح الأمريكية عن هذه الشعوب التي طالما ناهضت أمريكا وارتابت من سياساتها.