(تابع).. كانت تلك بدايةَ فُصولِ القصة.. فصولٌ.. أحكم الدهر نسج خيوطها في عوالمه الخفية. أما الخيوط التالية.. فبدأت في ليلة من تلك الليالي القمراء.. التي تذيع هتافات الخلائق الكونية..همسات الوجود في جميع الأرجاء.. كما نطقت بها دواوين الأسرار السابحة في جداول الأنوار القمرية، والمسافرة عبر الأشعة إلى حيث القلوب والأرواح. ففي تلك الليلة المقمرة الواعدة، وبعد أن سلمت أمري لسلطان النوم، وقد أحكم محاصرتي، وافتك نفسي من قبضة السعي وشواغل الكسب. فبعد أن استلقت النفس بمجامعها وتلابيبها في أعنة الكرى.. إذا بي أرى طيفا شاحب الملامح، في فضاء رهيب، حالك السواد. كان يُقبل نحوي مِن مسافة قصية، وبسرعةٍ عاليةٍ لا تُقدَّر سوى بزمن المشاعر ومقاييس الوجدان. بدا الطيف، لأول وهلة، في ذلك الفضاء المهول كالشُعلة الخافتة النحيفة.. ولكن عندما اقترب مني، بدأت قواي تنهار، وأحسست برعشة عنيفة تهز جسمي، وتعبث بمشاعري ووجداني. ثم بدأت مفاصلي تتجمد، وصار جسمي يتصلب بصورة عجيبة، حتى خيّل إلي أنني مجرد تمثال ثُبّت في الأرض منذ عهود قديمة.. وحينما أفْلَتُّ، دون تصميم مني، من هذا الكابوس، فأول ما خطر ببالي، وأنا في حالة الاستيقاظ، هو المقارنة بين حالتي تلك وبين التمثال الذي ثُبِّت هو الآخر في زاوية من زوايا الورشة. * * * وبعد مرور عدة أيام عادوني الحلم السابق في ليلة من الليالي. عاد هذه المرة بشكل غريب اختلط فيه الأمر عليّ حينما كنت داخل عالم الحلم. كنت.. وأنا في حالة الحلم الجديد، أحدّث نفسي عن الحلم الأول، وأحاول قدر المستطاع تذكّر بعض صوره، واسترداد شيئا من تفاصيله. بالطبع..، انطلت عليّ الحيلة..! فكما تضحك العقول الواعية على بعضها البعض، فتُصدّق الساذجة منها ما يفد إليها من منفذ السمع، أو ما تفد إليه من خلال القياس الأجوف أو الاستنباط الأعوج، كذلك؛ يفعل العقل الباطن بالعقل الباطن أحيانا.. داخل لعبة الأحلام. لقد كان لأجهزة الأحلام (على غرار أجهزة الإعلام) وسائلها الخاصة للتضليل، وأساليبها الذاتية للتلاعب باللاشعور. حتى أنني أصبحت، وأنا في أسْر اللاشعور،أي داخل عالم الحلم أكثر شعورا بوجودي الواعي. والدليل هو محاولتي "الواعية" لتذكر الحلم الأول. وهكذا لم أدرك تماما حالة الأسْر الجديد التي تمت في الحلم الثاني..!! بعد ذلك..، بدأت وأنا في حالة الوعي "المزيّف" أتابع التفاصيل. بدأ الطيف، الذي رأيت مثله في حلمي السابق يقترب مني، وعندما اقترب أكثر فأكثر بدت ملامحه، وظهرت قسماته. فتتجلى في صورة امرأة بارعة الجمال، تُشبه صورة التمثال تماما..، كانت تُشبهها إلى حد بعيد في بسمتها، وفي انسياب شكلها، وفي كمال قدّها، وفي رشاقة قوامها. كانت تبدو.. بلباسها الأبيض الشفاف المترنح، وبشعرها العابث، كأنّها شموعٌ ذهبيةٌ في مهرجان النسيم. وكان صوتها العذب الذي انبعث من شفتيها مثل سيمفونية عجيبة مُزجت بطرب لاهٍ وشدو شجيٍ. كأنه..، مواويل جنائز.. و.. أناشيد أحلام، عُزفت في أزمنة لم تحظ البشرية بدفئها. (يتبع)