الألعاب الإفريقية العسكرية: الجزائرتتوج بالذهبية على حساب الكاميرون 1-0    لبنان : ارتفاع حصيلة العدوان الصهيوني إلى 3670 شهيدا و 15413 مصابا    "كوب 29": التوصل إلى اتفاق بقيمة 300 مليار دولار لمواجهة تداعيات تغير المناخ    الغديوي: الجزائر ما تزال معقلا للثوار    مولودية وهران تسقط في فخ التعادل    مولوجي ترافق الفرق المختصة    قرعة استثنائية للحج    الجزائر تحتضن الدورة الأولى ليوم الريف : جمهورية الريف تحوز الشرعية والمشروعية لاستعادة ما سلب منها    المحترف للتزييف وقع في شر أعماله : مسرحية فرنسية شريرة… وصنصال دمية مناسبة    جبهة المستقبل تحذّر من تكالب متزايد ومتواصل:"أبواق التاريخ الأليم لفرنسا يحاولون المساس بتاريخ وحاضر الجزائر"    تلمسان: تتويج فنانين من الجزائر وباكستان في المسابقة الدولية للمنمنمات وفن الزخرفة    مذكرات اعتقال مسؤولين صهاينة: هيومن رايتس ووتش تدعو المجتمع الدولي إلى دعم المحكمة الجنائية الدولية    قرار الجنائية الدولية سيعزل نتنياهو وغالانت دوليا    المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية تعزي عائلة الفقيد    المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية تعزي في وفاة الصحفي محمد إسماعين    الجزائر محطة مهمة في كفاح ياسر عرفات من أجل فلسطين    الجزائر مستهدفة نتيجة مواقفها الثابتة    التعبئة الوطنية لمواجهة أبواق التاريخ الأليم لفرنسا    تعزيز روح المبادرة لدى الشباب لتجسيد مشاريع استثمارية    حجز 4 كلغ من الكيف المعالج بزرالدة    45 مليار لتجسيد 35 مشروعا تنمويا خلال 2025    47 قتيلا و246 جريح خلال أسبوع    مخطط التسيير المندمج للمناطق الساحلية بسكيكدة    دورة للتأهيل الجامعي بداية من 3 ديسمبر المقبل    نيوكاستل الإنجليزي يصر على ضم إبراهيم مازة    السباعي الجزائري في المنعرج الأخير من التدريبات    سيدات الجزائر ضمن مجموعة صعبة رفقة تونس    البطولة العربية للكانوي كاياك والباراكانوي: ابراهيم قندوز يمنح الجزائر الميدالية الذهبية التاسعة    4 أفلام جزائرية في الدورة 35    "السريالي المعتوه".. محاولة لتقفي العالم من منظور خرق    ملتقى "سردية الشعر الجزائري المعاصر من الحس الجمالي إلى الحس الصوفي"    الشروع في أشغال الحفر ومخطط مروري لتحويل السير    حادث مرور خطير بأولاد عاشور    اللواء فضيل قائداً للناحية الثالثة    الأمين العام لوزارة الفلاحة : التمور الجزائرية تصدر نحو أزيد من 90 بلدا عبر القارات    السلطات تتحرّك لزيادة الصّادرات    وزارة الداخلية: إطلاق حملة وطنية تحسيسية لمرافقة عملية تثبيت كواشف أحادي أكسيد الكربون    مجلس حقوق الإنسان يُثمّن التزام الجزائر    مشاريع تنموية لفائدة دائرتي الشهبونية وعين بوسيف    بورصة الجزائر : إطلاق بوابة الكترونية ونافذة للسوق المالي في الجزائر    إلغاء رحلتين نحو باريس    البُنّ متوفر بكمّيات كافية.. وبالسعر المسقّف    الخضر مُطالبون بالفوز على تونس    دعوى قضائية ضد كمال داود    تيسمسيلت..اختتام فعاليات الطبعة الثالثة للمنتدى الوطني للريشة الذهبي    الشباب يهزم المولودية    المحكمة الدستورية تقول كلمتها..    وزيرة التضامن ترافق الفرق المختصة في البحث والتكفل بالأشخاص دون مأوى    النعامة: ملتقى حول "دور المؤسسات ذات الاختصاص في النهوض باللغة العربية"    الذكرى 70 لاندلاع الثورة: تقديم العرض الأولي لمسرحية "تهاقرت .. ملحمة الرمال" بالجزائر العاصمة    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بقلم علاوة كوسة / سطيف.الجزائر
رواية أوردة الرخام.. (الجزء21)

(تابع) ... كنت أنا أيضا أظن ذلك إلى أن التقيت يوما "سي رابح " هذا الأستاذ الجامعي ..وابن الشهيد . و قد حكى لي بمرارة عن هذه الساعة .. التي كانت تحيا في دوران عقاربها الدائم والمستمر ..ولكن حياتها توقفت في الساعة الصفر من ليلة أول نوفمبر سنة ألف وتسعمئة وأربعة وخمسين ,عندما أطلق عليها احد المجاهدين الجزائريين رصاصة أسكنت النبض فيها ..مات الزمن فيها وحيت الحرية في قلب من رماها بالرصاص .
...لأنه كغيره من الجزائريين قد أعلنوا انطلاق واندلاع الثورة التحريرية وجاءت الحرية محلقة وقد أوشك المستعمر على أن يكسر جناحيها –اجل هكذا قال" سي رابح " الذي تحسر أمامي لأنه جاء من قضى عليه بنزعه من مكانه بحجة أشغال الطرق وحتمية المدنية .و التحضر .قال حينها :( لقد مات في هؤلاء الضمير وتخربت فيهم الذاكرة " وتوقف عن الكلام .."
-أتعلم يا"أسعيد " أن "سي رابح " ذكرني بقائد من قادة جيش مملكتنا ..كان للملكة ذاكرتها ..وللجيش إرادته ..ويحارب بسيفه و يراعه ..فقط لأنه أحب موطنه بصدق ..مثلما أحبه أبوه الطبيب الذي مات في ميدان المعركة واقفا ..ولأنه أيضا يريد أن يؤدي واجبه في الميدان كما أداه من رحلوا "..
-إذن يا "سيغورني" أوصيك أن تتأملي تقاسيم وجهه لتأخذي منها الكثير ..فإنه يأتيك باستمرار وهو أستاذ جامعي بهذه المدينة ..وإذا كانت الساعة الكبيرة قد توقفت بالحروش واستهدفت قبل سنوات ..فإنه لا يأتي إليك إلا لأنه يعتقد أن ماءك يا عين الفوارة لن يتوقف أبدا " مثلما لا يتوقف حبه لوطنه وإجلاله للشهداء الذين وهبوا أنفسهم لهذا الوطن ..وأبوه واحد منهم ..
-سيكون له ذلك يا عزيزي ..فمثلما يتنقل باستمرار بين الحروش وسطيف ..انتقلت أنا من تلك المدينة " –الحروش- " إلى-سيتيفيس- قبل سنوات طويلة .. وهذا قاسم مشترك أكبر ...ووصلنا المدينة حين المساء .. وعجلات العربة تلتهب وتدك الأرض دكا, توري قدحا ملتهبا يزين السمرة التي طبعت وجه ذاك المساء ..
-وميشال جنبك .
-اجل طوال الطريق كان جنبي ..لكن لما دنونا من أسوار المدينة قام من مكانه وأرسل بنظره صوبها و قد بدت مساكنها المتناثرة ..وعلت وجهه كآبة خرساء ..وسالت من عينيه دمعتان ملتهبتان شوقا وحنينا لموطن حبيبته "ليلى" ولقد انفطر قلبي لحاله ..وكان لا يدري بذلك طبعا ..وتمتم بكلمات لم أفهمها ..لكنني عرفت معناها ..
-ومن منا لا يحن إلى موطن حبيبه يا "أسعيد" فقد بكى قبلنا قيس وجميل وولادة ..وبكى أيضا ..شكسبير ..وطاغور..وذو الشيب الصغير " -..مرة أخرى تذكرين ذا الشيب الصغير ..وهل ارتحل عن حبيبته حتى يحن إلى أطلالها ؟
-لا تصدق إن قلت لك أن بينه وبينها جدار ..فحسب, لكن الذي رحل عنهما هو القمر الذي ينير دروب حبهما ..الذي تبرعم وازهرّ في شتاء بارد ..وذبل وأضمحل في ربيع مزهر ..
-آه يا "سيغورني" ما عدت أفهمك ..وما صرت اصبر عن لقائه..أين يمكن أن يكون الآن ..يجب أن ألتقيه ..
يوما ما ستلتقيه يا "اسعيد" فلا تستبق الأحداث
-لا عليك. وكيف دخلتم المدينة -.سيتيفيس -؟
-دخلناها ..انا و"ميشال " كعصفورة مصلوبة وأسد جريح ..النبع الذي شهد أول لقاء بينه و بين حبيبته ليلى هو النبع الذي جمع بيني و بين "حبيبي " المصلوب الذي لا أعرف أين هو الآن !؟
-تقصدين أن البحار "ميشال " وضع التمثال قرب النبع ورجع "ّ؟
-قبل أن ندرك النبع ..كان "ميشال واقفا و العربة تسير ..كان يتأمل الشوارع بدقة . وهي التي سار فيها يوما رفقة حبيبته ..و ينظر إلى البنايات ..ويسائل الشرفات عن "ليلاه" لكن هيهات أن تكلمك الأطلال يا عزيزي ..فلو كانت الأطلال مجبرة على المكان الذي رحل إليه الأحبة لكلمت قبله "قيس" ..ويحضرني اللحظة قول ذي الشيب الصغير باكيا حبيبته واقفا بالأطلال :
الجرح جرحي و الدموع مترجم *** و الشعر زادي والقريض مواسم
رحل الذين نحبهم وتغربوا *** والقصد مجهول فمن ذا يعلم
ورجعت للأطلال ألمح قفرها *** والصخر من ألمي أنا يتألم
ولا أريد يا أسعيد أن أكمل قصيدته لأنك ستسمعها منه في إحدى أمسياتكم الشعرية بناديكم الأدبي ..
-أخّاه عليك يا "سيغورني " مازلت تلهبين النار في صدري ولا تطفئينها ..اهو من قال هذا ..لله دره ..إنه ينطق على لساني ..
-بل على ألسنة كل الذين أحبوا ..أوفوا..غدروا..فتدفقوا شعرا ..وتوشحوا صبرا , مثلما كان- ميشال- يبدو صابرا ونار الشوق والحنين تضطرم في أحشائه . ودنونا من المنبع ..من العين التي لا تنضب ..وقبل أن ينزلني مع مساعديه من العربة ..راحت دوائر تنهيداته تشكل حلقة من حزن وأسى في عنق المدينة ..ونظر يمينه فإذا هو "المسجد الجامع العتيق"..الذي كان ينبعث منه الآذان فترتعد منه فرائسه ويحس بأنه ليس مجرد كلام .. إنما هو دعوة إلى عوالم الخير والفضيلة والنجاح ..بل شهادة على سعادته الباطنية الكامنة بين ثناياه *تذكر حبيبته "ليلى" التي كان كلما فكر في الخلوة بها .ولو عن حسن نية تقول له أ ن هناك من يرانا .. وتذهب في اليوم خمس مرات للقائه ..إنه الله يا "ميشال ".
ثم نظر شماله فإذا هي بناية مرممة ..بيت حبيبته..هنا ولدت ..هنا تربت ..هنا عرفتها هنا كانت تنام محتضنة صورتي بلباسي العسكري .هنا .هنا. هنا...
يسمعه مساعدوه وهو يردد هذه الكلمة ..فيعجبون لأمره ..فيعود ليستجمع إرادته ثانية ..
-أشار" أسعيد " بإصبعه إلى العمارة التي كانت تقابله والتي كان ميشال قبله بعشرات السنين يكلمها وقال "سيغورني" أهنا كانت تسكن "ليلى"؟
أجل هذا هو مسكنها ..وهل تعرف عنه شيئا ؟
-نعم ..نعم..لقد كنت أنا وجدتي كلما مررنا من هنا نقف أمامه نتأمله كثيرا وتقول "يا حسرتاه على زمان كانت فيه صديقتي العزيزة "ليلى " تضيء هذا البيت وتذرف بعضا من أدمعها الباردة ..وأخبرتني بعد إلحاحي المستمر على سر بكائها .. ومن تكوت " ليلى" هذه فقالت وقد ارتعشت فريستها :
"ليلى يا حفيدي قطعة من نور ..وطيبة..وكومة من مشاعر وأحاسيس رقيقة..تعارفنا ونحن صبيتان ..وتآلفنا ونحن شابتان يافعتان ..وتزوجت من جدك " سي الحسين" وباعدني عنها المكان وما علمت من أمرها شيئا إلا بعد مرور بضع سنين عندما قالت لي جارتي يوما أن عائلة سي الطيب قد رحلت ولا احد يعرف لماذا ..ولا أين ولا كيف ولا متى؟ رحلت ليلى و في صدرها حرقة عليه ..وفي عيونها صورته..
-من هذا الذي رحلت وهو في صدرها ..وعيونها ؟؟..
-وما لك أنت تسال عن كل شيء يا حفيدي ...
قالت "سيغورني" ..
..ولما وضعوني ..وسرت مياه النبع تحت عرشي وانفلقت أربعة عيون ..دار "ميشال" حولي سبعة أشواط .. والكل مبهوت متعجب ..ثم وقف أمامي ..وكنت مستقبلة القبلة ... وكان مستقبلا المسجد الجامع العتيق ..نظر في جسدي العاري مليا بقلبه لا بعينيه ...وقال "هل يتاح لي أن أعود إليك مرة أخرى أيتها المصلوبة التي في عريها طهر وفي غربتها وطن ..وفي..وفي...وفي ..ثم تراجع إلى الخلف خطوتين ..وتقدم ثلاث خطوات ومد يديه الناعمتين وشرب حفنة ماء .. وبخ شعره الذهبي وسالت من عينيه دمعتان يتيمتان واستدار صوب العربة ..سار نحوها ..نظر إلى بيت "ليلى" شد على أسنانه العاجية وهمّ بالركوب , وضع رجله اليمنى على ظهر العربة يسمع فجأة نداء ينبعث من شرفة العمارة التي سكنتها حبيبته الراحلة .. فيستدير نحو مصدر الصوت وإذا بها.....!يتبع
(تابع) ... كنت أنا أيضا أظن ذلك إلى أن التقيت يوما "سي رابح " هذا الأستاذ الجامعي ..وابن الشهيد . و قد حكى لي بمرارة عن هذه الساعة .. التي كانت تحيا في دوران عقاربها الدائم والمستمر ..ولكن حياتها توقفت في الساعة الصفر من ليلة أول نوفمبر سنة ألف وتسعمئة وأربعة وخمسين ,عندما أطلق عليها احد المجاهدين الجزائريين رصاصة أسكنت النبض فيها ..مات الزمن فيها وحيت الحرية في قلب من رماها بالرصاص . لأنه كغيره من الجزائريين قد أعلنوا انطلاق واندلاع الثورة التحريرية وجاءت الحرية محلقة وقد أوشك المستعمر على أن يكسر جناحيها –اجل هكذا قال" سي رابح " الذي تحسر أمامي لأنه جاء من قضى عليه بنزعه من مكانه بحجة أشغال الطرق وحتمية المدنية .و التحضر .قال حينها :( لقد مات في هؤلاء الضمير وتخربت فيهم الذاكرة " وتوقف عن الكلام .."
-أتعلم يا"أسعيد " أن "سي رابح " ذكرني بقائد من قادة جيش مملكتنا ..كان للملكة ذاكرتها ..وللجيش إرادته ..ويحارب بسيفه و يراعه ..فقط لأنه أحب موطنه بصدق ..مثلما أحبه أبوه الطبيب الذي مات في ميدان المعركة واقفا ..ولأنه أيضا يريد أن يؤدي واجبه في الميدان كما أداه من رحلوا "..
-إذن يا "سيغورني" أوصيك أن تتأملي تقاسيم وجهه لتأخذي منها الكثير ..فإنه يأتيك باستمرار وهو أستاذ جامعي بهذه المدينة ..وإذا كانت الساعة الكبيرة قد توقفت بالحروش واستهدفت قبل سنوات ..فإنه لا يأتي إليك إلا لأنه يعتقد أن ماءك يا عين الفوارة لن يتوقف أبدا " مثلما لا يتوقف حبه لوطنه وإجلاله للشهداء الذين وهبوا أنفسهم لهذا الوطن ..وأبوه واحد منهم ..
-سيكون له ذلك يا عزيزي ..فمثلما يتنقل باستمرار بين الحروش وسطيف ..انتقلت أنا من تلك المدينة " –الحروش- " إلى-سيتيفيس- قبل سنوات طويلة .. وهذا قاسم مشترك أكبر ...ووصلنا المدينة حين المساء .. وعجلات العربة تلتهب وتدك الأرض دكا, توري قدحا ملتهبا يزين السمرة التي طبعت وجه ذاك المساء ..
-وميشال جنبك .
-اجل طوال الطريق كان جنبي ..لكن لما دنونا من أسوار المدينة قام من مكانه وأرسل بنظره صوبها و قد بدت مساكنها المتناثرة ..وعلت وجهه كآبة خرساء ..وسالت من عينيه دمعتان ملتهبتان شوقا وحنينا لموطن حبيبته "ليلى" ولقد انفطر قلبي لحاله ..وكان لا يدري بذلك طبعا ..وتمتم بكلمات لم أفهمها ..لكنني عرفت معناها ..
-ومن منا لا يحن إلى موطن حبيبه يا "أسعيد" فقد بكى قبلنا قيس وجميل وولادة ..وبكى أيضا ..شكسبير ..وطاغور..وذو الشيب الصغير " -..مرة أخرى تذكرين ذا الشيب الصغير ..وهل ارتحل عن حبيبته حتى يحن إلى أطلالها ؟
-لا تصدق إن قلت لك أن بينه وبينها جدار ..فحسب, لكن الذي رحل عنهما هو القمر الذي ينير دروب حبهما ..الذي تبرعم وازهرّ في شتاء بارد ..وذبل وأضمحل في ربيع مزهر ..
-آه يا "سيغورني" ما عدت أفهمك ..وما صرت اصبر عن لقائه..أين يمكن أن يكون الآن ..يجب أن ألتقيه ..
يوما ما ستلتقيه يا "اسعيد" فلا تستبق الأحداث
-لا عليك. وكيف دخلتم المدينة -.سيتيفيس -؟
-دخلناها ..انا و"ميشال " كعصفورة مصلوبة وأسد جريح ..النبع الذي شهد أول لقاء بينه و بين حبيبته ليلى هو النبع الذي جمع بيني و بين "حبيبي " المصلوب الذي لا أعرف أين هو الآن !؟
-تقصدين أن البحار "ميشال " وضع التمثال قرب النبع ورجع "ّ؟
-قبل أن ندرك النبع ..كان "ميشال واقفا و العربة تسير ..كان يتأمل الشوارع بدقة . وهي التي سار فيها يوما رفقة حبيبته ..و ينظر إلى البنايات ..ويسائل الشرفات عن "ليلاه" لكن هيهات أن تكلمك الأطلال يا عزيزي ..فلو كانت الأطلال مجبرة على المكان الذي رحل إليه الأحبة لكلمت قبله "قيس" ..ويحضرني اللحظة قول ذي الشيب الصغير باكيا حبيبته واقفا بالأطلال :
الجرح جرحي و الدموع مترجم *** و الشعر زادي والقريض مواسم
رحل الذين نحبهم وتغربوا *** والقصد مجهول فمن ذا يعلم
ورجعت للأطلال ألمح قفرها *** والصخر من ألمي أنا يتألم
ولا أريد يا أسعيد أن أكمل قصيدته لأنك ستسمعها منه في إحدى أمسياتكم الشعرية بناديكم الأدبي ..
-أخّاه عليك يا "سيغورني " مازلت تلهبين النار في صدري ولا تطفئينها ..اهو من قال هذا ..لله دره ..إنه ينطق على لساني ..
-بل على ألسنة كل الذين أحبوا ..أوفوا..غدروا..فتدفقوا شعرا ..وتوشحوا صبرا , مثلما كان- ميشال- يبدو صابرا ونار الشوق والحنين تضطرم في أحشائه . ودنونا من المنبع ..من العين التي لا تنضب ..وقبل أن ينزلني مع مساعديه من العربة ..راحت دوائر تنهيداته تشكل حلقة من حزن وأسى في عنق المدينة ..ونظر يمينه فإذا هو "المسجد الجامع العتيق"..الذي كان ينبعث منه الآذان فترتعد منه فرائسه ويحس بأنه ليس مجرد كلام .. إنما هو دعوة إلى عوالم الخير والفضيلة والنجاح ..بل شهادة على سعادته الباطنية الكامنة بين ثناياه *تذكر حبيبته "ليلى" التي كان كلما فكر في الخلوة بها .ولو عن حسن نية تقول له أ ن هناك من يرانا .. وتذهب في اليوم خمس مرات للقائه ..إنه الله يا "ميشال ".
ثم نظر شماله فإذا هي بناية مرممة ..بيت حبيبته..هنا ولدت ..هنا تربت ..هنا عرفتها هنا كانت تنام محتضنة صورتي بلباسي العسكري .هنا .هنا. هنا...
يسمعه مساعدوه وهو يردد هذه الكلمة ..فيعجبون لأمره ..فيعود ليستجمع إرادته ثانية ..
-أشار" أسعيد " بإصبعه إلى العمارة التي كانت تقابله والتي كان ميشال قبله بعشرات السنين يكلمها وقال "سيغورني" أهنا كانت تسكن "ليلى"؟
أجل هذا هو مسكنها ..وهل تعرف عنه شيئا ؟
-نعم ..نعم..لقد كنت أنا وجدتي كلما مررنا من هنا نقف أمامه نتأمله كثيرا وتقول "يا حسرتاه على زمان كانت فيه صديقتي العزيزة "ليلى " تضيء هذا البيت وتذرف بعضا من أدمعها الباردة ..وأخبرتني بعد إلحاحي المستمر على سر بكائها .. ومن تكوت " ليلى" هذه فقالت وقد ارتعشت فريستها :
"ليلى يا حفيدي قطعة من نور ..وطيبة..وكومة من مشاعر وأحاسيس رقيقة..تعارفنا ونحن صبيتان ..وتآلفنا ونحن شابتان يافعتان ..وتزوجت من جدك " سي الحسين" وباعدني عنها المكان وما علمت من أمرها شيئا إلا بعد مرور بضع سنين عندما قالت لي جارتي يوما أن عائلة سي الطيب قد رحلت ولا احد يعرف لماذا ..ولا أين ولا كيف ولا متى؟ رحلت ليلى و في صدرها حرقة عليه ..وفي عيونها صورته..
-من هذا الذي رحلت وهو في صدرها ..وعيونها ؟؟..
-وما لك أنت تسال عن كل شيء يا حفيدي ...
قالت "سيغورني" ..
..ولما وضعوني ..وسرت مياه النبع تحت عرشي وانفلقت أربعة عيون ..دار "ميشال" حولي سبعة أشواط .. والكل مبهوت متعجب ..ثم وقف أمامي ..وكنت مستقبلة القبلة ... وكان مستقبلا المسجد الجامع العتيق ..نظر في جسدي العاري مليا بقلبه لا بعينيه ...وقال "هل يتاح لي أن أعود إليك مرة أخرى أيتها المصلوبة التي في عريها طهر وفي غربتها وطن ..وفي..وفي...وفي ..ثم تراجع إلى الخلف خطوتين ..وتقدم ثلاث خطوات ومد يديه الناعمتين وشرب حفنة ماء .. وبخ شعره الذهبي وسالت من عينيه دمعتان يتيمتان واستدار صوب العربة ..سار نحوها ..نظر إلى بيت "ليلى" شد على أسنانه العاجية وهمّ بالركوب , وضع رجله اليمنى على ظهر العربة يسمع فجأة نداء ينبعث من شرفة العمارة التي سكنتها حبيبته الراحلة .. فيستدير نحو مصدر الصوت وإذا بها.....! يتبع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.