بتكاثر عدد المهرجانات الغنائية على مدار العام في فصل الصيف بصفة خاصّة، واحتضار الملتقيات والمهرجانات الأدبية والفكرية على مدار العام وفي فصل الصيف بصفة خاصة أيضا، استولدت هذه الحالة سؤالا هجينا بين المسخ والنسخ، تسلخه الإجابات وتوغل في إرباكه غمزات المثقفين.. ولأننا لا نهوى ممارسة النميمة على الأرصفة رفعنا عنه غلالة التواطؤ مع الصمت، وأسلمناه للمصارحة: أين الثقافة الفكرية والأدبية من كلّ هذا؟ ولماذا تعامل رؤى المثقف كولد عاق باعتبار أن ميزانية المهرجانات الغنائية لا يحلم بعشرها أكبر ملتقياتنا الأدبية..؟ رغم كثرة تنقلاته والتزاماته ورغم التعب الشديد الواضح على محياه، إلا أنّه استقبلنا وفتح لنا باب مكتبه وقلبه على حد السواء، إنه السيد لحضر بن تركي المدير العام للدّيوان الوطني للثقافة والإعلام الذي ارتأت "الأيام" أن تحاوره لتضع النقاط على الحروف وتسلط الضّوء على عديد القضايا الشّائكة التي تطفو على سطح الساحة الثقافية الجزائرية. بداية "بن تركي" أكّد أنّ الدّيوان باعتباره مؤسّسة تحت وصاية وزارة الثقافة، توكل لها مهمة المنفذ لبرامج وزارة الثقافة بالإضافة إلى البرامج المسطرة من طرف الديوان الذي يعرف حركية ثقافية ونشاطا دائما على مدار السنة من سينما-مسرح-معارض...إلخ "ومن لا يريدون رؤية نشاطاتنا فذلك شأنهم". أما فيما يخص المهرجانات المنظمة على الساحة الوطنية فهي حوالي 180 مهرجان كلها مقننة و هي تعتبر من المكاسب، رغم أنها مازالت في بدايتها وهي تكبر مع الوقت شيئا فشيئا وستثمر النتائج المرجوة منها على المدى البعيد. وعن الحملة التي تعرض لها الديوان مؤخرا بخصوص صرف ميزانية ضخمة لتنظيم مهرجانات خاصة بالغناء والرقص، يجيبنا السيد لخضر بن تركي أنّه لخلق حركة ثقافية لابد من تجاوز الفكر الضيق وسياسة النقد من أجل النقد، فبالنسبة للميزانية التي تصرف على المهرجانات فالمواطن يساهم فيها أيضا، وهو يحضر بقوة وبأعداد هائلة في كل المهرجانات وبمحض إرادته، فمثلا مهرجان تيمقاد شهد توافد أكثر من خمسين ألف متفرج خلال عشرة أيام، وبالنسبة لمهرجان جميلة حضره أربعة عشر ألف متفرج خلال أربعة أيام رغم أن جميلة منطقة نائية بعيدة عن سطيف ب 55كم. ويتساءل ذات المتحدث لماذا عندما تكون مهرجانات في دول أجنبية نصفها بالثقافة والتنوير وعندما تنظم في الجزائر نقلل من شأنها ونصفها بالتهريج وتبذير الأموال هذا من جهة، ومن جهة أخرى لو قارنا أنفسنا فقط بجيراننا من الدول العربية فنحن مازلنا بعيدين جدا حيث لا تمثل نشاطاتنا نسبة 10% من أنشطتهم الثقافية. "فإذا لم نقم بأي نشاط قيل عنا منغلقين وتسببنا في الجمود والقحط الثقافي، وإذا قمنا بنشاطات انتقدنا أشدّ انتقاد، لست أدري لماذا كل الأنظار والانتقادات موجه صوب الديوان رغم أن وزارة الثقافة تملك 48مديرية ثقافة بالإضافة إلى دور الثقافة مؤسسات ثقافية عديدة إضافة فنحن لسنا أقل من هذه الدول حيث لدينا أفكار ومؤهلات بشرية ومادية تمكننا من أن نبدع ولا نكون فقط مستهلكين لثقافة الآخرين". ويضيف المتحدث فيما يخص الاهتمام بالفنانين الأجانب والضجة التي تسبق حضورهم للجزائر يقول "إن الجمهور هو من يخص الفنانين الذين يحبهم بالترحاب والاهتمام، وعلى الفنان الجزائري أن يعمل أكثر ويجتهد للوصول للعالمية، فالموهبة وحدها لا تكفي بل لابد من تكوين وبحث وثقافة وإمكانيات لأن طريق الفن ليس بالسهل، ولكن هذا لا يعني أن الفنان الجزائري مهمش فالفنان يبنيه جمهوره وليس المؤسسات، والفنان الذي لديه جمهور مستحيل أن يهمش والدليل مشاركة حوالي 50 فنان جزائري في كل من تيمقاد وجميلة". وفي الأخير يتوجه السيد لخضر بن تركي بدعوة المنتقدين لنشاطاته لزيارة تيمقاد بعد انقضاء فعاليات المهرجان حتما سيجيدونها خاوية على عروشها، وهي دون مهرجان هيكل بلا روح والأمر سيان بعد اختتام مهرجان جميلة. ولكن فيما يتعلق بالجمهور فجمهور الشعر والسينما والمسرح جمهور نخبوي محدود، أما بالنسبة للغناء فله شعبيته وجمهوره الواسع، على سبيل المثال بلغ جمهور الشاب خالد في جميلة ثمانية آلاف متفرج و جمهور نوال الزغبي بتيمقاد بلغ تسعة آلاف متفرج، والديوان لا يملك إلا أن يكون عند تطلعات الجمهور العريض ويلبي أذواقهم.
تعرف سطيف واقعا ثقافيا يتراوح بين الخمول والكساد لكنه بين الحين والآخر تهب عليه بعض نسمات الحركية من خلال نشاطات بعض الأندية والجمعيات الثقافية على رأسها جمعية النبراس الثقافي والمقهى الأدبي، ولطرح ما تحمل هذه الطروحات من أسئلة التقينا مدير الثقافة ادريس بوذيبة، الذي بدا متحفّظا جدا.. وسألناه:
ما تقييمكم للرّاهن الثقافي الجزائري بصفة عامة والسطايفي بصفة خاصة كونك شخصية محسوبة على الساحة الأدبية الشعرية في الجزائر بغض النظر عن كونك صاحب منصب إداري؟ يعرف المشهد الثقافي في السنوات الأخيرة حركية ملموسة وخاصة فيما تعلق بالفنون الغنائية والموسيقية والإبداعية وحتى السينما أيضا التي عرفت انتعاشا هاما بفضل الدعم المتحصل عليه.. على الصعيد ذاته تعرف حركة النشر نشاطا ملحوظا إذ خطى خطوات ملموسة في الخمس سنوات الأخيرة.. والأمر طبعا يعود لمخطّطات الدّعم المقدّم لتنمية وتطوير قطاع المكتبات والمقروئية بشكل عام.. ولكن، يبقى الرهان الحقيقي هو الجدلية المفترضة بين المنتج والمستهلك أي الجمهور، لأن أي تطور ثقافي دائم وشامل لا يكتب له الدّوام ما لم يحتضنه المجتمع بكل فئاته.. وهنا نشير إلى الدور المركزي الذي تلعبه المؤسّسات التعليمية التي ينبغي عليها أن تنمّي في الأجيال الجديدة روح التذوق الجمالي للفنون والآداب على غرار ما يحدث في كل المنظومات التربوية. في سطيف؛ يعرف المشهد الثقافي حركية لا بأس بها في مختلف المجالات خاصة بالنسبة للمرافق التي سيكون لها الدور الرئيس في احتضان مختلف شرائح المثقفين والمبدعين إذ يكفي بأن نذكر أنّه سيتمّ خلال هذا العام فتح أكثر من 60 مكتبة بلدية وهو رقم حريّ بالتأمّل والتفاؤل.. كما أنّ دار الثقافة تعرف عملية ترميم شاملة لتكون جاهزة لاستقبال مختلف النشاطات.. هذه السنة أيضا تعرف انطلاق القطب الثقافي الذي يضم مجموعة من المرافق الثقافية.. سألناه: هل المرافق الثقافية هي الرّاهن الثقافي أجابنا : المرافق تحوي الفعل الثقافي .................................................. سألناه: ما تعليقكم على حملة في الفايس بوك حول ضخامة ميزانية المهرجانات الغنائية ؟ أجابنا: المهرجانات الغنائية نكهة ثقافية عالمية.. كل العالم المتقدّم يشهد قيام مثل هذه المهرجانات وفي الجزائر الأمر يبدو متوازنا جدا إذا ما قورنت فقط بجارتينا تونس والمغرب. سألناه: حتى في المغرب عرف مهرجان "موازين" حملات شرسة، هناك من دعا إلى عدم صرف المال العام على حفلات لا تسمن ولا تغني من جوع؟ أجابنا: لكن المهرجان أقيم .. هل نسمح لأقلية بفرض رأيها.. سألناه: هل نقتل صوت الأقلية إذن.. أجابنا:....................................................... في الواقع لكل هذه المهرجانات رواد.. وأنا أرى أن المطالبة بالإلغاء تقهقر فكري فظيع وتخلف أيضا أن نطالب بقمع اللحن الغنائي والصوت الموسيقي. سألناه: أليس من التقهقر الفكري أن يتمّ تغييب نصيب الثّقافة الفكرية في الصيف.. علما أنّ ميزانية هذه المهرجانات لا يحلم أكبر ملتقى أدبي بعشرها.. نريد أن يكون للثقافة الفكرية في هذا الطيب نصيب.. أجابنا:.........................الثقافة الفكرية في الصّيف تتوقّّف .. لكلّ فصل خصائصه .. وفي شهري الصيف المجال يفسح للثقافة الغنائية.. سألناه: بالعودة إلى الراهن الثقافي السطايفي.. الكثير من المثقّفين يتذمّرون من ندرة الفعاليات الفكرية والأدبية وقد كان الأستاذ زتيلي قد صرح في غير مرة أنه يسعى لجعل سطيف عاصمة ثقافية بوصفها عاصمة أو قطبا اقتصاديا بارزا.. لكنّنا لازلنا نبحث عن تجسيد هذا الحلم.. فما تعليقكم؟ أجابنا:................ لست مؤهلا للتعليق..على إنجازات زميل سابق لي سألناه: من باب قراءة أرض الواقع فقط.. ما تقييمكم لما مضى وما هو تطلعكم لما هو آت؟ أجابنا: لا.. لست مؤهلا للتعليق.. سألناه: شمل المثقفين في سطيف مشتّت للغاية هل من تظاهرات في الأفق تسعى للمّ هذا الشمل؟ أجابنا:.. والله.. علينا توفير الفضاءات ونترك لهم حرية المبادرة.. وسيجدون أبوابنا مفتوحة للجميع..
تحتضن مدينة كويكول الأثرية بجميلة بولاية سطيف إلى غاية 28 من الشّهر الحالي مهرجان جميلة العربي في دورته السّابعة، وكانت محافظ المهرجان نصيرة عباس قد كشفت في ندوة صحفية نظمت بقاعة الموقار بالجزائر العاصمة عن برنامج الطّبعة الذي يضمّ أسماء جزائرية وعربية، حيث تشهد الطّبعة السابعة مشاركة ستة دول عربية و155 فنان وموسيقي عربي بالإضافة إلى 175 فنان وموسيقي جزائري. واعترفت نصيرة عباس أن المعادلة في غاية الصعوبة بين إرضاء الجمهور وإرضاء الفنانين واحترام الوقت، ولكن الديوان يحاول إحداث التّوازن والتوفيق بين هذه المعطيات. "ونحن مضطرون" تضيف المتحدّثة "للحفاظ على مهرجان جميلة مهما كانت الظروف والصعاب لأن جميلة جزء من هويتنا وتاريخنا وهي معلم أثري وموروث ثقافي يشترك فيه كلّ الجزائريين.
تشرف السيدة ربيعة موساوي منذ سنة2006 على مديرية الثقافة بوهران، حيث تسعى إلى كسر الرّوتين وتحريك المشهد الثقافي لاستقطاب وجذب الجمهور، حيث تقع تحت إشراف هذه المديرة منشآت ثقافية هامة كالمسرح الجهوي عبد القادر علولة وكذا متحف أحمد زبانة، بالإضافة إلى قاعات السّينما التي كانت سبّاقة في عرض أفلام حتى قبل عرضها في دول أجنبية. كما أثنت السيدة المديرة على المجهود الذي تبذله وزيرة الثقافة خليدة تومي من خلال العدد الكبير للمهرجانات التي تنظمها، كما ترى أنّ هناك اهتماما بالفنان الجزائري ووضعه يشهد تحسنا ملحوظا حيث أصبح يحظى بمكانة مرموقة. وتضيف أنّ الثقافة ليست لها حدود، وهناك مجهودات كبيرة تبذل، حيث تسعى الوزارة إلى توفير مكتبة بكل بلدية بالإضافة إلى وجود 25 مكتبة متنقلة، وستستفيد منها وهران أواخر السنة الحالية، فالدّولة التي لا تملك مكتبات لا تملك فكرا. وغيرتنا على الوطن تضيف ذات المتحدثة تجعلنا نقارن أنفسنا مع غيرنا من الأمم ونشحن طاقتنا وجهدنا في سبيل اللحاق بالرّكب الثقافي، معتمدين في ذلك على البحث عن الوسائل الناجعة لاستقطاب الجمهور، وخلق فضاءات ثقافية تكون في مستوى تطلعاته، حيث هناك ميزانية ضخمة مخصّصة للأنشطة الثقافية، وبالتالي لابد من العمل واستثمارها في نشر الثقافة وتطوّرها. كما صادف تواجدنا بمكتب المديرة تواجد السّيدة سعادة طاوس وهي ممثلة لوزيرة الثّقافة، كانت بوهران لمتابعة فعاليات مهرجان الأغنية الوهرانية من جهة، كما أنها تقوم بدورات تفقّدية، حيث أكّدت من جهتها أنّ قطاع الثّقافة تعزّز بالعديد من المنشآت الثقافية الهامة، بالإضافة إلى إنشاء مراكز ولجان مكلفة بالبحث في كافة المجالات الثقافية بغرض تطوير القطاع وفق سبل وعلمية ومنهجية واضحة.
ما يمكن قوله في هذا الصدد هو أن السّياسة الثقافية غائبة، قد لا نتّهمها بأنها غير ممسكة بزمام الأمر مطلقا، لكننا نستطيع القول إن الجهات الوصية لا تراقب من تسند إليهم الأمر.. المشكلة إذن في التّسيير أولا وأخيرا، إنّ الجهات المسؤولة تقيم علاقات ضيّقة على أساس القرابة والبيوقراطية وما إلى ذلك وتحيد عن كلّ الأسس الثقافية وهذا قطعا يغيّب كلّ الأطراف الفاعلة التي من شأنها تقديم الوجه الحسن لكل الفعاليات الثقافية.. مؤخّرا كنت من بين المدعوّين للمهرجان "حرّر خيالك" الشعري؛ وبكلّ صراحة؛ التجربة لم تكن مطلقا في مستوى الطموح والتوقّع.. المهرجان لم يكن ناجحا على غير ما روّجت له بعض الجهات الإعلامية لأن الفاعلين الحقيقيين لم يُدعَوا.. هناك اعتبارات أخرى ومعايير لا ترقى لمستوى الحدث، فقد دعي أناس ليس لهم الحضور الكافي في الساحة، وحصل تهميش كبير وأستطيع وصفه بأنه تصنيف عنصري وإقصائي أيضا.. ما هو معتمد في كل تظاهراتنا وجود قائمة للمغضوب عليهم لا يظهرون إعلاميا وأخرى للتقرب منهم زلفى تظهر في الوسائل الإعلامية وتقول إن هذا المهرجان أو ذاك كان قمة في التنظيم والتسيير والنجاح.. وفي كل شيء.. وكنت أنا طبعا من أصحاب القائمة الأولى وقدّمت احتجاجاتي التي طغت عليها ظلمات التعتيم طبعا.. المهم في قضيتنا هو أن الأمر دائما يؤول إلى عنصر التسيير.. لابد من ترشيد النμفقات فلا تذهب أموال الرأي العام هكذا هباء منثورا.. أدعو لأن يسند الأمر لأهله.. ولا للدخلاء الذين يشوّهون الوجه الثقافي للبلد، الذين يساهمون في اتّساع دائرة الإقبال على التهريج وتضييق دائرة الإقبال على الفكر والأدب بمعناهما الشّريف.. أعلم أنه لكل ميزانيته.. فحتى وإن كانت ميزانية الملتقيات الفكرية والثقافية الفاعلة قليلة فإن التسيير الجيد هو من يجعلها تؤتي أكلها كل حين.
هذه الظاهرة تكاد تعم العالم العربي كله من المحيط إلى الخليج خاصة في فصل الصّيف.. وإذا تحدثنا عن دور المثقف في ما يجري؛ فعلينا أولا أن نحدّد المعنى الشّامل لهذا المصطلح، ماذا نعني بالمثقف العضوي.. ؟ إنّه ذلك الذي يحسّ بالمسؤولية تجاه مجتمعه ويبدي رأيه وموقفه في الواقع الذي يعيش بكلّ صرامة وجدية ووضوح، والسياسات الثقافية في بلادنا والعالم العربي عليها أن توجد استراتيجيات ناجعة لملء فراغ هذا المثقف الذي يعيشه اليوم وما تعكسه مثل تلك المهرجانات خير دليل على عدم إشراكه وسماع صوته.. إنّه فعلا يتحمّل نوعا من المسؤولية لكن هناك سياسة خاصة هناك فاعلون هناك جهات وصية.. كلها تتقاسم وزر الوضع الذي نحن عليه.. لقد أصبحنا في عالمنا العربي لا نمتلك مثل هذا المثقف وهنالك عوامل لا يتّسع المقام لذكرها تتعلق أساسا بالعلاقة الجدلية بين السياسات والثقافات، لو طرحنا سؤال: من يستفيد من هذه المهرجانات؟ هي فئة من يعيشون نوعا من التّرف توظّف لها الجهات الوصية أموالا كبيرة.. بينما نعيش مختلف المشاكل المعيشية اليومية باستمرار. مؤخّرا حصلت ضجّة إعلامية حول حملات فايس بوك ضد هذه المهرجانات، طبعا هناك شق فني وشقّ ثقافي فكري في كلّ الثقافات وإن كنا ضد التبذير المالي لكننا لا ندعو للانزلاق إلى متاهات أخرى أرادها مروّجوا هاته الحملات.. لكنني أعود وأقول إنه يجب توفير الأموال في ما يجب.. إن الميزانية المخصصة للمهرجانات الفنية أكبر بكثير من تلك المخصصة للمهرجانات والملتقيات الثقافية الفكرية، وأجرة المطربين أضعاف أجرة الأديب والمثقف الذي يداخل في ملتقى أو الشاعر المشارك في أمسية.. وأنا أرى أنّه في ظل هذا الواقع المتغير الذي يعيشه العالم العربي فمن المهم توجيه هذه الميزانيات لدعم المثقف العضوي لدعم الثقافة التنويرية الفاعلة التي تملأ فراغ الوعي والرأي الذي نعايش أزمته في كل حين.. المهرجانات الفنية وإن كانت ترفيهية فإننا نعيشها لأيام وتختفي لتبقى الأزمات على أعقابها تنتظر حل السياسة الثقافية الرشيدة.. على المثقّف أن يعود ليمسك بزمام الأمور..
كان مقر «جمعية أضواء» بالعاصمة هو الحيز المكاني الذي جمعتنا جدرانه بالممثل القدير محمد عجايمي، فهو المكان الذي يفضله ويتنفس عبر كل زاوية من زواياه عبق السينما ويتذكر الأسماء العملاقة التي أضاءت بفكرها وأعمالها السينما الجزائرية وشرفت الجزائر في المحافل الدولية، فمنهم من رحلوا ومنهم من مازال يتوجع في صمت، ومن هؤلاء فناننا محمد عجايمي الذي فتح قلبه ل "الأيام" وأفرغ الوجع الذي بداخله. من خلال الحوار الذي جمعنا به لمسنا نبرة الحزن على ما آل إليه الوضع الثقافي، وصرّح بها حينما همس لنا : "لقد قلتم عليّ المواجع"، فالوضع الثّقافي في بلادنا لا يبشر بخير في جميع الأحوال، حيث كثر الدخلاء وأشباه الفنانين وحتى أشباه المنتجين، فالفن معناه الإبداع والابتكار في أرقى درجاتهن فكيف يمكن لأناس لا يفقهون القراء والكتابة أن يصنّفوا أنفسهم بفنانين ففاقد الشّيء لا يعطيه. للأسف الشّديد يضيف محمّد عجايمي إنّ الفنان الحقيقي المتعلم المثقف الذي لديه تكوين و كفاءة أصبح عملة نادرة، ولذا لابد من تشريع قوانين تضبط المقاييس الواجب توفرها في الفنان،الممثل، المخرج، المنتج...إلخ. الجزائر لديها كفاءات من ممثلين ومخرجين وتقنيين من الغيورين على الثقافة الجزائرية والمحافظين على ثوابت الأمة، إلاّ أنّ بعض المسؤولين على القطاع يفضلون استيراد الأجانب والمغتربين من وراء البحار ممن ليست لديهم أدنى درجة من الروح الوطنية لإنتاج أفلام تجسيد تاريخ الجزائر، في حين الممثل المحلي مهمّش وخارج مجال التغطية سواء من حيث الاهتمام أو التمتع بأدنى حقوقه، وهذا التهميش مقصود و لحاجة في نفس يعقوب. ويؤكد استياءه قائلا: "إن الجزائر ليست البقرة الحلوب لتستغل أموالها في مشاريع تسيء للجزائر وتاريخها، فأبناء الجزائر أولى وأدرى بتاريخهم".ويضيف اليوم واقع الثقافة في الجزائر يدمي الفؤاد فكلّ الموازين مقلوبة رأسا عن عقب ويستمر هذا في ظل انعدام الاهتمام بالفنانين وغياب سياسة وإستراتيجية واضحة تسير القطاع.
مؤسسة فنون وثقافة هيئة تابعة لولاية الجزائر متواجدة على مستوى سبعة وخمسون بلدية، أنشأت منذ 1999 بغرض تحريك وتفعيل المشهد الثقافي. وفي حوار أجريناه مع السيد حموش فوضيل مسؤول البرمجة بمؤسسة فنون وثقافة أكد أن المؤسسة متفتحة على كل ما هو ثقافي وعلى كل الفنون والمشاريع التي من شأنها أن تساهم في التنمية الفكرية وترقية الثقافة بكل ما تحمله الكلمة من معاني وأبعاد حضارية، حيث لا يتجاوز الجانب الفني 40 بالمائة من نشاطات المؤسسة،فليس من أبجديات الثقافة التركيز على الجانب الفني فقط، وتشمل أنشطة المؤسسة المعارض في الفنون التشكيلية والفنون التقليدية بالإضافة إلى ندوات فكرية ومحاضرات، وكذا أربعاء الكلمة، الأيام الشعرية للجزائر، مسرحيات خاصة بالأطفال التي تهدف إلى تكريس الجانب التربوي. أما فيما يخص المقاييس المعتمدة من طرف مؤسسة فنون وثقافة فيضيف أنّه تمنح الفرصة لكل الفنانين والجمهور هو الحكم، فمن كانت له شعبية أكثر ومردود متميز نوعا وكما يفرض نفسه في الميدان.
في حديث عن واقع الثقافة في الجزائر صرح المخرج المسرحي جمال بن صابر رئيس جمعية عبد الرحمان كاكي بمستغانم ل"الأيام" بأنّه يعتقد أنّ السّاسة يعانون من تأخّر في إدراكهم لدور الثقافة والفنان والمثقف ولا يؤمنون بأن الثقافة عامل تطور للأمة. وأضاف يقول: "إنّ الفنون هي تعبير عن الثقافة يمكن تقديره و قياسه، و مصدرها شعبي لأنّ المثقف والفنان يتغذّيان من الذاكرة الشعبية ويتشبعان منها، فهي الذاكرة الجامعية للمجتمع". كم أكد أن المسرح على غرار الفنون الأخرى أخذ منحا تاريخيا تمثل في كونه مسرح الدّولة وراودته حركة المسرح الهاوي، إنّ وزارة الثقافة الحالية بذلت مجهودات معتبرة لتطوير وترقية الفنون عموما والمسرح على وجه التحديد، لكن الملاحظ أنّه بالرّغم من هذا الزّخم من الدعم يبقى المحصول الإبداعي جد متواضع و دون سقف الطموحات و لو أن هناك بعض النجاحات المتفرقة، فالمسابقات الخاصة بالنّصوص الدّرامية للحصول على الكاكي الذهبي التي تمّ تدشينها منذ أربع سنوات من طرف محافظة المهرجان الوطني للمسرح الهاوي بمستغانم بينت أنّ هنالك ضرورة ملحّة للتكوين في كتابة الدراما وكذا التقنيين والممثلين الدراميين، ولذا لابدّ من وضع سياسة فعلية للتكوين، إن مبادرة الكاكي الذهبي تندرج ضمن هذا المسعى. فالثقافة تبنى من الأسفل للوصول إلى الأعلى لكن ما يلاحظ أن هنالك اهتمام ضعيف بالثّقافة من طرف المواطنين هنالك من يعتبرها "آخر عجلة للعربة" وفي الأخير يقول ذات المتحدث قناعتي أنّ الأمر يبدأ من المدرسة بالعمل التّحسيسي حول الفنون والتقاليد ويوجه نحو الشبيبة، كما يكمن الأمر في اختيار المنتخبين في المجالس المنتخبة في البلاد بإقحام عدد أكبر من المثقفين والفنانين والباحثين المدركين للطبيعة الحقيقية للمشاكل المطروحة و يجدون الحلول المناسبة لها والتي من شأنها تطوير الفنون والثقافة. والنداء الذي أتوجّه به أنه ينبغي على مؤسسات الدولة مساعدة الفنانين والمثقفين في مشاريعهم من أجل إعطاء دفع للإبداع الفني الثقافي والمساهمة في نشر الثقافة عبر كل الوسائل الإعلامية، لدينا تاريخ عريق ولدينا ماضي مجيد حافل بالبطولات ويزخر برجال ونساء أبدعوا وكتبوا وحكوا، ورسموا صور الحياة اليومية لأجدادنا الذين ورثنا منهم تراثا ماديا ولاماديا أتمنى أن يتم التكفل به من قبل الجميع.
أنشأت الفنانة المبدعة صالحة خليفي لنفسها مدرسة فنية خاصة بها تعتمد على الخط اللهيبي حيث لم يسبقها لهذه التقنية أحد سواء في الجزائر أو الوطن العربي، حيث جمعت لوحاتها أسمى القيم الإنسانية والقيم النبيلة، ومازالت في رحلة بحث دائم عن الجمال القيمي وعن المعالم المضيئة في أغوار النفس البشرية. داعبت بأناملها السحرية أكثر من 800 لوحة منمنمات وشاركت بها في العديد من المحافل الدولية، و نالت عدة جوائز في كل من كندا، فرنسا، جمهورية التشيك...إلخ إلاّ أنها لم توجه لها دعوة للمشاركة في تظاهرة تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية.. وجدناها تحترق في صمت، ويجمعها نفس القاسم المشترك مع كل المثقفين الذين يعانون التهميش والإقصاء، فهي محرومة من أبسط حقوقها وهو الحق في السّكن، للأسف تقول خليفي: "الفنان في بلادنا لا يُهتم به إلا بعد وفاته، رغم أن الفنان هو من يساهم بفكره في بناء الحضارة والتاريخ والانتماء و يصنع الخصوصية الثقافية لبلده. الثقافة بما تحتويه من أشكال فنية وأدبية لا يمكن حصرها في مجال معين وإقصاء باقي المجالات، لذا لابد من تنظيم القطاع وتحقيق توازن في توزيع رؤوس الأموال الثقافية بعقلانية لتشمل كل أشكال الثقافة بمفهومها الواسع.