يبيع معظم التجّار ويشترون بعملة بلدهم النقدية، زيادة على عملة أخرى من نوع خاص، هي شكل من أشكال الضّمان الذي تحتاج إليه الأنفس، بعد أن تمّ تزويد الجيب بما يحتاج إليه من مال، وتكاد تكون الممارسات التجارية في الجملة رهينة لهذه الثنائية التّاريخية المعروفة منذ أجيال، حيث يجري تدجيج السّوق بسلاح روحي يضمن استمرار دورته، ولأن المسألة هنا تتعلّق بالمصالح، وتتعدّد أطراف المصلحة بكثرة الناس، فإن "غياب الصدق"، حتى لا نقول "حضور الكذب"، سيكون الخاصية الأولى التي تطبع علاقات المتعاملين، ومن أجل محاورة خفيفة طريفة لهذه الحقيقة، تم إعداد هذه الورقة التي ترجو أن تكون متميّزة في طرحها. لعلّ من بين الأحاديث "المضعّفة" أو المنزّلة في مرتبة "المجهول" عند بعض التجّار حديث "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم؛ المُسبل والمنان والمُنفق سلعته بالحلف الكاذب"، فإن أحسنّا الظنّ بمعرفة بعض التجار ببعض العلوم، ولِيكن منها علوم الدين، ولو على سبيل المعرفة الثقافية العامة، جاز لنا جواز تقدير ثقافي أن نصدّق معرفتهم بالثُّلُثين، من مجموع الفئات التي صنّفها هذا الحديث، أي إلى حيث ترتسم تخوم المغضوب عليهم الذين لا ينظر الله تعالى إليهم يوم القيامة من غير التجّار، وبالطبع لو دخلنا في "جدال شوارع" مع تاجرٍ منهم، إلا من رحم ربي، فإن في مقولة "المنفق سلعته بالحلف الكاذب" وحديث "من غشّنا فليس منا" من قبيل "المسائل التي فيها قولان"، مع سبق حُسن النية وإخلاص القصد في تأوّل المعنى أو صرفه إلى حيث يُبعد عنهم تُهمة مخالفة نص صريح والتبرّء ممن انتهك حُرمَته. من المعقول بالنسبة للإنسان الذي تتعدّد فيه نوازع الفتنة التي تفتك بدينه أن ينقاد وراء أكثر أصناف المغريات إتلافا للعقل وتخريبا للمصالح العامة، كما من المعقول أن يبحث عن تبريرات لأفعاله التي أَعْماهُ الطمع فقاده إليها، وربما أوصله إلى حدّ توهّم تحقيق مصالح الشريعة في مخالفاته، بناء على معرفته بقاعدة في "فقه المعاملات"، يَسوقُه أثر ما بقي من رفقة قرينه المغلول بسبب الشهر الفضيل إلى جمع شذرات من هنا وأخرى من هناك، من قول فلان وعلاّن، ومن جزء تأويل حديث، وحادثة لا صلة لها بموقفه، مع استشهادٍ بفعل عارفٍ أراد أن يحقّق حكمةً لا تتحقّق بغيره في فعله، ليخرج إلى العالمين "بعِلم لم يسبقه إليه أحد، وخالف به كل الفقهاء والمذاهب"، وإن أغرته نفسه بمواصلة البحث عن سراب مذهب يتّكأ إليه لإقناع نفسه بجدوى فعله. إن كان معقولا من الإنسان المَجبول على المرض بحبّ المال إلى هذا الحدّ البحث عن كل هذه المبرّرات للوصول إلى هدفه، واهمًا ومُوهِمًا غيره بصحة ما يفعل، فإنه من غير المشروع له أن يُحيط الحكمة الربانية بسياجه كما يُحيطه بأمواله، ولا أن يترك عقله متخلّفا عن نفسه التي تجرّه كأعمى وتجعله يركب الكذب والغشّ، سابحًا في غفلة أشبه برحلة نومٍ عميقٍ. من أكبر مكائد الشيطان ومكره أن يحوِّل شغل المتديّنين ومن لم يوجّه وجهه يوما لله من تجّار المسلمين إلى قِبلة الفتوى وحُكم الشرع فيما ابتُلي به من جشعٍ في طلب المال، رغم أن كل محطّات الحياة تمرّ بلا مراجعة للمواقف ولا احتساب عند الذين لا يعرفون من دينهم سوى "طقوس النّحر في الأعياد" وحضور الجنائز، دون الصلاة على الأحبة الراحلين فيها، ورغم أن كل محطّات الحياة أيضا تمرّ بالنسبة لإخواننا المتدينين من التجّار بلا خلاف حول أقوال العلماء ولا سعي إلى البحث عن الغريب والشاذ، أو ما لم يحصل حوله نقاش مستفيض. في إحصائيات لم يتم إجراؤها، يمكننا أن نفترض بأن التجار، على اختلاف أصنافهم، هم الأكثر إقبالا على القَسَم بالله وحتى بغير الله، إذ يمكن تصور تسجيل أرقام خيالية في خانات جدول مُصمَّم، يتضمن كل أنواع "الحلف" المتداولة في مجتمعنا؛ بالعربية والفرنسية وبالأمازيغية، يتنقل ويتداول، بكل روح فنية، تجّارنا على استخدامها لإثبات جودة السلعة بطريقة غيبية، يصدّقها الناس في الغالب لثقتهم بالله وليس لثقتهم في الباعة، ولأنهم لا يجرؤون حتى على الشك في أن وجه الله سوف لن يُبتغى أو لن يعني شيئا أمام أرباح يطمع بها الباعة، وأيضا لأن مجتمعنا مسلم ويُحسن الظن فيمن يقسم بالله لأنه على الأرجح يعلم بأن الأرزاق مقسّمة ولن يأتي بها إلى "مكتوبه" كُرها. رغم كل ما يُقال عن تجار المواد الاستهلاكية خلال شهر رمضان، فسوف لن نجد المسافة بعيدة بين هؤلاء وغيرهم، خصوصا وأن تجارنا متنقّلون حسب رغبات المجتمع التي يتحكّمون بها حين يتحوّلون إلى النشاط فيها، ولعل تغيّر واجهات المحلاّت ومعروضاتها بطريقة إبداعية مثيرة للدهشة، تشبه إلى حدّ بعيد فعلا سينمائيا، أكبر دليل على ذلك، حيث يمكن أن نؤمن بقلوب خاشعة بأن أعرق متجرٍ لبيع الملابس الصيفية في أكبر مدينة، سيتحول بين عشية وضحاها، صبيحة أول يوم من شهر رمضان إلى محل لبيع الحلويات المعروفة بشدة الإقبال، فضلا على أن التغييرات التي تجري على واجهة المحل تجعل المتتبّع يتوهّم بأن صاحبه سيستقرّ إلى الأبد في ممارسة هذا النوع من النشاط، لفرط إتقان التغيير والجدية في بعثه. إذا كان واقع التجارة متغيّرا إلى هذا الحدّ، فإن الأكيد هو أن الذي يبيعك الأجهزة الإلكترومنزلية أو اللحوم بضمانات ربانية خالية من الصدق، هو نفسه الذي سيبيعُك الحلويات الرمضانية، ولكن ربما دون الحاجة إلى قسم، لأن شدة اللّهاف وطول الطوابير أمام محلّه تجعله في مركز قوة وتُغنيه عن توزيع "صكوك الأمان" على زبائنه، ولعلّها فرصته الدنيوية النادرة في أن يقي رصيد حسناته من النفاد، لو شاء الله وجاءه زبائنه يوم الحساب لاسترداد مظالمهم منه. دعاني أحد الأصدقاء الذي فاض تذمّرا من كذب تجّار الجملة، وهو تاجر التجزئة، إلى فتح تساؤل، بدأه ببعض النقاش معي، حول الصدق في التجارة وأسباب تفشّي الكذب، خصوصا، كما وصفه ب"الكذب المجاني"، الذي لا يعود على صاحبه بمال ولا باعتبار، وربما عاد عليه بخسارة، يفقد بموجبها زبائنه الذين غدر بهم، في مثل وعده لهم بتسلّم سلعة في يوم معلوم، ثم يكون هو نفسه أول من يخالف وعده، دون أن تكون لديه مبرّرات معقولة، بل لا يجد حتى ما يردّ به حين يأتيه السؤال في اليوم المعلوم، فكان طَرْق السؤال حقا أمرا مطلوبا، خصوصا وأن شهر "ازدهار التجارة" هو رمضاننا هذا!.