"الشعر ليس إلهامًا، الشعر انتباه إلى ما يدور في نفسك، وما يدور في محيطك الصغير، وما يدور في محيطك الكبير وهو الكون. درجة الانتباه الحادة التي ترى، وتلاحظ، التي تدرك، التي تتوقف، التي تندهش، عند ما هو عابر، وعند ما قد لا يبدو مدهشًا عن الآخرين، هذا الانتباه الحاد هو ما يولد الكتابة".. كانت هذه إجابة الشاعر الفلسطيني "مريد البرغوثي" عندما سُئل عن الشعر وهل هو إلهام كما يشاع ويزعم البعض؟! مُريد البرغوثي، وُلد في دير غسانة إحدى القرى التابعة لرام الله، في اليوم الثامن من شهر يوليو لعام 1944، أي قبل النكبة بأربع سنوات. عاصر فترة ميلاد دولة إسرائيل، ثم سافر إلى مصر لإكمال دراسته الجامعية، فوقعت النكسة سنة 1967، وحُرم من العودة إلى رام الله، «نجحت وتخرجت، حصلت على ليسانس من قسم اللغة الإنجليزية وآدابها، وفشلت في العثور على جدار أعلق عليه شهادتي». نشأ مُريد على قراءة كتب التراث من الشعر العربي، مثل الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، في مكتبة مدرسته الثانوية برام الله، ثم وقع في يده في مرة من المرات التي زار بها المكتبة، كتاب مختارات من الشعر الحديث؛ ليغير ذلك من نظرته للشعر ويجعلها تتعمق أكثر وأكثر. شَعُر لأول مرة أن الشعر بإمكانه معالجة قضايا اليوم، وأن الشعر يتكلم عن المشاكل الحالية كالديكاتورية وتعسف الحكام. أثناء دراسته بكيلة الآداب بجامعة القاهرة، كانت له عدة محاولات شعرية شجعها زملاؤه، وفي سنته الرابعة قدم للأستاذ "فاروق عبد الوهاب" واحدة من تلك القصائد لنشرها في مجلة المسرح التي كان يرأس تحريرها رئيس القسم الدكتور "رشاد رشدي"، وما أن فعل ذلك حتى بدأت نوبات الرعب والندم. ثم نُشرت القصيدة في اليوم الخامس من يونيو لعام 1967، والتي كان عنوانها "اعتذار إلى الجندي البعيد"، وكأن عجائب الأقدار تجسدت كلها في تلك الواقعة. الشعر العربي مر بمراحل تطور قبل أن يصل إلينا في صورته المعروفة، فأولًا مرّ بمرحلة السجع، ثم مرحلة الرجز، ثم مرحلة الشعر الأخيرة والنهائية الموجودة في كتب التراث. كما أن الشعر هو أقدم الآثار الأدبية في كل الأمم. والشعر العربي الجاهلي لا يُعرف بالضبط متى بدأ نظمه، فما وصل إلينا، هو قصائد القدماء قبل مئة وخمسين عامًا من الإسلام. والأرجح أن الشعر كان ينظم قبل ذلك بكثير، ولكن لم يصل لنا من المحاولات الأولى شيئًا. ومن الأسباب الكبرى لتأخر تدوين الشعر الجاهلي في صدر الإسلام، أن العرب كانوا يفضلون الشعر المُلقى. بمعنى، أن الشعر المكتوب لم يكن يعبر عن عاطفة الشاعر، ولم يكن يصل إلى نفوس المتلقين بدرجة الشعر المسموع. والسؤال هنا ما جدوى ذكر هذه المقدمة عن الشعر العربي في الحديث عن "مُريد البرغوثي"؟ والإجابة تكمن في أني واحدة من المتلقين الذين لا يستسيغون الشعر المكتوب. أفضل سماعه لأشعر بعاطفة الشاعر وهو يلقيه، ولكن، لم أمر بنفس الأزمة مع شعر "مُريد البرغوثي"، فقصائده تُلقي نفسها بنفسها؛ فالعاطفة الموجودة بها قوية جدًا، لا تحتاج إلى إلقاء لتستشعرها. وقليل جدًا من الشعراء لديهم نفس الميزة مهما بلغت قوة شعرهم. نوعية الشعر التي يقدمها لنا "مُريد" تمتاز بأصالة الشعر العربي الذي عهدناه على ألسنة رواة الشعر الجاهلي، كما تمتاز بحداثة الموضوع، فألفاظه تجمع بين الجزالة والبساطة. أصالة، لم يقدر على تقديمها سوى قارئ ودارس نَهِم للشعر كلهِ عمومًا والعربي منه خصوصًا. كما تتسم بعض قصائدة بِسِمة الشعر المنثور، مثل قصيدة "أبو منيف" في ديوان "طال الشتات" الذي نُشر أول مرّة سنة 1987. "أدركتهُ وكأنه، مذ كان، لم يفجع بمخلوقٍ سواك! الموتُ فينا منذ آدم يا أبي عَمَمٌ وعاديٌ تمامًا كيف باغتني، إذن، حتى العظام؟" أقرّ الكيان الصهيوني أن كل من كان خارج رام الله وقت حرب ال 67، صار لاجئًا، غير مسموحٍ له بالعودة، حتى وإن حاولَ مرارًا وتكرارًا؛ لذا ابتعد "مريد" مرغمًا عن الوطن وتفرّق شمل أسرته الحبيبة. وكانت هذا رحلة الشتات الأولى للشاعر الفلسطيني، أما الثانية، فكانت بعد زيارة الرئيس المصري أنور السادات للكنيست الإسرائيلي وما تبعها من قرارات اعتقال وتحديد إقامة ونفيّ خارج البلاد لدحض التمرد عليه، وكان نصيب "البرغوثي" منها، قرارًا بالإبعاد خارج مصر، ليترك "مريد" زوجته الحبيبة وابنه الرضيع، ويرحل مرغمًا. الشتات الأول والثاني أثر في عاطفة الشاعر، فتجد القصائد التي كتبت في تلك الفترة، بعضها مُهدى لأهله ورفاق الكفاح الفلسطيني، وبعضها لزوجته وابنه. وأخرى تتغنى بالوطن. ومن القصائد التي كتبها لرفاقه، كانت القصيدة التي كتبها ل "ناجي العلي" بعنوان "حنظلة طفل ناجي العلي" ونشرت في مجلة السفير اللبنانية:
"لأجلك يبني المقاول معتقلاً في الرمال ويستوردون مسيل الدموع وسيل الدروعِ وأجهزة الالتقاط وقاضي القضاةِ وخير الرماةِ ومن يعقدون الحبال لأنك مازلت في مُلكهم هم اخترعوا لك هذي الكروش وأيديهم الطائلات لعنقك أنى تحط الرِّحال هنا كل شيء مُعد كما تشتهي فلكل مقام مقال مكبرةُ الصوتِ في ليلة المهرجانِ وكاتمة الصوتِ في ليلةِ الاغتيال!"
أما "قصيدة الشهوات" المنشورة في ديوان "رنة الإبرة" عام 1993، فاسترجع فيها الشاعر الفلسطيني المنذور للشتات، ذكريات طفولته في قرية "دير غسانة":
"شهوةُ للَّعب للصوصية الطفل فينا نغافل بخلَ العجوز التي وجهُها مثل كعكٍ تبلّلَ بالماءِ كي نسرقَ اللوز من حقلها، متعةُ العُمر أن لا ترانا وأمتع منها، إذا ما رأتنا، مراجلنا في الهرب، وأمتعُ من كلِّ هذا إذا استلمت خيزرانتها واحداً، وانضرب!"
2
لكنّ المشاعر المريرة التي خلفها الشتات، أرى أنها تجمّعت وتجلّت في قصيدة "رضوى" الثانية التي ُنشرت في ديوان "فلسطيني في الشمس" الذي صدر أول مرة عام 1974. والتي كتبها لزوجته "رضوى عاشور" عندما كانت متغيبة في الولاياتالمتحدةالأمريكية لإنجاز رسالة الدكتوراه.
"يا رضوى الغائبة بعيدًا بعد البحر ها نحن حملنا باقات الورد الأحمر وتوزّعنا في كل مداخل قريتنا ننتظر خطاكِ، يا رضوى الزرع الأخضر طفلٌ القمر الأحمر طفلٌ والعالم طفل فتعالي ها نحن توزعنا في كل مداخل قريتنا ها نحن حملنا باقات الورد الأحمر"
ومُريد إذا ما قورن بشعراء فلسطينين آخرين من نفس جيله، سنكتشف أن "الشتات" لم يسمح له بالحصول على نفس شهرتهم. يحكي الشاعر عن إحدى المقابلات الصحفية التي دارت حول أول قصيدة نشرها وأنها نُشرت في مفارقة غرائبية، يوم الهزيمة. وأنه تساءل هل انهزم العرب والفلسطينيون بسبب أنه كَتَب شعرًا؟ السؤال كان ساخرًا بالطبع، ولكن إجابتي اليوم عليه بسؤال آخر؛ هل كانت "فلسطين" التي نُزعت من أهلها ومنّا قطعة أرض وراء قطعة أرض، وبيتًا وراء بيت، وحجرًا وراء حجر، لتبقى لو لم يكتب "مُريد" شعرًا؟ هل كانت لتبقى تكافح من أجل حقها في الوجود بدون كلمات شعرائها، هل كانت لتصل للعالم؟ هل كانت لتبقى بدون قصص وروايات "غسان كنفاني" الذي أرّخ فيها بطولات ومآسي الشعب الفلسطيني؟ هل كانت لتبقى بدون حنظلة طفل "ناجي العلي"، هل كانت لتبقى بدون أفلام تصل للأوسكار فيجلجل اسم فلسطين عاليًا أمام مرأى ومسمع الدول التي أنكرتها؟ إن التاريخ الذي زوّر في المدارس العربية قبل الغربية، وحكى عن أن الشعب الفلسطيني خائن وبائع لأرضه، ما كان ليجد من يرد على افتراءاته بدون أدب وفنّ هؤلاء. إنني أستطيع أن أرى فلسطين في أبيات "مُريد البرغوثي"، وأن أسافر معه إلى رام الله في عمله النثري "رأيت رام الله"، أن أشعر بنفس مشاعره التي تُنقل للقارئ حرفًا حرفًا، وبيتًا بيتًا. إن فلسطين حيّة تقاوم مادام أولادها يقاومون بالبندقية والقلم، وفلسطين ستموت إذا نزل القلم وترك البندقية وحيدة.