لاشك أن الإنسان يعيش في عالم تحكمه قواعد وضوابط فيزيائية صارمة لا مفر منها، بل لابد من الارتهان بقواعدها، وفي الجهة الأخرى من هذه الحياة تعيش أسباب أخرى -قد لا ندركها بوضوح-، حيث تحكم الحياة الشخصية السوسولوجية والحياة الاجتماعية، ولها يخضع التنظيم الاجتماعي بالكامل، ويأتي الناس تحت هذا التقسيم على أصناف وأبواب، وعلى أساس هذه الأصناف والأبواب تتحدد ولاءاتهم الدينية فيما يسمى ب"العقيدة"، فينقسمون بطريقة انضباطية على مجموعات تتوزع تمذهبهم، وأصلح هذه المجموعات أن يتخذ المسلم لنفسه من صاحبة الركيزة الدينية المتفق عليها مبدأ له. تألِيه قوانين الطبيعة الالتفات إلى الأسباب بالكلية واعتماد القلب والجوارح عليها من غير نظر لمسببها، كنظرة الماديين والعقلانيين الذين وقعوا في الشرك لأنهم أثبتوا موجودا مع الله مستقلا بالضر والنفع، وهذا باطل مخالف للكتاب والسنة والإجماع، كما أن الأسباب قد تتخلف عن مسبباتها بإذن الله كما يشهد لذلك الحس. ترك الأسباب قدح في الشرع الإعراض عن الأسباب بالكلية هو أحد الطرق الشائعة عند البعض من الناس في فهم التوكل، كنظر البعض إلى أن تحقيق التوكل يكون بترك الأسباب، وأصحاب هذا الاعتقاد تركوا التكسب والعمل والاحتراز والاحتياط والتزود في السفر والطعام، وهم يرون ذلك كله مناف للتوكل، ولهم شبه ضعيفة رد عليها العلماء، كما أن الإعراض عن الكسب والخمول بدعوى التوكل له آفات ومفاسد يصعب حصرها، وهذا الموقف -الإعراض عن الأسباب بالكلية- حكم عليه العلماء بأنه قدح في الشرع. عالم بلا أسباب رؤية عقل ناقص نفي تأثير الأسباب بالكلية هو أيضا من أنواع الفهم المنتشرة في إدراك معنى التوكل، ووصف العلماء هذا القول بأنه "نقص في العقل" وهو قول القدرية الجبرية، وهم يرون أن الله لم يخلق شيئا سببا ولا جعل في الأسباب قوى وطبائع تؤثر، وغرضهم الرد على القدرية النفاة، لكنه ردوا بباطل، وهذا الموقف فاسد باطل مخالف للكتاب والسنة والإجماع ولا يتفق معه عقل سليم، لأن الحجة قائمة بالتجريب. الانضباط بقواعد الأسباب والتوكل على الله من الحلول الوسطى لقضية التوكل وهو حلّ عدل عقلا وشرعا، قيام الجوارح بالأسباب واعتماد القلب على مسبب الأسباب سبحانه وتعالى، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، وهو مذهب الحق، حيث أثبت للأسباب تأثيراً في مسبباتها لكن لا بذاتها، بل بما أودعه الله فيها من القوى الموجبة، وهي تحت مشيئته وقدرته، فإن شاء منع اقتضائها وإن شاء جعلها مقتضية لأحكامها، والآخذون بهذا المبدأ والفهم يوجبون الأخذ بالأسباب ويعتقدون عدم منافاتها للتوكل، بل إن التوكل من أعظم الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار ونفي الفقر ووجود الراحة، ويرى المتمذهبون بسنة الحق هذه ضرورة الأخذ بالأسباب مع عدم الاعتماد عليها، ويكون التوكل بالقلب على الخالق مع اتباع الأسباب في ظاهر الحال فقط. عبودية الأسباب يحملها ساق التوكل الأخذ بالأسباب ثم الاعتماد على الله عز وجل هو مذهب أهل الحق، قال الله تعالى "وقال يا بني لا تدخلوا... المتوكلين"، وفي جانب الرزق قال تعالى "هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور"، قال بعضهم "لا تقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل، ولا يقوم ساق التوكل إلا على قدم العبودية"، والسبب الذي أُمر العبد به أمر إيجاب أو أمر استحباب هو عبادة الله وطاعته له ولرسوله، والله فرض على العباد أن يعبدوه ويتوكلوا عليه كما قال تعالى "فاعبده وتوكل عليه"، وقال "واذكر اسم ربك...فاتخذه وكيلا"، «المزمل» الآيتان 8 و9، وقال "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه"، والمقصود أن الله لم يأمر بالتوكل فقط، بل أمر مع التوكل بعبادته وتقواه التي تتضمن فعل ما أمر وترك ما حذر، فمن ظن أنه يرضي ربه بالتوكل دون فعل ما أمره به كان ضالا، كما أن من ظن أنه يقوم بما يرضي الله عليه دون التوكل عليه كان ضالا، وأن من ظن أن التوكل يغني عن الأسباب المأمور بها فهو ضال، وهذا كمن ظن أنه يتوكل على ما قدر عليه من السعادة والشقاوة دون أن يفعل ما أمره الله به، فإن كانت أسباب مقدورة له وهو مأمور بها فعلها مع التوكل على الله كما يؤدي الفرائض وكما يجاهد العدو ويحمل السلاح ويلبس جبة الحرب ولا يكتفي في دفع العدو على مجرد توكله دون أن يفعل ما أمر به من الجهاد، فإن قيل كيف يطلب ما لا يعرف مكانه؟ جوابه أن يفعل السبب المأمور به ويتكل على الله فيما يخرج عن قدرته مثل الذي يشق الأرض ويلقي الحب ويتوكل على الله في إنزال المطر ونبات الزرع ودفع المؤذيات، ومن ترك الأسباب المأمور بها فهو عاجز مفرط مذموم.