درج بعض المفسرين المتقدمين عند شرحهم لبعض آيات القرآن الكريم على الخوض في جزئيات وتفاصيل سكت عنها القرآن نفسه ولم يتعرض لها من قريب أو بعيد، وحاولوا البحث عن المراد منها وربما فسّروها أو أوّلوها بما بدا لهم من رأي أو بما وقفوا عليه من روايات ضعيفة، في حين أن القرآن وإن كان يتضمن جوانب إعجازية فإنه يبقى "هدى للناس"، به يسترشدون على ثابته، دون أن يشغلهم مختلفه عن تصديقه، وقد سلك بعض المسلمين الذين يتعاملون مع القرآن قراءة وتفسيراً وفهما مسلك هذا التأويل في عصرنا، فتراهم يولعون بالخوض في بيان المُراد من بعض الألفاظ ويجتهدون في السؤال عن تفاصيل لا فائدة تجنى من معرفتها. يقول تعالى في أثناء ما قصه علينا من قصة البقرة "فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى"، فهنا يأتي بعض المفسرين ويتابعهم في ذلك من لم يفقه مقاصد القصص القرآني ويحاول أن يفسّر المراد ب"البعض" الذي ضُرب به ذلك الميت فعادت إليه الحياة، فيقول "المراد بهذا البعض العظم الذي يلي الغضروف، ويقول آخر: ضربوه ببعض لحمها، ويقول ثالث: ضربوه بذنبها، وثمة من يقول: ضربوه بفخذها"، وهناك روايات أخر تُذكر بهذا الصدد، وقد نبّه عدد من المفسرين المتقدمين على عدم جدوى مثل هذا المسلك، فهذا الإمام «الطبري» رحمه الله تعالى يقول "والخير للمفسر أن يُعرض عما لا طائل منه ويعد صارفاً وشاغلاً عن الأصول المعتمدة في شرعنا، وهذا أحكم وأسلم"، أما «ابن كثير» فيقول في أثناء تفسيره لقوله تعالى "بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد"، يقول "وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية، لم أر تطويل الكتاب بذكرها، ونحن في غُنْيَة عنها، ولله الحمد. وفيما قص الله تعالى علينا في كتابه غنية"، وأيضاً، فإن المفسرين المعاصرين تنبهوا ونبهوا إلى عدم جدوى مثل هذا المسلك في التعامل مع القرآن، فنأوا بأنفسهم عن الخوض في تفاصيل وجزئيات لا طائل في الوقوف على تحديدها وبيان المراد منها، فهذا الشيخ «الشنقيطي» يقول بهذا الصدد "ففي القرآن العظيم أشياء كثيرة، لم يبينها الله لنا ولا رسوله، ولم يثبت في بيانها شيء والبحث عنها لا طائل تحته ولا فائدة فيه"، ويقول «سيد قطب» رحمه الله وهو يعلّق على الروايات المنقولة حول قصة موسى وقارون "ولسنا في حاجة إلى كل هذه الروايات ولا إلى تحديد الزمان والمكان، فالقصة كما وردت في القرآن كافية لأداء الغرض منها في سياق السورة ولتقرير القيم والقواعد التي جاءت لتقريرها، ولو كان تحديد زمانها ومكانها وملابساتها يزيد في دلالتها شيئاً ما ترك تحديدها"، ويدلي الشيخ «أبو الحسن الندوي» بدلوه في نقد هذا المسلك عند المفسرين، فيقول "الغاية الأساسية من نزول القرآن هي تهذيب النفوس البشرية والقضاء على العقائد الباطلة والأعمال الفاسدة، أما القصص الجزئية والحكايات المعينة التي أتعب المفسرون نفوسهم في نقلها وأطالوا النَّفَس في ذكرها والحديث عليها، فليس لها دخل كبير ولا أهمية ذات بال"، أما الشيخ «ابن عاشور» فيقول أثناء تفسيره لقوله تعالى "أخرجنا لهم دابة من الأرض"، "وقد رويت في وصف هذه الدابة ووقت خروجها ومكانه أخبار مضطربة ضعيفة الأسانيد، إذ لا طائل في جلبها ونقدها". نختلف حول عدد فتية أهل الكهف أم نعتبر بقصّتهم؟ عند تفسير قوله تعالى "ن والقلم وما يسطرون"، يذكر «ابن كثير» أن النون في الآية: الحوت، ثم ينقل عن الإمام «البغوي» وجماعة من المفسرين قولهم "إن على ظهر هذا الحوت صخرة سُمكها كغلظ السموات والأرض، وعلى ظهرها ثور له أربعون ألف قرن، وعلى متنه الأرضون السبع وما فيهن وما بينهن، فمثل هذه الأقوال والروايات لا ينبغي أن يعوّل عليها ولا أن يلتفت إليها، إذ لا يترتب على معرفتها -على فرض ثبوتها- تكليف، ونحو ذلك خوض المفسرين في المراد بالصخرة في قوله تعالى "فتكن في صخرة"، فيذكرون أن هذه الصخرة على قرن ثور، وبعضهم يقول إنها صخرة في الريح، ومن هنا يعقّب «ابن عطية» على مثل هذا بقوله "وكل ذلك ضعيف لا يثبت سنده، وإنما معنى الكلام المبالغة والانتهاء في التفهيم، أي إن قدرته عز وجل تنال ما يكون في تضاعيف صخرة وما يكون في السماء وما يكون في الأرض"، ومن الأمثلة على هذا المسلك أيضاً، الخوض في تعيين بعض الأعداد التي ذكرها القرآن، كالاختلاف حول عدد الفتية الذين ورد ذكرهم في سورة الكهف في قوله تعالى "سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم"، ففي هذه الآية خاض بعض المفسرين في تحديد عدد أولئك الفتية الذين آواهم الكهف، ووصل الحد ببعضهم للبحث عن اسم الكلب الذي كان مرافقاً لهم في كهفهم، وثمة من بالغ أكثر، فأراد معرفة لون ذلك الكلب، والجدل حول عدد الفتية لا طائل وراءه، وإنه ليستوي أن يكونوا ثلاثة أو خمسة أو سبعة أو أكثر، وأمرهم موكول إلى الله، والعبرة في أمرهم حاصلة بالقليل وبالكثير، لذلك يوجّه القرآن الكريم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ترك الجدل في هذه القضية وإلى عدم استفتاء أحد من المتجادلين في شأنهم. الحذر من غواية الشيطان أولى من معرفة لباس آدم يختلف البعض حول صفة الصور الذي ورد ذكره في قوله تعالى "ونفخ في الصور"، فما صفة هذا الصور وما حجمه وما نوعه. كل ذلك أمور لا تغني معرفتها من الحق شيئا، وكل ما يجب اعتقاده بهذا الخصوص أن نؤمن أن هناك نفخة في الصور تحدث بعدها أحداث، ولا نزيد في تفصيلها شيئاً، والتفصيل لا يزيد في حكمة النص شيئاً، والجري وراءه عبث لا طائل تحته، ونحو ذلك الخوض في تعيين الشجرة التي نهى الله آدم عن الأكل منها في قوله "ولا تقربا هذه الشجرة"، فقد اختلف البعض اختلافاً شديدا في تعيين هذه الشجرة، فمن قائل هي السنبلة إلى قائل هي شجرة الكرم، إلى قائل هي شجرة التين، وكل ذلك مجاف لقصد القرآن من ذكر هذه الواقعة التي يطلب منا الاعتبار منها واستخلاص الحكم، لا البحث والتحقيق فيما خفي منها، ومما خاض فيه البعض أيضا تحديد طبيعة اللباس الذي كان على كل من آدم وحواء، الذي ذكره القرآن في قوله سبحانه "ينزع عنهما لباسهما"، فقد قيل في تحديد هذا اللباس: كان لباسهما نوراً يستر الله به سوءاتهما، وقيل لباس من ياقوت، وهذا من الاختلاف الذي لا طائل تحته. الرّوح من أمر ربي خاض البعض في تحديد بعض الأماكن التي ذكرها القرآن، كمكان البحرين اللذين ورد ذكرهما في قوله تعالى "لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين"، ومعلوم أنه لا فائدة تُرجى من معرفة مكان هذين البحرين، فالبحث عنه تعب لا طائل تحته وليس عليه دليل يجب الرجوع إليه، ومما جرى هذا المجرى خوض بعض المفسرين في تحديد مكان الوادي واسم النملة وصفتها، اللذين ورد ذكرهما في قوله تعالى "حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة"، مع أنه لا طائل من البحث حول مكان الوادي، ولا في صفات هذه النملة واسمها، ومن الاختلافات المشهورة أيضا، الخلاف حول المراد من الروح المذكور في قوله تعالى "ويسألونك عن الروح"، فيذكرون أقوال عديدة في تحديد هذه الروح، فيقول بعضهم: القرآن، ويقول بعضهم: جبريل، ويقول آخرون: عيسى عليه السلام، ويقولون غير ذلك مما لا طائل تحته، مع أن القرآن الكريم صرّح أن علم ذلك عند الله سبحانه وحده، كما خاضوا في ذكر صفات بعض الأمور التي قرّرها القرآن الكريم، كتحديد صفة الطيور الأربعة الوارد ذكرها في قوله تعالى "فخذ أربعة من الطير"، فقد اختلف بعض المفسرين حول هذه الأربعة ما هي، ولا ريب أنه لا فائدة ترجى من تحديد صفتها، كما خاضوا في تحديد نوع الرجز الذي أنزله الله على بني إسرائيل واسم الغلام الذي قتله الخضر، وخشب سفينة نوح من أي شجر هو، وكم طول السفينة وعرضها، وكم فيها من الطبقات وصفة ذي القرنين ومَن الذي سأله وصفة أجنحة الملائكة وصفة عرش الملكة بلقيس. التساؤل حول هذه الأمور الدقيقة لا يدخل في باب الفائدة إلا بما ثبت نصا معرفته، ولو كان ثمة فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا في تعيين وتبيان شيء من ذلك لبينه الله تعالى لنا، وقد قرر أهل العلم أن كل مسألة لا يترتب عليها عمل، فالخوض فيها عبث، لذلك حري بالمسلم أن يبحث دائما فيما يفيده وأن يتمسّك بما هو معروف بدل السعي وراء أمر مجهول وطلب معرفته.