المرأة ليست جوهرة ولاتحفة، المرأة ببساطة إنسان بالأبعاد المختلفة للذات الإنسانية ليست الأنوثة مادة للخيال ومصدرا للخطر والفتنة.. الأنوثة اليوم تفكر وتعبر وتفعل العبقرية في وصف «ابن القيم» تكمن في تطابق الإفضاء مع الارتقاء إيحاءات الجسد وحركاته ما هي إلا تعبير عن الروح.. البدن مسكن الروح والناطق باسمها. بعد أن اشتد الجدل هذه الأيام حول حدود الفتنة في خريطة الجسد الأنثوي ومكامن الخطر التي يجب تحييدها لإعادة التوازن للذات الذكورية، وبالتالي لمجتمع الرجال أو ربما النساء، تبيّن لي بعد شيء من التأمل أن الضرورة المنهجية في تناول هذا الموضوع تتطلب منا ابتداء العودة إلى مفاهيم الجسد والأنوثة والفتنة لتحديد دلالاتها ومضامينها، وعندها قفزت إلى ذهني مجموعة من التساؤلات وكأنها قصف عاصف، يدور جلها حول طبيعة الأنوثة وعما إذا كانت صفة أم جوهرا؟ وهل الأنوثة مفهوم ثقافي مكتسب أم معنى إنساني مركب؟ وهل يمكن اعتبار الأنوثة مصدرا للعقل والحنكة، أم مكمن للخطر والفتنة؟ وما هو مفهوم الجسد، وهل يمكن تجريده من المعنى والروح والقيمة؟ وشيئا فشيئا تحوّل العصف إلى إرهاصات وتحوّلت الإرهاصات إلى إشكاليات، يتطلب تفكيكها العودة إلي رجال الفقه وأئمة المذاهب كما علماء الاجتماع والنفس، على اعتبار أن الإنسان كيان شديد التعقيد ولابد كما يقول فيلسوف المنهجية المعاصر «إدغار موران» Edgar Morin من توظيف العبرمنهاجية لتحليل ما يرتبط به من ظواهر لا يمكن بحثها إلا في إطار كلاني لا يقبل التجزئة، ومن ثم عدت إلى التراث أستنطقه، في صحبة إمام لا أمل أبدا من مجالسته لأتشرب من روح عبقريته وأتعلم من دقة مقاربته للواقع ومن احترامه للعقل وشجاعته في الخروج عن المألوف إذا تناقض مع تعاليم الوحي ومقاصد الشرع ومعطيات الواقع. إنه الإمام «شمس الدين ابن القيم» رحمه الله، في مؤلفه الشهير "روضة المحبين ونزهة المشتاقين"، وحول مفهوم الإفضاء تحديدا، باعتباره المفهوم الذي تتمركز حوله كل معاني الأنوثة، الأمر الذي سيضطر شيخنا إلى تجلية مضمونه دون تحفظ، خدمة للحقيقة كما عهدناه، ولقد كان عند وعده كما توقعت، حيث وجدته وعلى غير عادة كثير من الفقهاء يوجه الخطاب للإنسان دون تمييز بين ذكر وأنثى، ثم يربط في زمن الإفضاء بين العقل والجسد والعاطفة في منظومة متناغمة وسمفونية مكتملة تعزف على إيقاع الذات الإنسانية المركبة، من خلال التمازج والتشاكل، فبالعقل يدرك الرجل أو المرأة المعنى، معنى أو جوهر الطرف الآخر، سواء ارتبط ذلك المعنى بجوهر الذات الأنثوية أو الذكرية في شخص (المحبوب) من حيث العمق الإنساني، ثم ينعكس المعنى على الذات، فيفيض على الوجدان من خلال العاطفة، ليعبر الجسد ويتفاعل مع تلك المعاني. يقول الإمام «ابن القيم» في ذلك "إذا تشاكلت النفوس وتمازجت الأرواح وتفاعلت، تفاعلت عنها الأبدان وطلبت نظير الامتزاج والجوار الذي بين الأرواح، فإن البدن آلة الروح ومركبه"، وهنا تتحدد علاقة التساوي والتداخل بين الجسد والروح لدى الطرفين المذكر والمؤنث، أما العبقرية في وصف شيخنا، فإنها تكمن في ملازمة وتطابق الإفضاء مع الارتقاء، باعتبار أن إيحاءات الجسد وحركاته ما هي إلا تعبير عن الروح، والروح مردها إلى ما هو أعلى، إلى نفحات الإله، والبدن مسكن الروح والناطق باسمها، كما يعبر «ابن القيم» عن هذه العلاقة في إشراقة أخرى من إشراقاته، بكونها اضطراب بلا سكون وسكون بلا اضطراب، على أساس أن علاقة الرجل بالمرأة أو الأنثى بالذكر لا تنتهي عند حدود العلاقة الجسدية في مضمونها المباشر، فعلاقة الجسد بالجسد لا تختزل في حدود الشهوة التي تنتهي إلى سكون، ولكنه يعبر عن العلاقة بين الطرفين وكأنها نوع من السكون المضطرب، ولا ضير طالما إشعاع الروح قائم يستمد وقوده من المعنى والجوهر، فإن الاضطراب دائم يبدي تجلياته من حين لآخر في صور من الإفضاء الذي عبر عنه «ابن القيم» بشكل تجاوز به رواد الفلسفة الوجودية وما تضمنته من نظريات حول الذات الفاعلة والذات المفكرة وفلسفة الجسد وتعبيراته وفضاءاته ومضمون إفضاءاته. ومفهوم الأنوثة عند «ابن القيم» يستمد من عدم تحديده في تقديمه للجسد عن جنس الذكورة أو الأنوثة، الأمر الذي يؤكد احتراما واضحا للجسد الأنثوي ولغته وعلاماته الدالة والموحية، فالجسد بالنسبة ل«ابن القيم» ليس وسيلة شهوانية شبقية، ولكنه قيمة تفاعلية، وهذا تصور ينطوي على مفهوم مركب للأنوثة ولجسد الأنثى، على عكس من يسعى إلى تجريد الجسد من قيمته المعنوية والإنسانية ويجعله مجرد أداة للجنس، مما ينم عن جهل تام بحقيقة الجسد المؤنث، فالأنوثة إذن عند «ابن القيم» جوهرا وليست صفة ولا يكتمل معناها إلا بتمازجها مع العقل والروح، فإذا انتفى ذلك التمازج، يكون لقاء الجسد بالجسد مستقلا عن الروح وبالتالي عن صلب الإيمان، وربما لذلك جاء حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، لأن الروح بمصدرها الإلهي لا تتجزء وروح الإيمان لا تنفك عن روح العواطف الإنسانية والتي إذا غابت بات الجسد مركبا للغريزة، وهنا يتغير مفهوما الذكورة والأنوثة ويبرز مفهوم الفتنة بمعناه السلبي ويتحول الإفضاء الإنساني إلى ما هو أدنى. ومن أجواء الارتقاء وظلال الجمال والمعنى مضطرة، واصلت رحلة بحثي عن مفهوم الأنوثة، وهذه المرة مع أئمة التفسير، وتحديدا مع الجامع لأحكام القرآن لصاحبه الإمام «أبي عبد الله القرطبي» في تفسيره للآية الكريمة "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون"، «الروم» الآية 21. يقول الإمام «القرطبي» في ذلك "فأول ارتفاق الرجل بالمرأة سكونه إليها مما فيه من غليان القوة، فإليها يسكن وبها يتخلص من الهياج، فأعلم الله الرجال أن ذلك الموضع خلق منهن للرجال، فعليها بذله في كل وقت يدعوها الزوج، فإن منعته فهي ظالمة وفي حرج عظيم"، وهنا تساءلت هل يمكن اختزال السكن في هذا الفعل المباشر؟