تزامن المناورة العسكرية الإيرانية والكشف عن بناء موقع جديد لتخصيب اليورانيوم بالقرب من مدينة قم، مع التهديدات الإسرائيلية بضربة جوية لمفاعلها النووي بناتنز، وتزامنها كذلك مع الدخول في مفاوضات مباشرة بداية أكتوبر مع مجموعة الستة حول ملفها النووي، يؤشر على أن إيران تدرك حقيقة المقولة السياسية والإستراتيجية التي مفادها ''إذا أردت السلم فاستعد للحرب''. من باب أن المفاوضات هي في النهاية محصلة لما تملكه من عناصر قوة مادية ومعنوية توظف للضغط على الآخر لكسب النقاط أو التقليل من الخسائر المتعلقة بالأمن القومي، كما تجعلك تحقق أهدافك دون الإذعان لإرادة ورضا الآخرين، وهو ما تعكسه بواقعية أكثر الآية السادسة عشر من سورة الأنفال، التي تحرض المؤمنين بكسب عناصر القوة لصد العدوان ''وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم..''. فالمناورة العسكرية الإيرانية في بعدها الإستراتيجي هي رسالة لإسرائيل لردع أي محاولة لتكرار سيناريو مفاعل تموز النووي العراقي حين تم ضربه من قبل الطيران الإسرائيلي في سنة 1981، أو إظهار القدرات العسكرية للتصدي لأي تهديد جوي إسرائيلي كما حصل في شمال دمشق عندما دمرت مواقع بحجة أنها تحوي بناء مفاعل نووي مهرب من كوريا الشمالية، خصوصا وأن معظم التقديرات تشير بأن هناك سيناريو جاهز لضربة جوية إسرائيلية خاطفة لأهداف حيوية في إيران، تعاظمت توقعاته بعدما لمح أوباما بفتح المفاوضات مع إيران وتراجع واشنطن عن غرس الصواريخ ببولونيا والتشيك في إطار برنامج الدرع الصاروخي، وتؤكد بعض الدراسات الإستراتيجية جاهزية إسرائيل لضربة خاطفة ضد إيران، ما جعل زبيغنيو برجنسكي، مستشار الأمن القومي السابق في إدارة كارتر وأحد المستشارين المقربين من أوباما، ينصح هذا الأخير بضرورة وقف أي عملية عسكرية إسرائيلية في حالة استخدامها الأجواء العراقية حتى وإن استدعى الأمر توجيه رسالة للقيادة في إسرائيل بأن واشنطن يمكنها أن تهدد بإحباط أي اعتداء يستخدم الأجواء العراقية، حتى تتجنب ويلات الدمار في المنطقة بسبب الانكشاف الأمريكي على القدرات الباليستية الإيرانية القادرة على الوصول للقواعد الأمريكية في الخليج، مع إشعال حرب لامتناهية في العراق ضد القوات الأمريكية في حالة تحريك المقاومة الشيعية المتحالفة مع طهران. وإذا كان سيناريو الضربة العسكرية الإسرائيلية حاضرا، فإن هناك تقديرات من مراكز دراسات إستراتيجية تستبعد هذه الضربة ضد إيران لعقبات عديدة، وهو ما ذهب إليه مركز الدراسات الدولية الإستراتيجية في واشنطن الذي لخص تلك العقبات في حاجة إسرائيل لقوة جوية تصل إلى 90طائرة حربية لديها القدرة على التحليق في الأجواء الإيرانية المحصنة بقدرات دفاعية، كما تملك القدرة على التشويش على الرادارات لإسقاط قنابل كبيرة يمكنها من اختراق المنشآت النووية في باطن الأرض، كما أن العقبة الأساسية التي ستتلقاها إسرائيل أنها ستفقد في أحسن الأحوال ثلث قواتها الجوية، مما يجعلها تقدر التكاليف بخسارة كبيرة مقارنة بنتائج العملية، لأن خيار ضرب المفاعل النووي الإيراني هو خيار للتأجيل وليس للتعطيل، خصوصا وأن الكشف عن المفاعل النووي الجديد بقم هو رسالة لإسرائيل بأن إيران يمكنها من اكتساب مفاعلات نووية سرية خارج نتانز وقم، يضاف إلى تلك العقبات الخطر الإشعاعي الذي يمكن أن تسببه الضربة العسكرية مما يشكل تهديدا بيئيا في المنطقة قد يقتل الآلاف من المدنيين. والمناورات العسكرية بصواريخ شهاب 3 وسجيل المتطور هي أدوات للردع قد تحمل معها رؤوسا كيماوية في حالة تفعيل الخيار شمشون القائم على مقولة ''علي وعلى أعدائي''. كما أن المناورات العسكرية الإيرانية ترمي لحمل الدول الغربية وبالأخص الثلاثي الأمريكي-البريطاني والفرنسي على قبول حزمة المطالب والمحفزات التي قدمتها للدول الست في سلة مطالب ثقيلة بالوزن العسكري الإيراني لحماية مشروعها النووي، لتجنب العقوبات القصوى كما يتصورها دعاة الضغط الاقتصادي والأمني على إيران، وهي عقوبات تمتد من طرح الضغط الاقتصادي والمالي والتجاري على طهران إلى تطبيق الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة، ويمكن أن نقرأ التردد الأمريكي الداخلي حول جدوى تلك العقوبات التي يمكن أن تفرض على حكومة أحمدي نجاد كما طرحه النائب الديمقراطي هاورد إل برمان ورئيس مجلس الشؤون الخارجية بمجلس النواب في مقال له بصحيفة الواشنطن بوست، حيث اقترح تفعيل مشروع العقوبات الاقتصادية الأحادية لجعل إيران تقبل بالشروط الأمريكية، لأن في اعتقاده أن إيران لن تقبل بخيار ''التجميد مقابل التجميد'' أي تجميد إيران لعملية تخصيب اليورانيوم مقابل تجميد العقوبات المفروضة عليها، ومفاد العقوبات التي اقترحها النائب الديمقراطي إلى الكونغرس تصب فيما سمته وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون بالعقوبات المعيقة، بحيث تمنع واشنطن على الشركات التي تمد إيران بالغازولين والمشتقات النفطية المكررة من العمل في الولاياتالمتحدةالأمريكية، مما قد يعيق طهران اقتصاديا باعتبارها تستورد 25بالمائة من المنتجات النفطية من الخارج. وهذا الخيار الأمريكي قد تلجأ إليه واشنطن في حالة تعذر إيجاد إجماع في مجلس الأمن بسبب الموقفين الصيني والروسي الرافضين لتشديد العقوبات، أو في حالة إجماع أمريكي أوروبي بالأخص التحمس الفرنسي الذي يطرحه ساركوزي بجعل إيران تختار بين الضربة العسكرية وتجميد تخصيب اليورانيوم، وهو تحمس له مبرراته السياسية والإستراتيجية، القائم على التحالف الوظيفي مع إسرائيل وإعطاء أهمية حيوية للقاعدة الفرنسية في الإمارات العربية التي تهدف لحصار إيران ودعم أبوظبي في نزاعها في الجزر الثلاثة المتنازع عليها مع طهران. وبعيدا عن الصدام الإيراني الغربي، فإن التصعيد العسكري الإيراني من خلال المناورات والسعي لكسب تقنيات تخصيب اليورانيوم في هذه الفترة يفسر كذلك على أنها عمليات سياسية لكسب الإجماع الداخلي الإيراني بعد الانقسامات الخطيرة التي عرفتها الانتخابات الرئاسية والاحتجاجات التي قادتها الثورة الخضراء في الشارع مطالبة بعدم شرعية الانتخابات لصالح أحمدي نجاد، فتوجيه الرأي العام للخطر الخارجي قد يكسب الإجماع الداخلي كما قد يقلل من تأثير الدعاية الغربية فيما يخص محاكمة الإصلاحي مير موسوي، وهو ما جعل البعض يشير كذلك بأن توقيت الإعلان عن المناورة الإيرانية والكشف عن البناء النووي الجديد تزامن مع وجود أحمدي نجاد في نيويورك في الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة، وهي مناورة سياسية لإبعاد الأنظار عما يجري في الداخل الإيراني وهو تفسير غير بعيد عن المقولة الإستراتيجية ''إذا أردت السلم فاستعد للحرب''.