إضراب الأطباء الذي يستمر منذ ثلاثة أشهر لا يمكن فهمه خارج التركيبة الطبقية للمجتمع، بعد أن انقسمت بشكل لافت للنظر إلى طبقتين·· فقراء ''مزلوطين'' جدا، وهم الغالبية العظمى، وأثرياء جدا عادوا يحسبون ب ''الخيشة''، أي بمعنى المليار دون أن يساوي في نظرهم شيئا· الطبيب (وقس عليه رجل التربية) في معظم الأنظمة الرأسمالية محسوب على الطبقة المتوسطة، وهي الغالبة هناك، وبهذه الصفة يمكنه أن يأكل ويشرب ويسكن ويسيح (في الداخل والخارج) دون معاناة لأن أجرته تكفيه· ولكن هذا الوضع المريح نسبيا منعدم في كثير من الحالات عندنا على الأقل فيما يتعلق بالقطاع العمومي، إلى حد أن المهن والأجور التي تقابلها لا تعكس وضعا اجتماعيا وليست مقياسا للحكم على وضعية أحدنا، فعدد من المحسوبين على البطالين مثلا يلعبون بالمليار دون جهد واضح ومعروف، ما عدا قليل من المعرفة وكثير من ''المعريفة'' وفنون التسلل والانتهازية وتجاوز القانون، أو من المستفيدين من المال العام ومن أرض البايلك أو خوصصة مشبوهة عن طريق ''البور'' بتكثيف الاستيراد ''غير النافع'' على حساب الصالح العام، وكل ما هو منتوج داخلي! وهذا الوضع أدى إلى انقلاب في المفاهيم والقيم، وحتى الأساليب انتهت بتحويل المعلم إلى أضحوكة مطلوب منه تحسين مظهره، والطبيب إلى ألعوبة، ووصل الأمر إلى حد النزاع المسلح بين الأفراد، آخرها إطلاق النار على المدير العام السابق للأمن الوطني على خلفية فضائح ومهازل في التسيير، وعندما يصبح الوضع العام مقلوبا على رأسه مع تهميش المتعلمين الحقيقيين والمثقفين وأصحاب الكفاءات، ورفع قدر الجهلة والأميين وأولاد الحرام بعد أن وضعوا أيديهم على المال الذي هو شريان الحياة بعد الماء، يكون أي صراع فئوي لقلب المعادلة قليل الجدوى ودون فعالية تذكر لأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال هدم جبل (من الجهل) بمعول! وهذا هو السبب الذي جعل الحكومة التي تمثل واجهة الفئة القليلة العالية والمتعالية تجتهد في كل مرة لتفسير خلفيات الاحتجاجات الاجتماعية، وليست الاحتجاجات السياسية التي قد تفسر على أنها تمرد وشق لعصا الطاعة في وجه النظام!