لم تهدأ الجبهة الاجتماعية في الجزائر منذ شهور، واستمرت الاحتجاجات والاعتصامات والإضرابات والمسيرات، وكل أشكال الاحتجاج السلمي وغير السلمي بشكل يومي أو على فترات متقطعة في أغلب مناطق وولايات الوطن، بسبب مطالب مهنية واجتماعية، أبرزها السكن والشغل والأجور. وخلافا للعادة كانت غالبية هذه الاحتجاجات ذات طابع وطني أكثر منه محليا. ولم تسلم القطاعات التي توصف ب"الحساسة" من موجة الاحتجاجات، حيث كان لقطاعي التعليم والصحة نصيب الأسد من الاحتجاجات التي لا تزال تراوح مكانها بسبب عناد مزدوج من طرف النقابات التي تصرّ على مطالبها الاجتماعية، بل وتعدت ذلك لمطالب قد تكون في نظر البعض "خرافية" مثل المطالب التي نادت بها نقابات الصحة برحيل وزير القطاع عبد العزيز زياري الذي بدوره اغتنم تصعيد النقابات ليبرر تصريحاته الأخيرة التي هاجم من خلالها هذه النقابات وهدد باتخاذ إجراءات "متطرفة وراديكالية" نحوها، عوض البحث عن وسيلة حوار ترضي الجانبين وتزيل عن المواطن الجزائري المريض الذي أصبح ضحية بين فكي "التصعيد والتطرف". وإلى جانب حوار "الطرشان" الجاري في قطاع الصحة، يجري أيضا حوار مماثل وإن كان أقل خطورة في قطاع التعليم بجناحيه التربية والتعليم والتعليم العالي، حيث لا يكاد ينتهي إضراب للمعلمين والأساتذة أو المدراء أو المستخدمين حتى ينطلق آخر، خاصة أنّ القطاع مقبل هذه الأيام على الامتحانات النهائية في جميع الأطوار، فعينة من الأساتذة يهددون بمقاطعة الامتحانات، والبعض الآخر يذهب إلى أبعد من هذا فيعلن إمكانية السماح للممتحنين ب«الغش" وفي كلتا الحالتين الضحية هو "التلميذ" و«الطالب" اللذان يواجهان مستقبلا مجهولا. كما لم تسلم قطاعات أخرى لا تزال تحتجّ وترهن مصير التلاميذ والمواطنين وباقي القطاعات الإنتاجية والصحية والتعليم العالي التي زادها "تحدي" الحكومة وتجاهلها لمطالب المحتجين إصرارا على مواصلة الاحتجاج والرد على "استفزازها".. الخبازون، الناقلون، التجار، وغيرهم سايروا أيضا موجة الاحتجاجات وخرجوا أمام الحكومة بشعار "حقي حقي". ويرى مراقبون أنّ موجة الاحتجاجات التي تشهدها الجزائر ناتجة عن سياسة "النعامة" التي تنتهجها الحكومة التي دفعت المواطن الجزائري إلى تبني قناعة أنّ الشارع هو الهيئة الوحيدة التي تمكّنه من إسماع صوته وتحقيق مطالبه، في ظل عدم وجود تواصل واتصال مع الهيئات الوصية التي يقارب عددها 40 وزارة يكاد ينعدم التعاطي المباشر مع انشغالات المواطنين. بالإضافة إلى أنّ المواطنين والموظفين أصبحوا مؤمنين بأنّ الحقوق تؤخذ ولا تعطى في الجزائر، والتصعيد بالاحتجاج والاعتصام والإضراب وحده الكفيل بتحقيق المطالب، الأمر الذي أكدته احتجاجات الجنوب "التصعيدية" التي بدأت تسير نحو الهدوء بمجرد "استجابة" الحكومة وتحقيق أهم المطالب. بلغة الأرقام، أكثر من 10 آلاف احتجاج تشهدها الجزائر سنويا، وربما سنة 2013 ستكون مغايرة للسابقة نظرا للجبهة الاجتماعية التي تغلي دون توقف، السبب؟ غير معروف لدى البعض، والبعض الآخر يؤكّد أنّ "حكومتنا" تهوى الحلول الترقيعية واللحظية وتشتري المشاكل عوض حلها من جذورها، مما يجعلها عرضة للتفاقم ولو بعد حين. فالمواطنون اليوم يعرفون جيدا ما ستتخذه الحكومة من إجراءات إن هم قاموا باحتلال الشارع والتصعيد بالإضراب الممتد والمتواصل. نسيم.ع المختص في علم الاجتماع الأستاذ كمال بوقصة ل"البلاد" الحكومة في واد وانشغالات المواطن في واد يرى أستاذ علم الاجتماع كمال بوقصة في حوار ل«البلاد" أن البلاد مقبلة على انفجار اجتماعي بفعل التراكمات الحاصلة، والسياسة المنتهجة من قبل الحكومة في معالجتها. كيف تقرأون ارتفاع موجة الغليان الاجتماعي وتصاعد وتيرة الإضرابات في الآونة الأخيرة؟ في الواقع، نسبة الإضرابات المتكررة يوميا لا تعكس مدى التذمر السائد وسط المجتمع على اختلاف شرائحه، فالوضع الاجتماعي وصل إلى درجة من التعفن غير مسبوقة، والحركات الاحتجاجية التي أصبحت أمرا معتادا أعلى بكثير مما يتم الإعلان عنه. وهذا الوضع راجع إلى تراكم المشاكل وكذا المطالب لدى المواطن، بشكل يتصادم مع رد فعل الحكومة إزاء هذه المطالب، التي تنأى بنفسها في واد بعيد عن الوادي الذي تصب فيه مطالب الشعب، حيث لا توفر أي إمكانيات للاستجابة لها ولا تفتح أي أبواب مباشرة للحوار بهذا الخصوص. وما يغذي هذا الغليان هو الوضعية المعيشية والاقتصادية المتدنية للمواطن، فلا يوجود تطابق بين تكاليف المعيشة المرتفعة والمداخيل المتواضعة التي يتحصل عليها الشخص العامل، فما بالك من لم يتمكن حتى من الحصول على منصب شغل، في ظل الغياب المطلق لمؤسسات الدولة التي لا تتقرب من شعبها، ولا تراقب الأسعار ومستوى تناسقها مع الدخل الفردي العام ما يخلق نوعا من الفوضى والهيجان الاجتماعي. وما يحدث اليوم هو انعكاس مباشر للطلاق الحاصل بين مؤسسات الدولة والمجتمع، وإهمال المواطن الذي يلجأ للاحتجاج والإضراب للتعبير عن ردة فعله. ألا تعتقدون أن كثرة الإضرابات دليل على طمع النقابات أو تمادي المواطن في المطالب؟ هذا الطرح غير واقعي لأن معظم المطالب المرفوعة من قبل النقابات هي نفسها لم تتغير، رغم أن الحكومة توحي في كل مرة بأنها ستتكفل بالمطالب. كما لا يمكن اتهام المضربين بالتطاول على الحكومة لأن معظم مطالبها شرعية، وهي تناضل من أجل تكريس احترام الحد الأدنى من الحقوق، فعلى سبيل المثال الإضراب الأخير للمحامين كان بدافع إنهاء تسلط القضاة وعدم احترامهم حق المحامي وتجاوز صلاحياتهم. هل تعتقدون أن الحكومة فعلا لا تستجيب لمطالب أصحاب الحقوق إلا تحت الضغط؟ طريقة تعامل الحكومة مع الاحتجاجات والإضرابات المطلبية هي طريقة الأصم الذي لا يسمع ما يدور حوله، فهي في كل الحالات لا تهتم بالانشغالات مهما كان حجم الاستجابة للإضرابات، إلا إذا تحولت هذه الأخيرة إلى قضية رأي عام من خلال تسليط الضوء عليها من طرف وسائل الإعلام المستقلة، وبالتالي تتدخل الحكومة بإجراءات "ترقيعية" وتقدم حلولها على شكل مسكنات ألم سريعة المفعول لتهدئة الوضع وإعطاء الانطباع أنها قضت تماما على دواعي الاحتجاج. ما هي انعكاسات هذه الغليان على الجزائر في رأيكم؟ البلاد وصلت إلى مرحلة ما يعرف ب"التلاشي المطلق للدولة" حيث أصبحت مؤسسات الدولة محلحلة ومشلولة ولا تؤدي دورها، والجزائر في ظل هذا الوضع الراهن مقبلة على انفجار اجتماعي ما لم تتدارك الحكومة الأمور وتعيد خلق آليات للتواصل مع المواطن والإنصات إلى انشغالاته. حاورته: أمينة عبروش الخبير الاقتصادي فارس مسدور ل"البلاد" يجب أن لا يقل الأجر القاعدي عن 40 ألف دج، وعلى الحكومة أن تتقشف ما هي في رأيكم أسباب الغليان الذي تشهده الجبهة الاجتماعية؟ الغليان الاجتماعي مرده تدهور القدرة الشرائية للمواطن الجزائري، وارتفاع نسبة التضخم وانعكاسها المباشر على جيوب العامة، بالرغم من الزيادات التي أقرتها الحكومة سابقا وبأثرها الرجعي. ولكن في المقابل لا يجب أن تنساق النقابات التي تطالب بحقوقها وراء الإضرابات بشكل مفرط ترهن من خلاله حياة المواطنين، خاصة في بعض القطاعات الحساسة كالعدالة، الأمن والصحة، وعليها أن تتبع نظام المداولة في حال أضربت عن العمل وذلك بتوزيع أيام الإضراب على عدد العمال حتى تضمن الحد الأدنى من الخدمة العمومية، حيث لا يمكن تبرير تعطيل مصلحة المواطن مهما كانت الحجة، مثلما حدث مؤخرا في قطاع الصحة الذي سجل عدة حالات وفاة تأثرا بالمرض تزامنا مع الإضراب الذي شل القطاع، حيث يتحمل المضربون والحكومة والوزارة الوصية مسؤولية أرواحهم. ما هو الحد الأدنى للأجر الذي من شأنه تحسين القدرة الشرائية للمواطن في نظركم؟ الحكومة مطالبة بمراجعة معمقة لسلم الأجور تكون مبنية على دراسات اقتصادية سليمة وليس بناء على قرارات سياسية، فسلّم الأجور في الجزائر بعيد تماما عن المستوى العالمي وحتى العربي والإفريقي، وعلى سبيل المثال البطال في فرنسا يتقاضى ما يعادل 60 ألف دج شهريا، أي أجرة أستاذ مساعد في الجامعة. في حين أن الأستاذ المتربص في تونس يتقاضى حوالي 100 ألف دج. والحد الأدنى للأجر القاعدي الذي يفترض أن تقره الحكومة في المرحلة الحالية لا يجب أن يقل عن 40 ألف دج. ما تعليقكم على استخدام الحكومة لشبح تكرار أزمة الثمانينات لترهيب المواطن، وحثه على التقشف؟ الترهيب والتخويف هو أسلوب تنتهجه حكومات الدول المتخلفة،وعلى الحكومة أن تشد حزامها لمعالجة ملفات الفساد الرهيبة بدل دعوة المواطن إلى التقشف، لأن الوضع يهدد بانفجار يفوق انفجار 88. وبالتالي فإن شبح الأزمة الاقتصادية المتربصة بنا مجرد بعبع من صنع الحكومة لإخافة الشعب، ثم لا يمكن فهم ازدواجية خطاب الحكومة بهذا الصدد، حيث تسعى لأن يدفع المواطن فاتورة قضايا الفساد المرتبطة بمسؤولين سابقين بالدولة. في حين أن الوزراء والنواب معنيون أيضا بالتقشف بما أن أجورهم عالية جدا. حاورته: أمينة عبروش