لم يكن يوم العشرين من أكتوبر 2011 إلا السقوط الجسدي للعقيد معمر القذافي الذي قضى 42 سنة من حياته التي بلغت 69 سنة زعيما "للجماهيرية العربية الليبية العظمى"، التي حاول فيها تطبيق ما وصفه بالحكم الجماهيري المباشر المستوحى من كتابه "الأخضر" الشهير والمثير للجدل ، فقد كان السقوط العملي لنظامه قبل ذلك بسقوط العاصمة طرابلس والاقتحام المفاجىء لحصنه الحصين في باب العزيزيةبعد شهور من القتال الضاري ضد قوات المعارضة التي حظيت بدعم عسكري غربي ساهم في ميلان الكفة لصالحها. خرجت الجماهير في مناطق واسعة احتفالا بمقتل "الطاغية"، والتحرر من قبضته الحديدية على البلاد طيلة عقود من الزمن، حيث تربت أجيال منهم لا تعرف غيره زعيما، وسط ترحيب دولي ب«التغيير الديمقراطي" رغم الطريقة المشبوهة التي تمت بها تصفية القذافي بمدينة سرت، حيث غضت عنها الأبصار لأنها حصلت تحت رعاية الدول الغربية الكبرى. لكن مقتل معمر القذافي الذي تهمته الأساسية أنه قضى على كل مقومات الدولة في شخصه، كان بداية لدمار جديد لمشروع الدولة الليبية التي استبشر بها المتفائلون بعد "الثورة ضد الاستبداد"، بعد أن تمسك "الثوار" بأسلحتهم و تنظيماتهم مع تحول في وجهتها من "كتائب القذافي" إلى صراع داخلي، حاول كل فصيل فرض سيطرته ونفوذه على ما تيسر له من تراب ليبيا الذي تمزق إلى قبائل متناحرة، ودعوات انفصال تحت عنوان "الحكم الفيدرالي". سقوط القذافي وأزمة شمال مالي.. لحظة الانفجار أمام هذا التنازع المسلح بين "ثوار" الأمس و«خصوم" اليوم كانت مخازن الأسلحة الضخمة التي كدسها النظام السابق تسقط تباعا في أيدي الميليشيات المسلحة التي قامت بتحويل كميات معتبرة منها إلى عمق الصحراء الكبرى، وبالضبط في شمال مالي حيث كانت الجماعات المسلحة بشقيها "الأزوادي" والتابع لما يعرف بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي الإرهابي، الذين كانا يتحينان الفرص لإقامة دولتهما الموعودة، كل حسب رؤيته. وشاءت الأقدار أن يتصادف هذا الحشد المدعم بكميات من أسلحة الجماهيرية السابقة مع انقلاب نفذه جنرالات ضد النظام في "باماكو" في النصف الثاني من سنة 2012، تسبب في حصول اضطراب في عمليات الجيش المالي الذي انسحب من مناطق الشمال نحو العاصمة، تاركا المناطق التي تترصدها الميليشيات فريسة سهلة في أيديها، حيث تم إعلان انفصال دولة بأسباب عرقية في البداية من طرف القبائل الأمازيغية التي تسكن في تلك المناطق، الأمر الذي خلق للجزائر وضعا بالغ الدقة والحساسية، لاسيما أن البنية الاجتماعية لجنوبها هي نفسها المتواجدة في شمال مالي، مما يعني أن النزعات الانفصالية والتوترات العرقية يمكن أن تمتد في أي لحظة إليها. لكن أحلام الدويلة العرقية في المنطقة انهارت أمام لاعب جديد أثبت أنه قادر على فرض نفسه، وهو فرع تنظيم القاعدة في منطقة الساحل متعززا بكميات هائلة من الأسلحة التي وردت إليه من مخازن القذافي وصلت حتى إلى أنظمة مضادة للطيران! هجوم تيڤنتورين.. الموت القادم من الشرق بالرغم من وضوح الموقف الرسمي الجزائري المدين لسيطرة الجماعات المسلحة الخارجة عن القانون في شمال مالي، إلا أن الموقف أصبح أكثر حزما بعد أن برهنت الميليشيات التي استقوت بعد سقوط نظام معمر القذافي أن تهديداتها ليست ببعيدة عن الجزائر، بعد أن وقعت بدموية على الهجوم الإرهابي الذي استهدف منشأة استخراج الغاز في تيڤنتورين بعين أميناس الواقعة في ولاية إليزي الجنوبية المحاذية للحدود مع ليبيا مطلع سنة 2013، الذي أوقع بعشرات الضحايا بين قتيل وجريح في صفوف العمال الجزائريين والأجانب، في حصيلة كانت مرشحة للارتفاع لولا التدخل السريع لقوات الجيش الوطني الشعبي. وأجمعت كل التحقيقات التي أجريت حول هذا الاعتداء على أن طريق "كتيبة الموقعون بالدماء" الذي نفذته كانت من شمال مالي عبر ليبيا، مستغلة الفراغ الأمني الكبير الذي نتج عن انسحاب قوات الأمن والجيش الليبيين، تاركة المجال لسيطرة الجماعات المسلحة التي تعاون جزء مهم منها مع المنظمات الإرهابية على الساحل. و رغم مرور شهور على الهجوم إلا أن الجزائر لا تزال تدفع الثمن عبر أشكال مختلفة، أهمها وقوعها ضحية ابتزاز مارسته الشركات التي كانت تشغل المنشأة الغازية، من خلال ربط عودتها إلى نشاطها مع تقديم تنازلات من طرف الجزائر، ومع كل تأخر تدفع خسائر بملايين الدولارات. من معسكرات التدريب في جنوب ليبيا إلى جبل الشعانبي برميل البارود الليبي الذي انفجر في المنطقة لم يتوقف لهيبه في المناطق الجنوبية لبلادنا فقط، بل امتد بعد الحرب التي شنتها القوات الفرنسية وحلفاؤها من الأفارقة على معاقل القاعدة في شمال مالي، إلى المناطق الشمالية وبالضبط في منطقة جبل الشعانبي الحدودية بين الجزائروتونس، التي بدأت شهر ماي الماضي عبر اشتباكات بين ما يسمى بتنظيم "أنصار الشريعة" والجيش التونسي، وفرضت تأهبا كبيرا للجيش الجزائري الذي حشد عددا معتبرا من القوات على الحدود. ومع مرور الأسابيع على اندلاع الأزمة بدأت تظهر الحلقة الليبية فيها، وأول اعتراف كانت وزارة الداخلية التونسية، التي كشفت عن وجود رابط قوي بين "أنصار الشريعة" في تونس ونظيرتها في ليبيا، وصل التنسيق بينهما إلى غاية إنشاء مخيمات تدريب مشتركة. وهو ما أكدته تقارير إعلامية مؤخرا عن مصادر أمنية خشيتها من تحول المنطقة الحدودية بين كل من الجزائروتونس وليبيا إلى معقل جديد للجماعات الإرهابية التي استغلت الفراغ الأمني الذي تشهده منطقة "غدامس" الليبية المتاخمة لولاية وادي سوف، بسبب غياب سيطرة الدولة عليها. الأزمة الليبية في تصاعد.. وأمن المغرب العربي على المحك لا يمكن لأي كان مهما بلغت درجة تفاؤله حول الأحداث في ليبيا، أن يقول إن الأوضاع في هذا البلد منذ سقوط نظام العقيد معمر القذافي تسير نحو الأفضل، فعلى مدار السنتين الماضيتين كانت البلاد تسير من السيء إلى الأسوأ، ولعل أكبر دليل على ذلك هو اختطاف رئيس وزرائها علي زيدان قبل أيام مما يشير بوضوح إلى غرقها تماما في الفوضى المدمرة لكل معالم الدولة. هذه الوضعية لا يمكن أن ننظر إليها بمعزل عن بقية منطقة المغرب العربي ومنها الجزائر، التي تبقى معرضة لانفجار القنبلة الليبية في أي لحظة، الأمر الذي يوجب جهوزية واستنفار للوقاية من الحريق الذي ينذر به على مدى زمن ليس بالقصير.