تمنيت لو أن الديمقراطية زهرة أو حتى فراشة.. ولم تكن مجرد كلمة. كنت سألمسها بيدي.. وأقول: هذه حقا هي الديمقراطية.. إنها كائن جميل.. ناعم الملمس.. وموجود فعلا. غير أن الديمقراطية التي نشأت في أحلامنا.. سجنت في كلمة.. كي لا ترى النور.. ولا يتسنى الإحساس بها.. أو الإيمان بوجودها. أعتقد أن ديمقراطيتنا لم تولد بعد.. أو إنها في أحسن الأحوال.. مجرد بذرة لا تتلقى ما يكفي من أشعة ورطوبة.. كي تخترق الأرض صاعدة إلى السطح. ٌٌٌ في كل موعد انتخابي.. تنزل الديمقراطية الافتراضية من برجها غير المرئي.. لتسير بين الناس في الشارع.. تصافح الجميع دون تمييز.. وتتجمل لهم دون استثناء.. وتوزع ابتساماتها بالعدل بين الخلق.. وتنمو على مساحة لسانها حدائق غناء من البلاغة العربية.. وتتوالد أطيافها في أحلام الناخبين. فإذا انقضى الموعد الانتخابي.. أسرعت الديمقراطية إلى برجها الحصين.. وهناك حيث لا يراها أحد.. ولا يسمعها إنسان.. تتمدد على سريرها لتنام.. في انتظار العودة في الموعد القادم. ٌٌٌ وكي لا أتهم بتزييف الواقع الديمقراطي.. فيقال إني حشرت الديمقراطية في زمرة الكائنات المجردة وهي شيء ملموس.. أو إني وأدتها وهي حية ترزق.. أدعوكم للتفتيش عن هذه الديمقراطية في كل مكان.. فقد تكون موجودة فعلا.. ونحن لا نراها.. مادامت حواسنا تخدعنا أحيانا.. فيكون العالم الحقيقي.. هو عين ما نعتقده عالما وهميا. أحيانا.. يضع البعض نظارات سميكة.. فلا يرى شيئا.. ويطفئ البعض الآخر الأضواء الكائنة في داخله.. لأنه يريد أن يسبح في الظلمة.. وسواء تعلق الأمر بخلل يعتري حواسنا.. أو برغبتنا في الاحتجاب عن الآخرين.. يبقى سؤال الديمقراطية بمثابة اختبار حاسم لمدى قدرتنا على اكتشاف الأشياء حين تكون موجودة.. أو نفيها حين لا تكون كذلك. ٌٌٌ نحن نعيش نظريا في ''جمهورية ديمقراطية''.. ولأني لا أمتلك تعريفا جماليا - أو ذوقيا - لمصطلح الديمقراطية.. فسوف أفترض أن ما هو مكتوب في الدستور.. وفي جملة القوانين المشتقة منه.. هو عين ما هو موجود في الواقع.. أي إن اسم الدولة ينطبق على حقيقتها. في هذه الحالة.. يجب أن نتأكد من أن لا أحد يتسلل خلف جدار الديمقراطية ليثقب ظهرها.. حتى إذا تدفقت دماؤها.. قيل إنه مجرد خدش بسيط.. فلا تقلقوا على صحتها.. إنها بخير.. وسوف تتعافى بسرعة!! لم يكن الاسم مشكلة أبدا.. ولم يسجل أي اعتراض على النصوص المكتوبة.. فقد عرفنا دولا ديمقراطية لا تمتلك دستورا مكتوبا.. أما ما كان مثار خلاف فهو: أريتمونا الاسم.. فأين المسمى؟ تفترض قوانين الطبيعة والمنطق معا.. أن يأتي المولود إلى الحياة أولا.. ثم يلحق به الاسم.. أما في عالم ديمقراطيتنا.. حيث يتشكل الاسم أولا.. فإن المولود قد لا يأتي أصلا. أليست مفارقة.. أن النصوص لا تتطور إلى وقائع؟ ٌٌٌ في مخيلة محترفي السياسة.. وكما جرت العادة.. يمكن أن تنبثق الديمقراطية من جوف الشعارات. يجهز الشعار أولا.. ثم يزين ويزخرف.. قبل أن يسوق طازجا للجمهور. في هذه الحدود.. تتوقف عربة الديمقراطية في محطة الشعارات.. حيث يحتشد المسافرون إلى عالم الأحلام. في حال امتلاء العربة بالركاب.. لا يجد السائق أية صعوبة في دفعها إلى الأمام أو جرها للخلف.. فالقاطرة تسحب المقطورات في أي اتجاه تشاء. أحد المرشحين الحاليين للانتخابات الرئاسية - وقد يكون أنثى - قال: ترشحت لأصحح أخطاء النظام. هذا شعار ديمقراطي.. لكن ماذا لو كان هو عين الخطأ ؟.ا الأخطاء لا تولد من تلقاء نفسها.. لأن الذين ينتجونها.. كالمستفيدين منها.. ليس من فائدتهم تصحيحها. ٌٌٌ عندما يفرض على الصندوق الانتخابي أن ينجب ديمقراطية على المقاس.. بطول محدد.. وبذبذبة معينة.. فإنه لا يبقى صندوقا لصناعة الديمقراطية.. بل يتحول إلى قالب لضغط الأجسام الديمقراطية. الصندوق الانتخابي.. لا يعني شكل العلبة الشفافة التي نضع فيها الورقة.. بل مقدار الثقة بأن الأسماء التي تدخله.. لا تغادره إلى وجهة مجهولة. في انتخابات سابقة.. لم نعثر على صورة ديمقراطية واضحة المعالم. قال المزورون للناس: لقد زورنا لننقذ الديمقراطية!! وتناسوا أن التزوير فعل مخل بالحياء.. مخالف للقانون.. وغير أخلاقي.. وهو عدو الديمقراطية الأول.. أما عدوها الثاني فهو الخوف. ٌٌٌ في قناعة أغلب الناخبين.. تحولت الديمقراطية إلى مسحوق تجميل.. تستعمله السلطة لإزالة التشوهات التي تصيبها.. ولم تكن أكثر من ذلك. هي مجرد طعم انتخابي.. أما النتائج فمحسومة مسبقا. أما وظيفة الديمقراطية المكيفة فهي أن تواجه الديمقراطية الفعلية.. ومتى ظفرت بها سفكت دمها.. وجلست تتفرج عليها. ٌٌٌ إن البحث عن الديمقراطية سفر طويل ومضن.. وانتقال في غابات موحشة.. حيث أشعة الشمس لا تضيء سطح الأرض. إن أقصى ما يمكن العثور في هذه البيئة العدوانية هو قشرة الديمقراطية.. أما ثمرتها فلا وجود لها. نقرأ النصوص فنعجب بها.. ونتجول في أسواق السياسة.. فنتمنى لو كان البائعون صادقين فعلا.. وسلعهم غير مغشوشة. لكن لا شيء مما نريد أو نحب أو نتمنى.. كائن بالفعل. أعتقد أن الديمقراطية.. كما هي موصوفة في واقعنا.. أشبه ما تكون بصورة قوس قزح. يظهر فجأة في الأفق.. يشع بألوان خلابة.. ثم لا يلبث أن يختفي دون أن يترك أثرا. نحن نريد ديمقراطية.. نلمسها بأيدينا.. ونصدقها.. وتعيش بيننا إلى الأبد