تمثل مهنة كل منا شيئا خاصا في حياته، ولعل الأمر الذي يثير الاستغراب هو أن المهنة التي نزاولها قد تؤثر على شخصيتنا سلبا أو إيجابا.. نحاول من خلال الجولة التي قادتنا إلى بعض مستشفيات الأمراض العقلية تسليط الضوء على الظروف النفسية والمهنية التي يعيشها موظفو هذه المصالح الحساسة في ظل غياب المتابعة النفسية اللازمة والفراغ القانوني. * من مستشفى فرانتز فانون بالبليدة إلى دريد حسين بالعاصمة، ومن مستشفى فرنان حنافي بتيزي وزو إلى بعض أقسام الطب العقلي التي تحويها كبرى المستشفيات.. تعددت الأماكن لكن الظروف النفسية التي يعاني منها أغلب ممرضي هذه المصالح تكاد تتشابه... ضغوطات نفسية، توتر، قلق دائم، انفصام الشخصية..وحتى بعض حالات الانتحار، فمعظم الحالات التي التقيناها خلال جولتنا الاستطلاعية أكدت لنا التأثير السلبي الذي ينعكس على قدراتهم العقلية والنفسية من خلال تعاملاتهم اليومية خارج محيط العمل مع الأسرة والأصدقاء. * * ممرضون يصابون بالانهيارات وآخرون يتقمصون شخصيات المرضى * قلق، انطواء، جنون ومحاولات انتحار * اعتداءات بالعض والضرب تصل أحيانا إلى القتل * * يقول "عمر. م" وهو شاب يزاول مهنة التمريض بمستشفى فرانتز فانون بالبليدة منذ سنة 1981 "لا أخفي عنكم الأثر السلبي للمهنة التي أمارسها على حالتي النفسية، بسبب احتكاكنا اليومي مع مرضى تتفاوت درجة ضررهم العقلي، فبمجرد عودتي إلى البيت أتوجه مباشرة إلى غرفتي دون التحدث إلى أحد، وبعد أن آخذ قسطا من الراحة والخلوة لمدة قد تتجاوز الساعة أتمكن بعدها من الحديث والاتصال بأولادي وزوجتي" أما الشاب "سمير. ك" بذات المستشفى والذي لا يتجاوز سنه 25 عاما فكان يبدو عليه بعض القلق وعدم الرضا عن القسم الذي يعمل به، كما أبدى لنا رغبته في تحويل القسم "أتوجه مباشرة إلى النوم بمجرد وصولي إلى البيت بعد عناء يوم كامل تغير نمط حياتي، أصبح تفكيري منصبا -بنبرة متأثرة- في الحالات المختلفة التي تصادفني يوميا". * أما فريد وهو ممرض بمستشفى سيدي الشحمي بوهران منذ سنة 1992 فقال: "أصبحت أشعر بكثير من القلق والتوتر الدائمين، لم يعد بإمكاني الاتصال أو التعامل مع الآخرين كما كنت في السابق، ولم أعد أتحمل الصراخ والضجيج، انقطع عنا الأهل والأقارب لعلمهم بحالة القلق التي تنتابني، وقد تقدمت نتيجة هذا بعدة طلبات لإدارة المستشفى من أجل تغيير القسم". * وفي سياق آخر أكد لنا بعض الأخصائيين النفسانيين الذين سبق لهم الاحتكاك مع عدة حالات أن نسبة 85 بالمائة من حالات الانهيار العصبي يتم تسجيلها لدى موظفي مصالح الطب العقلي سواء الذين أحيلوا على التقاعد أو الذين لا يزالون في الخدمة. * * ... وفي بعض الحالات يصل التأثر إلى انفصام الشخصية * * التقينا بحالات أخرى وصلت درجة تأثرها النفسي إلى انفصام الشخصية، وفي هذا السياق أكد لنا رئيس مصلحة بمستشفى البليدة أن بعض طلبات تحويل الأقسام كان سببها الأساسي الحالة النفسية الصعبة التي وصل إليها الممرض والتي جعلته يشعر بفقدانه لشخصيته وتقمصه لشخصية بعض المرضى". * أما السيدة (ل. ك) موظفة سابقة بمستشفى البليدة فقالت "كنت أقوم بمهمة المتابعة والعناية بضحايا الإرهاب، كانت حالات جد صعبة، ودون أن أشعر أصبحت تنتابني حالات من الاضطراب النفسي كما كان يحدث معهم.. أصبحت أميل إلى النرفزة من خلال تعاملي مع أولادي وزوجي في البيت". * ومن الحالات الغريبة التي صادفتنا خلال جولتنا الاستطلاعية هو أن الممرض يصاب بحالة من الشك وعدم الثقة، حيث تقول السيدة "ر. ب": "عملت مع حالات مرضية عديدة، من بينها حالات لأزواج قاموا بجرائم قتل ضد زوجاتهم بسبب الخيانة الزوجية، حيث أصبحت تنتابني حالة من الشك والخوف الدائم نحو زوجي، وأخاف أن يقدم على نفس الفعل رغم الثقة المتبادلة بيننا". * * ... ومنهم من حاول الانتحار * * روى لنا الأخصائيون النفسانيون أمثلة عن محاولات انتحار في أوساط ممرضي الأمراض العقلية نتيجة الضغوط الرهيبة التي يتعرضون لها، ومثال على ذلك حالة مريم التي عملت عشر سنوات بمصلحة الطب العقلي حيث قامت بمحاولتي انتحار بسبب الضغوطات النفسية الحادة، زيادة على المشاكل العائلية". * ويتعرض موظفو مصالح الطب العقلي، زيادة على الضغوطات النفسية، إلى بعض الاعتداءات الجسدية كالضرب والعض واللكم.. وهي حوادث تتكرر يوميا حسب شهادات المعنيين ك "محمد. ل" من مستشفى فرانتز فانون الذي قال "أصبح الضرب والعض أمرا عاديا يتكرر يوميا، آخر مرة تعرضت فيها للضرب على مستوى الوجه من طرف أحد المرضى، ولولا أنني هدأته لكان فقع عيني". * وأخطر تلك الاعتداءات جريمة القتل التي راح ضحيتها أحد الممرضين "شهيد المهنة" كما أسماه زملاؤه بمستشفى البليدة في وقت مضى من قبل أحد المجانين الذي تربصه حتى انقضى عليه ضربا على الرأس حتى فقد وعيه تماما ثم توفي..؟ * * عشرات طلبات التحويل والاستداع * * يقدم الكثير من موظفي مصالح الأمراض العقلية، حسب مصادر إدارية موثوقة، نتيجة الضغوطات النفسية التي يتعرضون لها، طلبات التحويل إلى أقسام أخرى، كما يلجأ البعض الآخر إلى طلب استداع لأخذ فترة من الراحة، حيث يصل معدل طلبات التحويل في مصلحة واحدة 50 طلبا لا تحضى أغلبها بموافقة الإدارة، نظرا للنقص الفادح للممرضين المكونين والمختصين في متابعة المرضى مقابل العدد المتزايد للمجانين في الجزائر والذين يتجاوز عددهم حاليا المليون ونصف المليون مريض، ما يعادل 5 بالمائة من مجموع سكان الجزائر. * * النقابة الجزائرية للشبه الطبي:"على وزارة الصحة اتخاذ إجراءات التأمين والمتابعة النفسية" * * أكد غاشي لوناس، الأمين العام لنقابة الشبه الطبي، الظروف المهنية والنفسية الصعبة التي يزاول من خلالها الشبه الطبي لمهامه داخل المستشفى، باعتبار أن 50 بالمائة من العاملين بالمؤسسات الصحية، ومنها العقلية، ينتمون لسلك الشبه الطبي "زيادة على الضغوطات النفسية التي يتعرض لها الممرض والتي أدت بدورها إلى العديد من الظواهر السلبية، مع مرور الوقت تواجه هذه الفئة ضغوطات من نوع آخر، تتمثل في الاعتداءات الجسدية التي يتعرض لها باستمرار" هذه الوضعية حسب مسؤول التنظيم بالفرع النقابي لمستشفى الأمراض العقلية فرانتز فانون، أميري بن عاليا، كان لها التأثير السلبي والمباشر من خلال التخوف والنفور من هذه الاختصاصات بسبب غياب التأمين -حسب ذات المتحدث- وفي هذه الحالة الممرض يقوم بعملين مراقبة المريض وفي نفس الوقت يقوم بحراسة نفسه. * وفي إطار الجهود التي تقوم بها النقابة للدفاع عن حقوق الممرضين أكد الأمين العام أن القانون الأساسي الذي تم إمضاؤه من قبل وزارة الصحة مؤخرا يتضمن المادة 4 المتعلقة بتأمين وحماية الشبه الطبي أثناء مزاولته لمهنته، وهو ما اعتبره محدثنا محفزا قويا لضمان أداء الممرض لعمله في أحسن الظروف. * * أخصائيون: "لا بد من فتح نقاش حول المهنة" * * أكدت الأخصائية النفسانية، معروف مريم، الأوضاع المهنية الصعبة التي يزاول من خلالها ممرضو مستشفيات الطب العقلي بالجزائر وظيفتهم في ظل غياب التكفل والمتابعة النفسية اللازمة لهؤلاء والتي من شأنها ضمان السير الحسن وأداء مهامهم على أكمل وجه، كما لم تخف المهمة الصعبة والنبيلة التي يقوم بها الممرضون إزاء أشخاص غير مسؤولين عن تصرفاتهم والسلوكات التي تصدر عنهم، هذا ما قد يولد أو ينعكس بالسلب على الوضعية النفسية لهم تترجم في حالات التوتر، القلق والمعاملات اليومية لهم خارج إطار العمل مع الأشخاص المتواجدين بمحيطهم الاجتماعي على غرار الأقارب، الأسرة والأصدقاء. * من جهة أخرى دعت محدثتنا إلى ضرورة فتح باب الحوار للممرضين بهذه المستشفيات من خلال تجنيد أطباء نفسانيين للقيام بذلك، وهو إجراء هام من شأنه تمكين هذه الفئة من طرح انشغالاتها ومشاكلها بغية التخلص من الضغوطات النفسية، "وحبذا لو تم إدراج المتابعة النفسية في إطار طب العمل، وفي إطار قانوني ضمن برنامج العمل". * زيادة على هذا طرحت الأخصائية النفسانية بعض الاقتراحات والتي من شأنها تخفيف الضغط على غرار تغيير الأقسام من فترة إلى أخرى من أجل تجديد القدرات، وتمكن الممرض من القيام بعمله في أحسن الظروف تحول دون القيام بمحاولات الانتحار أو الوصول إلى درجة الانهيار العصبي. * * المحامي عمار خبابة:"قانون حماية الممرضين لا يطبق بمستشفيات الأمراض العقلية" * * تأسف المحامي عمار خبابة للواقع المرير الذي يعيشه الممرضون على مستوى مستشفيات الطب العقلي بالجزائر، كما أكد محدثنا تعرضهم لضغوطات نفسية وما يصاحبها من توتر، قلق، انهيار عصبي واعتداءات جسدية التي يتعرض لها الممرضون أثناء مزاولتهم لعملهم داخل هذه المستشفيات لاحتكاكهم اليومي مع أشخاص غير واعين بتصرفاتهم تحت ضغط ظروف نفسية صعبة. * من جهة أخرى أكد محدثنا جهل هؤلاء الممرضين لحقوقهم التي يضمنها القانون من خلال المادة "134" وما بعدها من القانون المدني في الباب المتعلق بمسؤولية متولي الرقابة والتي تنص على أن كل من يجب عليه قانونا رقابة شخص في حاجة إلى الرقابة بسبب قصر أو سبب حالته العقلية أو الجسمية، ويكون ملزما بتعويض الضرر الذي يحدثه ذلك الشخص للغير بعمله الضار ويترتب هذا الالتزام ولو كان من وقع منه العمل الضار غير مميز، وفي هذه الحالة -حسب المحامي- المستشفى هي المسؤول الوحيد عن التعويض، لأن المريض غير مسؤول عن تصرفاته باعتبارها تصنف ضمن حوادث العمل التي يقوم بتعويضها صندوق الضمان الاجتماعي وفي حالة العكس على المعني رفع دعوى قضائية على المستشفى، وفي هذا السياق أشار محدثنا إلى غياب قضايا من هذا القبيل رغم تسجيل العديد من الاعتداءات لجهل الممرضين للمواد القانونية.