أصبح اقتناء الألبسة القديمة أو المستعملة ظاهرة في مجتمعنا لا يمكن غض الطرف عنها، مع انتشار محلات بيع ''الفري بري'' أو ملابس ''البالة''، لتصبح اليوم تجارة تنافس الملابس الجديدة، فلا تخلو شوارعنا من محلات بيع الألبسة القديمة، بل وصنعت وحدها زبائنها من النساء والشباب بل وأصبحت تجذب الكثيرين في السنوات الأخيرة، بالنظر إلى غلاء المعيشة ومطالب الحياة اليومية· محلات الألبسة القديمة أصبحت ملاذا مفضلا للعائلات سواء في العاصمة وفي الولايات الداخلية، بل وأصبحت وجهة تفضلها الفتيات والشباب والنساء للتمتع بأحسن الألبسة نوعا وأبخسها ثمنا، خصوصا تلك الألبسة التي تأتي من فرنسا ومن تركيا والتي تباع بأثمان زهيدة مقارنة مع الألبسة الجديدة والتي أسعارها تفرغ الجيوب· في المناسبات والمواسم عرفت تجارة الملابس القديمة رواجا منقطع النظير خلال السنوات الأخيرة في الجزائر وهي التجارة التي أدخلت على بلادنا مشهدا حقيقيا لا يمكن تجاهله ألا وهو أن الفقر يزحف الى مختلف البيوت من خلال ملابس قديمة أو ملابس''البالة'' أو ملابس الأغنياء القديمة سلعة رخيصة للفقراء الذين طحنتهم الظروف ودفعتهم إلى اقتناء فضلات الملابس القادمة من وراء البحر· ففي شارع حسيبة بن بوعلي بقلب العاصمة، تتوزع تلك المحلات التي أصبحت تسترزق من ملابس الأغنياء القديمة كسلعة رائجة للفقراء، بل وهي سلعة مفضلة لشريحة معينة من شرائح المجتمع، التي ضاق صدرها وجيبها بسبب غلاء الملابس الجديدة التي تعرض في واجهات المحلات الكبرى، كما هو الحال في شارع ديدوش مراد و شارع العربي بن مهيدي وغيرها من المحلات التي أصبحت تستقطب المتفرج أكثر من الذي يشتري أو بالأحرى أصبحت واجهات تجذب الأنظار والقلوب والعقول قبل أن تخطف أموال الجيوب، لأنها تبيع الملابس بثمن باهض ولكن غلاء المعيشة لا يحتمل أن تصرف الأجرة الشهرية في ملابس أقل سعر لها هو ألف دينار فما بالك أغلاها· أثارنا الفضول ونحن نتجول من محل إلى آخر، بحثا عن تلك السلع التي أصبحت تتهافت عليها الفتيات من ألبسة جميلة وأسعار معقولة، فالمهم بالنسبة للفتيات على حد تعبير ''سهام'' ذات 19 ربيعا، أنها تلبس الأحسن والذي تتباهى به أمام زميلاتها، وتشتريه بسعر معقول جدا جدا، فوالدها موظف بسيط في إحدى البنوك وهي تدرس حاليا في الجامعة، حيث يتطلب مظهرها أن ترتدي ما يمكنها أن تتفاخر به أمام زميلاتها في الكلية، ولكنها أخذت موعدا في كل أسبوعين تقريبا لتراجع محل ''الألبسة القديمة'' لتقتني الجديد والجميل، على حسب تعبيرها، والأهم أن الكثيرات يتسابقن إلى تلك المحلات·· فمثلا سروال جينز خاص بالبنات يمكن اقتناؤه بسعر لا يتجاوز 300 دينار وحذاء شتوي يمكن شراؤه ب200 دينار على الأقل و400 دينار على الأكثر· لكن الملفت للانتباه أنه خلال السنوات الأخيرة أصبحت تلك المحلات منتشرة مثل الفطريات هنا وهناك، فلا يكاد يخلو شارع من شوارع العاصمة من محلات ''الملابس القديمة''·محلات راقية وأثمان بخسة،غزت العاصمة الملفت أيضا للانتباه أن هذه المحلات أخذت تنمو وتتكاثر وتتزين أيضا لتجلب إليها الزبائن من كل حدب وصوب، فعندما يتوجه إليها الزبون يجد نفسه في محلات راقية من حيث التنظيم ورص الملابس وحتى الأحذية ومنها ملابس الرجال وملابس النساء والأطفال وحتى اللعب والستائر المنزلية القديمة· كما يجد الزبائن مكانا لتجريب مقاس الألبسة، وهي محلات كثيرا ما تلفت الانتباه لما تعرضه من ملابس تأتينا من أوروبا وملابس الأغنياء في فرنسا وايطاليا واسبانيا ويشتريها صاحب المحل عن طريق ''البالا'' من تجار الجملة في الحدود الشرقية وخصوصا في ولايات فتبسة فو''سوق أهراسف، حيث تأتينا هذه السلع من تونس لتكون الجزائر مفرغة للملابس القديمة وقد انتشرت هناك مصانع وورشات لإعادة ترتيب الكميات الكبيرة من هذه الملابس حسب النوعية لكنها تجارة مربحة وتدر الملايين على تجارها، وهو ما يؤكده أحد صاحب محلات الملابس القديمة بالعاصمة، حيث يقول إن هذه السلع تأتينا من الخارج، دون أن يفصح صاحب محل الملابس القديمة عن ثمن كل قنطار من الملابس القديمة، إلا أنها تجارة مربحة لكل من يعرف استخدامها، معلنا أن التجارة ''ربح وخسارة'' كما يقال، لذا فالتجار في هذا النوع من الملابس يستطيعون بيع منتوجاتهم بحسب الفصول والمواسم وكذا المناسبات·الزوالية أوفياء·· مع اقتراب حلول فصل الشتاء تكثر بضاعة الألبسة القديمة، بل ويكثر الطلب عليها خصوصا بالنسبة للمعاطف والأحذية الشتوية، وبطبيعة الحال فلكل فصل ملابسه الخاصة فالصيف أيضا له ملابسه الخفيفة وسعرها يكون منخفضا نوعا ما بالمقارنة مع ألبسة فصل الشتاء، وهنا يمكن أن نشير إلى أن قميص رجالي صيفي سعره لا يتعدى 200 دينار جزائري وهو ما يسمح لأي شخص أن يقتني أكثر من قميص أو حتى ثلاثة قمصان حال ذلك الشاب ''سمير'' الذي لا يتعدى سن العشرين الذي كان يبحث عن ملابس خاصة بالشتاء، والذي وجدناه في محل لبيع الألبسة القديمة عندما كان يتفقد وبتروي رفقة والدته كأن ينتقي قمصان رجالية خاصة بفصل الصيف وكذا سراويل جينز وعندما سألناها عن رغبتها الكبيرة وصبرها في انتقاء الألبسة، ردت علينا قائلا ''ما عساني أفعل فالأجرة الشهرية للوالد لا تتعدى 15 ألف دينار ولا يمكن أن تكفي لأسرة من خمسة أفراد أن تشتري بها ملابس وأدوات مدرسية بعد شهر رمضان الذي أفرغ جيوبنا''· من جهة أخرى تمكنت ألسبة ''الفري بري'' أن تخلق الأوفياء من الزبائن، وهي المفاجأة التي وقفنا عليها في كذا من محل عبر الجزائر العاصمة، وهو ما عبر عنه أحد الزبائن بالقول إنه من المرتادين للمحل كل يوم ثلاثاء وخميس وهما اليومان اللذان يتم فيهما عرض السلع الجديدة ليشتري العديد من الألبسة· وهناك من ينتهز الفرصة لشراء ألبسة قديمة من عدة محلات بقلب العاصمة ليعيد بيعها في أحياء ومناطق أخرى مثل درفانة وبرج البحري وغيرها من الأحياء، وهو ما أكده أحد الباعة أنه يوجد من الزبائن من يشتري ليس ليلبس ولكن ليعيد بيعها في عدة أماكن· الواقع الذي فرض على الجزائري أن يشتري البطاطا والخبز والحليب بفاتورة يومية تزيد عن 400 دينار دون الحديث عن المصاريف الجانبية كل يوم لترتفع تلك الفاتروة لتتعدى أحيانا كثيرة أجرته الشهرية، لذا فملاذ البعض هو الملابس القديمة التي استطاعت أن تحل مشكل اشتراء الملابس وتكون مثل ما يقوله المثل ''على قد لحافك مد رجليك'' أو ''قد الزيت قد الدقيق''، بمعنى أن المواطن الجزائري يشتري الملابس بالموازاة مع أجرته الشهرية والا سيبقى يعيش بالديون التي تثقل كاهله· لكن الخطير في الأمر أن هناك الكثير من التقارير التي تتحدث عن وجود مخاطر صحية للألبسة القديمة، القائلة بأنها تنقل أمراضا كثيرا وخصوصا الأمراض المعدية وهناك بعض التحاليل التي أثبتت ذلك وقد طالب المختصون بتوخي الحذر لدى اقتنائها، إذ يجب ضمان تعقيمها لأنها تنقل الأمراض التناسلية وبعض الأمراض الجلدية ولتجنب الأمراض وأخطار الملابس المستخدمة، يشير بعض الباعة إلى أنه يتم غسلها بالبخار وتعقيمها بالمعقمات الطبية المعروفة، تحاشياً لمخاطر الأمراض، خاصة وأنها تأتينا من الخارج ومن مختلف دول العالم، على حد تعبيره ودون أن تمر على المراقبة الطبية في ظل غياب ''ميكانيزمات'' محددة يمكن من خلالها مراقبة نوعية الملابس التي تدخل الجزائر، وهو ما دفع أحد الوزراء إلى التأكيد على ضرورة وضع الحكومة لآليات مراقبة نوعية الملابس، خاصة بعد رواج إشاعات عن انتشار أمراض نتيجة ارتداء بعض الملابس القديمة· إضافة إلى مخاطر أخرى تحملها هذه التجارة، فبالدرجة الأولى تكون تجارة الملابس قد أضرت بصناعة النسيج في الجزائر بعد غزو الملابس الصينية للأسواق الجزائرية· رؤية أخرى في الواجهة الأخرى للظاهرة، هناك من يعارض فكرة اقتناء الألبسة القديمة، بل ويمقتها كثيرا بالنظر إلى وجهة نظر، أو حتى عدم اقتناعه بارتداء لباس قديم، بل وأكثر من ذلك فالأمر يتعدى مسألة الغنى والفقر، بل هو مرتبط بما يسببه اللباس القديم من أمراض، وهناك من تطرق إلى أنها تسبب أمراض جلدية خطيرة، خصوصا بعد النداءات التي وجهها الكثير من الأطباء تحذيرا من خطورة تلك الألبسة التي تأتينا من وراء البحار، ولا نعلم طريقها الحقيقي والطرق التي مرت بها والمحطات التي توقفت عندها قبل الوصول إلينا، خصوصا وأنها قادمة من الحدود التونسية، حيث يتم الفرز والتوزيع بالجملة، وطبعا هناك من يرى أنها مضرة كثيرا بالصحة ولا يمكن أن يقتنوها حتى وبدينار واحد، وطبعا لا يمكننا أن نلوم رأي من يرفضون ارتداء هذه الألبسة، ولا يمكننا أن نعارض من وجدوا فيها ضالتهم الكبرى· ولكن ما علق بالذاكرة هو أن أحدهم علق بالقول ''أصبحنا في زمن يرتدي فيه الجزائريون بقايا أوروبا''·