لا تزال ثقافة التبرع غائبة في المجتمع الجزائري إلا في الحالات النادرة، والتي تتم أغلبها بين الأقارب، تحول دون إنقاذ حياة المئات، أما التبرع بأعضاء الموتى فيكاد يكون منعدما، رغم أن الفقهاء أجازوا ذلك في الحالتين إذا توفر شرط الرضى. وزادت ضبابية التشريعات السارية وعدم إفرادها لقانون ينظم عملية نقل الأعضاء البشرية وحمايتها من "البزنسة" في تعقيد الوضع وتعطيل أي مساعٍ لإنقاذ حياة المرضى. تناول أمس، المحاضرون في الملتقى الدولي الأول حول جسم الإنسان بين الضرورة الطبية والضوابط الشرعية، الإشكاليات القانونية والشرعية الناجمة عن عمليات نقل وزراعة الأعضاء البشرية من الأحياء وجثت الموتى، بغرض الوقوف على مواطن القوة والعجز والعيوب التي تشوب النصوص والأحكام الشرعية. وأظهرت معظم المداخلات، أن التردد الدائم للأسر والعائلات الجزائرية في الإسهام في عمليات نقل الأعضاء والأنسجة من الأحياء وجثث الموتى، نتيجة خلفيات عقائدية، حضارية وثقافية، أضحت توجب إعادة النظر في هذه المسألة وبحثها من منظور شرعي وقانوني بما يتماشى والواقع الطبي الجزائري، باعتبار أن هذه العمليات هي الأمل الوحيد للشفاء وإزالة الآلام والمعاناة عن آلاف المرضى، كما أنها تعمل على إنقاص كلفة العلاج...
البروفيسور بلحاج: نطالب بسجل وطني للمتبرعين بالأعضاء ضمن قانون الصحة الجديد تطرق البروفيسور بلحاج، رئيس اللجنة العلمية لكلية الطب، جامعة "الجزائر 1"، إلى عرض أسباب تأخر الجزائر عن مواكبة التطورات الحاصلة في مجال نقل وزرع الأعضاء، وركز في مداخلته على القرارات التي اتخذت في سنة 1972، في إطار سياسة جديدة في قطاع الصحة مبنية على مجانية العلاج، وكان القانون آنذاك يرخص للطبيب أن ينزع الأعضاء والأنسجة من دون موافقة أهل الميت، وهناك مرسوم رئاسي أعطي إلى الأستاذ أوشيش، وهو من أكبر الأطباء المختصين في طب العيون بأخذ القرنية وزرعها عند الأحياء، وفعلا نجحت هذه العملية وكانت بمثابة العصر الذهبي للقرنية، لكن سرعان ما تغيّرت الأمور بعد صدور قانون الصحة، الصادر في1985، حيث حدث ركود بسبب إدخال الموافقة المسبقة لعائلة المتوفي، "والمشكل أنه كلما لجأنا إلى الأهل نصطدم بالعائق النفسي، وأحيانا يعترض الأقارب على استغلال الأعضاء حتى بالنسبة للشخص الذي يكون ميتا دماغيا وقلبه لا يزال ينبض". ولتجاوز هذه العقبة - يضيف المتحدث - لا بد من التركيز مستقبلا على عملية التحسيس بتفعيل دور رجال الدين والإعلام، أما بالنسبة للطبيب فهو مطالب بتطوير نفسه من ناحية التكوين وكذلك تحسين ظروف استقبال ومعالجة المواطنين، ليتمكن من تحقيق نتائج إيجابية، وحاليا في الخارج هناك منظومة بأكملها تتحكم في نقل وزرع الأعضاء، ولكن في الجزائر الوضع مختلف تماما، والملاحظ أن نقص التشريع الذي يؤطر وينظم عملية نقل الأعضاء البشرية هو المتسبب الرئيسي في المشكل "ولذلك نريد اغتنام فرصة وجود مشروع قانون الصحة الجديد على مستوى البرلمان من أجل إدراج مقترح إنشاء سجل وطني للموافقة المسبقة للأشخاص الراغبين في التبرع بأعضائهم بعد الوفاة، شريطة أن تتم العملية تحت إشراف قاضٍ نظرا لسرية الإجراءات وحفاظا على حقوق الإنسان". ومن وجهة نظر البروفيسور بلحاج، فإن المشرع الجزائري مدعو إلى الاجتهاد من أجل مساعدة المريض بالدرجة الأولى بصفته المستفيد الأول من زرع الأعضاء، وهناك يقين لدى مصدرنا بأن النجاح في زرع القرنية والكلى، سيتبعه لاحقا نجاح في زرع القلب و هي عملية حساسة جدا تستدعي التحكم في العلم والتقنيات، وحتى في حالة توفر متبرع لا يوجد حاليا، طبيب واحد على مستوى الوطن قادر على جراحة زرع القلب، في حين أن الإحصائيات تبين بأن عدد الوفيات بسبب أمراض القلب عشر مرات أكثر من تلك المسجلة نتيجة الفشل الكلوي. وأشار المتحدث إلى أن احتكار العلم من قبل كبريات الدول ينعكس سلبا على تطور جراحة نقل الأعضاء، سيما في مجال زرع الكبد والنخاع العظمي، حيث يسجل تأخرا كبيرا قد يقدر بفارق 50 سنة، وفي المقابل تدفع الجزائر الملايير في عملية زرع الأعضاء خارج الوطن.
التبرع بالأعضاء صدقة جارية والشرع لا يعارضه يؤكد الشيخ يوسف بلمهدي، عضو المجلس الإسلامي الأعلى، أن المشكل ليس في الأحكام الشرعية، كونها تجيز نقل الأعضاء البشرية من الحي والميت بشرط أن تخضع لإطار قانوني محكم يحفظ كرامة المتبرع. وأضاف بهذا الخصوص أن الثقافة الشرعية ضعيفة في مجتمعاتنا، وهناك بعض المراكز العلمية نسميها الأمية الدينية، ونحن نعمل على نشر الثقافة الدينية، وموضوع التبرع بالأعضاء طرح في الستينات والسبعينات، والمجامع الفقهية أفتت بجواز ذلك بإذن المعني أوالعائلة في حال الوفاة، وقد ساهمنا في عدة ولايات، من خلال وزارة الشؤون الدينية، بالتوعية الدينية، باعتبارها صدقة جارية. وعلى كل نحن نرى بأن الشرع لم يعد حاجزا أمام عملية التبرع ونقل الأعضاء من الميت إلى الحي أو من الحي إلى الحي، وبطبيعة الحال لا يكون الأمر سلبا أو نهبا أو اعتداء على حق الإنسان. أما بالنسبة للأستاذ رحال، مختص في الشريعة والقانون، فإن في الجزائر لا يوجد إشكال قانوني يتعلق بمسألة التبرع بالأعضاء، لكن المشرع الجزائري لم يفرد لهذا الموضوع قانونا خاصا به، وإنما هي مجموعة نصوص قانونية موجودة في قانون حماية الصحة وترقيتها، وكذا مدونة أخلاقيات الطب، وهي عبارة عن مجموعة ضوابط فيما يتعلق بالتبرع بالأعضاء، سواء بين الأحياء أو من الميت إلى الحي، واشترط أن يكون الرضى متوفرا في الشخص المتبرع ويأتي كتابيا، كما ينبغي أن يكون التعبير عن الرضي أمام المحكمة وليس أمام مدير المؤسسة الاستشفائية الذي قد يتحول إلى خصم في حال تحريك المتبرع لدعوى قضائية، ومن الضروري أيضا الفصل بين اللجان المختصة في نزع الأعضاء، وأخرى مستقلة عنها تختص بالزرع. من جانبه، حذّر رئيس هيئة مشايخ تونس، عمر بن صالح بن عمر، من بيع الأعضاء، بما في ذلك من امتهان للفرد "فلا بد أن يكون الإنسان محترما ومكرما"، والراجح -حسبه- أن المتبرع ينظر إذا كان هذا التصرف فيه ضرر أو أذى يترتب عن التبرع، فهذا يمنع منعا باتا عملا بقول المولى عز وجل "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول "لا ضرر ولا ضرار"، ومن تم إذا كان التبرع سينقذ نفسا فلا حرج من ذلك، والتبرع نوع من أنواع التضامن وإحياء الأنفس التي أمرنا الله بها.