زرت مصر في خريف 2010 يعني قبل 3 أشهر تقريبا من اندلاع الثورة ضد نظام مبارك، وزرتها الآن وهي تقطف أولى ثمار ثورتها المقبلة على إتمام عامها الأول، في انتخابات يأمل المصريون أن تكتب صفحة جديدة من تاريخ بلد وشعب عانى ويعاني الكثير · لا تكفي أيام قليلة في القاهرة لرؤية المشهد السياسي والاجتماعي من كافة زواياه، ولكنها كفيلة بأن تترك لديك انطباعات وتصورات عاجلة، بل وتساؤلات أكثر عن الذي تغيّر في مصر بعد عام من ثورتها؟ لا يزال الانتظار المشوب بالخوف قابعا في نفوس كثيرين هنا لا يكاد يتزحزح منذ إعلان مبارك تنحيه عن السلطة في الحادي عشر من فبراير الماضي، مشهد سياسي يتشكل من جديد، ووضع اجتماعي واقتصادي يلفّه الغموض، وتصاحبه أسئلة حارقة تزداد إلحاحا يوما بعد يوم·· هل الأوضاع الآن أفضل مما كانت عليه قبلا؟ ألم يكن الأمن أكثر استقرارا وتماسكا في عهد النظام السابق؟ أليست مظاهر الانفلات والبطالة والبلطجة والفوضى السمة الغالبة الآن؟ والأهم من كل هذا وذاك ما الذي تغيّر في البشر؟ تلك تساؤلات تصادفك وأنت تزور مصر وهي تمر بمرحلة مخاض عسير بعد عام من انتفاضتها، قد تكون تلك أسئلة بريئة لمن يحمل هموم مصر وشعبها، وقد تكون ”متآمرة” و”مثبطة” لمن راهن على فشل تجربة الثورة في بلادنا العربية· حاولت في هذه السطور أن أرصد ما تغيّر في مصر بين زيارتين فصل بينهما ثورة شعب وزوال رئيس وانهيار نظام!·· و”جاهدت” بقدر المستطاع ألاّ أقسو على ثورة ما زالت تزرع ولم يئن أوان قطاف حصادها بعد·· هل تغيّر لون العسل؟! طبعا المتابع للمشهد المصري عبر الفضائيات خصوصا بعد تطورات شارع محمد محمود الدامية وحالة الشدّ والجذب الحاصلة في ميدان التحرير بين الشباب المعتصمين وقوات الأمن والشرطة العسكرية، يرسم في ذهنه صورة مضطربة عن بلد فقد عذريته الأمنية وصار بركانا ملتهبا يوشك أن يفجّر حممه ليحرق كل من فيه! تلك الصورة أثارت استغراب من سمع بموضوع سفري إلى مصر في هذه الفترة العصيبة، فالبلد لم يعرف طريقه إلى الاستقرار بعد وأخبار الدم والبلطجة والاختطاف أضحت عناوين ثابتة في صحف وفضائيات ”أم الدنيا”، لكن كل تلك التوجسات -المبالغ فيها أحيانا- لم تثر مخاوفي بقدر ما زادت من مستويات الفضول بداخلي لاكتشاف ”مصر الجديدة”!· كانت الرحلة من الجزائر إلى مطار القاهرة عادية جدا باستثناء ما تلحظه من قلة عدد المسافرين المتوجهين إلى هناك، ومع كل ما يشاع عن حالة الفوضى وعدم الاستقرار التي طالت معظم المؤسسات والهيئات العامة في مصر، فقد كانت خدمات شركة ”مصر للطيران” مقبولة بل وأفضل مما هي عليه لدى نظيرتها ”الجوية الجزائرية” التي أصبحت للأسف مضرب المثل في التأخر وضعف الخدمة وخشونة الاستقبال !·· ”عسل أسود” عنوان فيلم مصري اختارات قيادة الطائرة أن تخفف به عن المسافرين جزء من ضغط التحليق في السماء لأربع ساعات متواصلة هي المدة الزمنية المطلوبة لقطع المسافة بين مطاري هواري بومدين والقاهرة· ومع أن الفيلم جاء في قالب كوميدي فإنه حافل بوصف تناقضات الواقع المصري، بين نظرة سلبية عمقتها أمراض المجتمع الأخلاقية والاقتصادية، وأخرى ما زالت ترى في هذا اللون الأسود من حياة المصريين طعم العسل وإن كان بنكهة أقل إغراء· ويروي الفيلم قصة شاب مصري غادر بلاده حين كان في العاشرة من عمره للعيش مع والديه بالولايات المتحدةالأمريكية، قبل أن يقرر بعد 20 سنة من ”الغربة” الرجوع للاستقرار في بلد احتفظت ذاكرته الصغيرة وقتها بأجمل الصور عنه، لكن حلم الشاب الذي فضل اصطحاب جوازه المصري بدل الأمريكي يصطدم بواقع ”مخيب” رآه في الاستقبال الأمني الخشن بالمطار مقارنة مع الأجانب، وتجرَعه في معاملة سيئة بالفنادق ومراكز الشرطة ومع سائقي سيارات الأجرة·· طيلة الرحلة كنت على أحر من الجمر لملامسة الواقع الجديد الذي أفرزته ثورة 25 يناير، ولعل ذاك الفيلم زاد من حماسي في إجراء مقارنة بين مصر التي رسمها مخرجه وتلك التي خرج الملايين من أجل محو صورة علقت عنها في الأذهان لعقود طويلة ومريرة·· حين حطت الطائرة بنا على مطار القاهرة ورأت عيناي ما حولي وجدت أن كل شيء بقي على حاله، فمباني المطار الذي كان أحد مفاخر نظام مبارك لاتزال تحافظ على رونقها ونظامها كما بدت عليه في آخر مرة زرت فيها البلد، لكن السؤال الملح لحظتها كان هل تغيّر البشر؟ الإجابة جاءت أسرع مما تصورت من ضابط الجوازات الذي كان يتعامل مع الجميع بعصبية شديدة ومفرطة، بل إن إطلالة صغيرة منه على جواز سفري ومعرفته سبب قدومي إلى البلد كانت كفيلة بأن تكلفني ساعة انتظار طويلة في المطار لحين استكمال الإجراءات··فهمت لحظتها أن صفة صحفي لاتزال تعني تهمة في دولنا العربية حتى بالنسبة إلى تلك التي عاشت شتاء عربيا ساخنا· مكتسبات سياسية·· وتخبط أمني واقتصادي في مصر تسمع كلاماً عن السياسة والانتخابات وعن صعود الإسلاميين ودور العسكر، لكنك تسمع كلاماً أكثر عن الانفلات الأمني والازدحامات المرورية، وحول أزمة البطالة وسوء العيش وندرة الغاز وتلوث المياه· وحول قضايا الزواج والعزوف عنه من قبل الشباب، وتدني مستويات الدخل وتوقف عجلة الإنتاج وجفاف منابع السياحة وعن التفاوتات الاجتماعية بين الأثرياء والغلابى، وعن الفقر الذي تتوسع دائرته·· كما أنك تسمع كلاما عن العجز المالي الكبير في الموازنة واقتراب الدولة من الانزلاق في منحدر الإفلاس! كل تلك الهواجس والشكاوى تسمعها من دردشة عابرة مع سائق ”طاكسي” أو في نقاشات الناس داخل الحافلة أو عربة المترو وأنت تستقل إحداها، وفي مقابل كل هذا يستعجل المصريون قطف ثمار انتفاضتهم بشكل غريب ومثالي بعيد عن الواقع، فكثيرون هم من تصوروا ولا يزالون بأن الثورة ستقلب منطق الأشياء وتقوّم الاعوجاج ”الموروث” و”المولود حديثا” بين عشية وضحاها· ·· استتباب الأمن، القضاء على هموم البطالة والسكن والمديونية والتبعية والطبقية بل وحتى مشاكل العنوسة والطلاق·· وأيضا ما يستتبعه التحول الديمقراطي من نزاهة انتخابات وشفافية تسيير ورشاد إدارة وحرية تعبير ومراعاة حقوق الإنسان·· وغيرها كثير· لكن المراقب بوعي لما يشهده المجتمع المصري الآن، يدرك أن الأوضاع قد تبدو راكدة لم تتغير، فالصورة على حالها مثلما كانت عليه قبل عام، بل تعاظمت في بعض تفاصيلها اليومية إلى ما هو أسوأ وتلحظ ذلك في الفوضى المرورية وارتفاع معدلات الجريمة وجبال القمامة التي زادت من حدة التلوث البصري في عاصمة تعاني أصلا من أورام مزمنة، كلها شواهد قد تحملك على التساؤل المشروع عن الذي تغيّر؟ بيد أن حديث النخبة هنا في مصر يبدو أكثر تفاؤلا مما تسمعه من جمهور ”المشتكين”، فنجاح الثورات، حسبهم، لا يقاس بالتحسن المادي السريع، بقدر ما يلمس في تغيّر معدلات الإدراك والوعي لدى غالبية الشعب وقدرته على إجراء الفرز والانتقاء واختيار الأصلح من بين ما تطرحه الساحة المصرية الآن من أفكار وتوجهات وتيارات· ولعل أكثر ما يلفت الزائر لمصر اليوم والمتجول في ميادينها وساحاتها، هو ذاك الإقبال الحماسي من عموم الناس على أحاديث السياسة برغم الضغوط الهائلة التي تكتنفها حياتهم اليومية، وعلى الرغم من أنك قد تسمع كلاما كثيرا يختلط فيه الإدراك الحقيقي بواقع الحال مع الأحلام والطموحات والأماني، فإنك تتحسس قدرا كبيرا من ذاك الوعي الذي يبني عليه المصريون كثيرا من أشواقهم· كرامة ”ضائعة” تُسترجع·· وصورة عن الذات تتغيّر ”ارفع رأسك فوق أنت مصري”··شعار تردد على مسامعنا كثيرا ونحن نصل ساعات الليل بالنهار ترقبا لجديد الثورة في بلد يُنظر إليه على أنه بوصلة العالم العربي، كثيرون من لم يسعفهم الحظ لزيارة مصر يستعصى عليهم فهم سر إصرار ملايين الثوار على تكرار تلك الصيحة التي صدحت بها حناجرهم وهي تهتف برحيل الفرعون· لا أزال أذكر جيدا حديث أحد النشطاء السياسيين المعارضين لنظام مبارك عند استضافته في برنامج ”بلا حدود” الشهير على قناة الجزيرة القطرية عقب انتخابات مجلس الشعب ”المزورة” في ,2010 وهو ينتقد بنبرة يائسة وحزينة سلبية المواطن المصري تجاه ممارسات النظام وقتها · ووصف فيها سلوكيات الفهلوة والعشوائية والسلبية والخضوع والخوف والتسيب واللامبالاة وأخلاق العبيد وغيرها من السلبيات التي طُبعت بها الشخصية المصرية خلال العقود الأخيرة بسبب جور وتسلط النظام· إذن فقد كانت صورة الذات بهذه ”السوداوية” في نظر المصريين أنفسهم، بيد أن أبرز ما شدني خلال زيارتي هذه المرة بخلاف ما سبقها، كان ذاك التغيّر الإيجابي الواضح في رؤية المصريين لذواتهم بعد الذي أظهروه للعالم في ثورتهم ضد مبارك وحاشيته· هذا الشعور بعودة الثقة والإحساس بالكرامة المجتمعية تراه على وجوه الناس وفي طريقة كلامهم، فالمصري اليوم يشعرك بأنه صار قادرا على تغيير واقعه ويفاخر بأنه أنجز ثورة سلمية أسقطت نظاما دكتاتوريا في فترة وجيزة لم تتجاوز 18 يوما، وهذا بخلاف الصورة السلبية السائدة قبل الثورة والتي كانت مشحونة بمشاعر الدونية والإحساس بالهوان والضعف وقلة الحيلة والمذلة والخضوع، كل هذا الإحساس بحسبهم لا يمكن أن توفره الأموال ولا الحالة الاجتماعية مهما بلغت مستويات انتعاشها· مستقبل يخافونه ··وآخر يطلبونه في مقابل ساحة الطموح والتفاؤل والآمال العريضة التي مهدتها أقدام الثائرين في ميادين التحرير، لا يخفي المصريون خوفهم وقلقهم من المستقبل وما تخبئه لهم الأقدار وهم يرون أن الذي تحقق بعد عام لم يكن ما انتظروه وتمنوه للعبور ببلدهم إلى حلم بناء دولة ديمقراطية دستورية قوية اقتصاديا وعسكريا وسياسيا· خيبة أمل وخوف تلمسها لدى جموع من خرجوا في 25 يناير، هاتفين في ميدان التحرير ”يحيا الجيش”، وهم يرون ما تناقلته شاشات الفضائيات أول أمس أمام مبنيي مجلسي الوزراء والشعب من ممارسات قمعية مع المتظاهرين أعادت إلى أذهانهم جهاز أمن الدولة المحل، وهم الذين لم يخطر على بالهم ولو للحظة واحدة أن الجيش الذي منحوه ثقتهم وحبهم سيوصلهم إلى لحظة يعودون فيها مجددا إلى ميدان التحرير للمطالبة ب”استرداد الثورة”!··· وأنا أغادر مطار القاهرة تفاءلت وأنا أرى ابتسامة وترحيب رجل الأمن المكلف بالتدقيق في جوازات السفر قبل صعود الطائرة، لكني صعقت حين طلب مني ”بقشيشا” بدل تدقيقه في جواز سفري ·· قلت في نفسي ما زال الطريق طويلا · ختاما قد لا تكون الصورة في مصر ”مشرقة” بالفعل، لكنها بالمقابل ليست ”قاتمة”، لاسيما أن الجميع هنا متفق على ضرورة السعي لتعود مصر أقوى وأزهى وأكثر إشراقا·· وأملي ألاّ يكون ذلك بعيدا··