يعتقد وزير الفلاحة الأسبق، عبد القادر بن داود، وعضو المكتب السياسي لحزب جبهة التحرير الوطني في عهد الأمين العام الأسبق المرحوم عبد الحميد مهري، أن الانتخابات التشريعية المقبلة ستشكل ضربة قاسية للأفلان وستكون مؤشرا إضافيا يؤكد تضييع الحزب العتيد لمصداقيته وسط المواطنين. ويضيف في أول حوار يجريه مع جريدة «البلاد» منذ أن قرر التوقف عن النشاط السياسي، احتجاجا على ما سمي آنذاك بالمؤامرة العلمية التي أطاحت بالمرحوم عبد الحميد مهري، أنه لا يمكن إنكار حقيقة التواجد الفعلي للتيار الإسلامي في الجزائر، مطالبا السلطة بالتصدي لأي عملية مشبوهة قد تستهدف مصداقية الانتخابات حتى لا تقع الجزائر في شراك مخطط بعض الدوائر التي تسعى لأن تقذفها في نهر الربيع العربي. «البلاد»: شارف غيابكم عن الساحة السياسية على العشرين سنة وتعودون إليها اليوم من باب البرلمان بعدما قررتم الترشح عبر قائمة حرة. ما هي دوافع هذه العودة؟ ثم هل لنا أن نعرف أسباب «تقاعدكم السياسي» بوصفكم مناضلا بارزا في صفوف الأفلان في عهد الحزب الواحد، ثم وزيرا شابا على رأس قطاع الفلاحة؟ عبدالقادر بن داود: صحيح ما جاء في سؤالك، بقيت بعيدا عن الساحة السياسية قرابة عشرين سنة لم أمارس خلالها أي نشاط سياسي رسمي، وهو اختيار طوعي يجد تفسيره ربما في مجموعة من العوامل والأسباب، أبرزها الظروف القاسية التي شهدتها البلاد في بداية التسعينيات وما تخللها من أحداث مأساوية تسببت في إراقة الدماء وإسالة الدموع، مما اضطر كثيرا من القياديين وكبار المسؤولين في الدولة وقتها للتوقف عن ممارسة السياسة، مخافة أن يزيدوا الطينة بلة ويحملوا البلاد وقتها ما لا تستطيع أن تتحمله وهذا لا يعني إطلاقا أنني ومن اتخذ نفس موقفي من الزملاء السابقين قد بقينا على هامش ما كان يجري في بلادنا، لكن ارتأينا أن نبقى بعيدين عن اللعبة السياسية، نظرا لعدم قدرتنا على فهم الكثير من القضايا والأزمات التي طبعت الساحة الوطنية وقتها، فآثرنا أن نترك من كانوا يتحكمون في زمام الأمور وقتها يضطلعون بمسؤولياتهم التاريخية بكل حرية ودون أي تشويش. وعكس تلك المعطيات وما أفرزته من ضبابية شملت مختلف النواحي والقطاعات، فإنني أؤكد لكم أن عودتي إلى الساحة السياسية اليوم إنما ترجع بالأساس إلى مجموعة من التحولات الطارئة في المشهد الوطني، حركها ربما الخطاب الهام الذي ألقاه رئيس الجمهورية بداية السنة المنصرمة بخصوص نية السلطة تكريس الانفتاح السياسي بشكل جعلنا نشعر أكثر من أي وقت مضى بضرورة الانغماس مجددا في الحياة السياسية والمشاركة فيها، خاصة بعد أن تمت المصادقة على مجموعة من القوانين الهامة التي تزامنت مع إجراء الانتخابات التشريعية المقبلة التي تخص إحدى أهم المؤسسات الدستورية في الدولة في مجال التشريع، فقررنا أن نقصد بابها كأول خطوة في عودتنا، ومع ذلك فإن أملي كبير في السلطة أن تقوم بتعميق هذه الإصلاحات لتشمل كل المجالات دون أن ننسى الشباب، حيث وجب منحهم الفرصة للتعبير عن آرائهم وتحقيق إرادتهم، وهذا كله من أجل تفويت الفرصة على أطراف أجنبية تبقى تتربص بالجزائر وتتمنى لها أن تغرق فيما يسمى الربيع العربي. وأعتقد أن المسؤولين الحاليين واعون بهذه المسألة الخطيرة التي لا يمكن تجاوزها إلا من خلال السماح لمختلف الفعاليات المشكلة للمجتمع بأن تلعب دورها كما ينبغي في إطار ديمقراطية حقيقية وليست تلك المزيفة التي جعلت بلدنا يدفع فاتورة غالية. كنتم من السباقين إلى فكرة تأسيس حزب سياسي، قبل إلغاء حالة الطوارئ وقبل صدور القانون الجديد للأحزاب، ثم يبدو أنكم تراجعتكم عن هذا المشروع، فما سر ذلك؟ المشروع الذي تتكلمون عنه يعود إلى قرابة السنتين أو أكثر، حيث كنت قد أجريت العديد من الاتصالات مع الكثير من المناضلين والزملاء والأصدقاء السابقين في الاتحاد العام للشبيبة الجزائرية والاتحاد العام للفلاحين الجزائريين وإطارات سياسية أخرى من أجل تفعيل هذه الفكرة المتعلقة بتأسيس حزب سياسي جديد يكون بديلا أو متنفسا لمن يقاسمنا الأفكار والمبادئ ووجهات النظر حيال كل المسائل التي تعج بها الساحة السياسية، لكننا ارتأينا في الأخير أن نعطل هذا المشروع بسبب التماسنا عدم وجود أي نية للسلطة وقتها من أجل فتح المجال السياسي، بدليل أن بعض الأصدقاء الذين سبقونا إلى الفكرة وقاموا بتأسيس أحزاب سياسية ظلوا محرومين من الاعتماد سنوات إلى غاية صدور قانون الأحزاب الأخير، وهذا لا يعني أننا تخلينا عن الفكرة من أساسها ولكن الأمر يبقى مؤجلا فقط وقد يتم تفعليها في القريب العاجل، خاصة أنني لم أكن مقتنعا تماما بالتوجهات التي ميزت بعض الأطراف التي مضت تؤسس أحزابها في ظرف أسبوعين أو ثلاثة أسابيع فقط، رغم أن بعضهم لا يملكون أي مصداقية لدى عامة المواطنين ولا يملكون أي برنامج أو مشروع يقدمونه كبديل للحلول التي طرحتها السلطة لحل مشاكل البلاد، أو تلك التي نجدها لدى فئة قليلة من الأحزاب تعد على أصابع اليد الواحدة. لذا أؤكد أن فكرة تأسيس الحزب تبقى قائمة، لكن أجلتها إلى ما بعد الانتخابات التشريعية المقبلة. ستشاركون في الانتخابات النيابية عبر قائمة حرة، هل هذا مؤشر يوحي بثقتكم المطلقة في شفافية ونزاهة الانتخابات المقبلة؟ أعتقد أنه في صالح السلطة أن تكون هذه الانتخابات شفافة وذات مصداقية على الصعيدين الوطني والدولي، لأن أي انزلاق أو سلوك مشبوه يمس هذه الاستحقاقات مثل التزوير أو أشياء أخرى قد يجلب لبلادنا مشاكل وأزمات سياسية هي في غنى عنها، خاصة في هذه المرحلة الحساسة، وهو مؤشر يجعلني أعتقد أن السلطة قد تعمل كل ما في وسعها من أجل المحافظة على سمعة الانتخابات التشريعية المقبلة من خلال السماح بالتنافس السياسي النزيه بين مختلف الأحزاب والتيارات التي ستتبارى على مقاعد المجلس الشعبي الوطني في إطار شفاف والذي سيفوز سنقول له «مبروك عليك»، شريطة أن يكون هذا الفائر صاحب برنامج قوي يشمل كل المجالات السياسية، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية من أجل تخفيف الضغط النفسي الذي يعاني منه المواطن وإخراجه من دائرة الكبت والاحتقان التي تحاصره منذ سنوات، بفعل سياسة الإغلاق الشامل التي اتبعت في السنوات الفارطة وتسببت في قتل الحياة السياسية والنقابية، وكل شيء يسمح بالترويح عن المواطنين، دون أن ننسى شرطا هاما يتعلق ببناء دولة القانون. جهات ودوائر وأحزاب تدعو للمقاطعة فكيف تفسرون موقفها؟ أولا، أنا أحترم مواقف كل الناس، وهذا يرغمني على احترام هذه الأصوات الداعية إلى مقاطعة الانتخابات، والتي قد يكون أصحابها مطلعين على أشياء لا يعلم بها الآخرون. وأعتقد أن أساس الحرية أنك تسمح للجميع بالتعبير عن أفكارهم ومواقفهم بالطريقة التي يشاؤون، فمن يدعو للمقاطعة فليفعل ومن يدعو لمشاركة المواطنين فليفعل كذلك، دون أن يصيبنا أي حرج من الفريقين، لأن الكلمة الأخيرة ستعود إلى الشعب الذي يقدر على التمييز بين الدعوتين والموقفين، لكنني أنظر إلى هذا المشكل من زاوية أخرى فالدعوة إلى المقاطعة، كما جاء في سؤالك تخفي ظاهرة هامة وهامة جدا ظلت ملتصقة بالسلوك الانتخابي عندنا في الجزائر، وأنا أتحدث عن مشكل العزوف التلقائي للمواطنين عن المشاركة في جميع الانتخابات التي شهدتها البلاد خلال العشرية الفارطة، وهي ظاهرة يجب أن تستوقفنا جميعا وتدعونا لفهمها والوقوف عند أسبابها الحقيقية التي أعتبر أن أحد مبرراتها راجع إلى مشروع التعتيم السياسي الذي مورس في السابق وأدى إلى قتل الحياة السياسية برمتها بشكل ساهم في إحداث طلاق بائن بين المواطن وبين السياسة وبالتالي طلاق عكسي بين المواطن والانتخابات، وهو ما يجعلني أستخلص أن من محاسن الانفتاح السياسي الجديد الذي ينبغي على السلطة تطويره وتنميته، ترك جميع الأحزاب تنشط بكل حرية لتجاوز مشكل تراجع نسب المشاركة في الانتخابات. كنت عضوا في المكتب السياسي للأفلان وأحد قيادييه في الثمانينيات ومنتصف التسعينيات، فهل تعتقد أن بمقدور الحزب العتيد المحافظة على مكانته السياسية أم سيعرف انتكاسة جديدة في ظل المشاكل التنظيمية التي يعرفها وصراع قيادته الوطنية مع حركة التأصيل؟ لا أعتقد ذلك ما دامت أغلب القيادات الحالية أو التي تداولت على تسيير هياكله ومؤسساته في السنوات الفارطة، ترفض فهم المشكل الحقيقي لحزب جبهة التحرير الوطني ومصادر أزماته الحقيقية. فلا يخفى على الجميع أن أحداث 8 أكتوبر 1988 أدت إلى انهيار كلي للحزب، وهذه حقيقة يتغافل عنها الكثيرون أو يرفضون على الأقل الاعتراف بها وتبعت ذلك مراحل صعبة وعلى درجة متقدمة من التعقد عاشها الحزب في الشهور التي تلت أحداث أكتوبر 1988. ومع مجيء الأمين العام الأسبق السي عبد الحميد مهري، رحمه الله، تمكن من إعطاء نفس جديد للحزب ظل يمثل وقوده الذي ضمن مسيرة حافلة استمرت إلى غاية ذلك المخطط الذي يطلقون عليه تسمية «المؤامرة العلمية»، وهو أغرب مصطلح سمعته في حياتي السياسية ولم أتمكن لحد الساعة من إدراك معانيه ولا أن ألمس أثر العلمية فيه! أقول إن كل شيء توقف في الأفلان عند هذه اللحظة المظلمة التي سيكشفها التاريخ يوما ما. كما سيعري أصحابها ومن صنعها، لأن انعكاسات هذه المؤامرة ظلت متواصلة إلى غاية اللحظة بعد أن تسببت في تقديم العديد من قيادات الحزب الذين آمنوا بالشرعية وقتها لاستقالاتهم وكنت واحدا من هؤلاء وبقيت على موقفي لمدة عشرين سنة طلقت فيها العمل السياسي نهائيا. وأدركت، كما أدرك العديد من الزملاء وقتها، أن هذا الانقلاب سيقضي نهائيا على الحزب برمته وسيدخله في دوامة من الصراعات الشخصانية بقيت متواصلة لحد الساعة، وما قضية التقويميين والقيادة الحالية إلا أحد مظاهر هذه الإفرازات التي كنا قد حذرنا منها منتصف التسعينيات، لأن الأفلان الذي يعتبر ملكا لجميع الجزائريين دون أي استثناء تحول، للأسف الشديد، إلى جبهة للمصالح والصراعات الشخصية، بسبب غياب البرامج والأفكار والمشاريع التي تخدم الدولة والمجتمع. وعليه أظن أن النتائج التي سيحصل عليها الأفلان في التشريعيات المقبلة ستكون كارثية وقاسية جدا، وسيكون ذلك دليلا على فقدان الأفلان لمصداقيته وسط المواطنين والناخبين. شهدت الساحة السياسية تأسيس قرابة 20 حزبا جديدا، فهل تعتقدون أن الظاهرة صحية، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد «ديكور» فرضته مجموعة من المتغيرات الإقليمية والعربية؟ لا أعتقد أن الأمر ظاهرة صحية، وهذا لا يعني أنني ضد التعددية الحزبية أو أي شيء من هذا القبيل، لكن أخص بالذكر في هذا المقام الطريقة العجيبة والمنهجية الغريبة التي تمت بها عملية تأسيس هذه الأحزاب وكذا الوقت الذي استغرقته العملية. فلا يخفى على الجميع أن بعض هذه الأحزاب لم تدم عملية تأسيسها سوى أيام معدودات فقط، وبعضها لم يقدم أي برنامج شامل، والبعض الآخر تعرضت أشغال مؤتمراته لمجموعة من المشاكل القانونية والتنظيمية، مثلما طالعتنا به وسائل الإعلام وهي جميعها مؤشرات تفيد بعدم مصداقية الكثير من هذه الأحزاب التي أجزم بأنها ستنقرض مباشرة بعد انقضاء الانتخابات المحلية المقبلة. فالقضية بالنسبة للعديد من مؤسسي هذه الأحزاب تتعلق أساسا بالمناصب والمقاعد والمنافع وأشياء أخرى، وأنا هنا ألوم بالدرجة الأولى السلطات العمومية التي وضعت الراغبين في تأسيس أحزابهم أمام الأمر الواقع ولم تمنحهم الوقت الكافي لتشكيل أحزابهم وتقديم البرامج القوية التي يعود نفعها على الدولة والمجتمع. يشبه البعض الانتخابات التشريعية المقبلة بانتخابات 1991 بسبب الانفتاح السياسي النسبي الذي يميز المرحلة، فهل ترون أن الإسلاميين ستكون لهم كلمتهم، أم أن دورهم سيكون محدودا جدا؟ قضية الإسلاميين أو الأحزاب التي تمثل هذه التيار، حقيقة موجودة ولا يمكن لأحد القفز عليها أو إنكارها، والأهم من كل هذا أن المنتسبين إلى هذا التيار جزائريون قبل أي شيء آخر، لكن المطلوب منهم أن يحترموا قوانين الدولة ومؤسسات الجمهورية وكذا قواعد اللعبة السياسية، ما داموا قبلوا دخول معتركها والتنافس بالأساليب المشروعة، وماداموا عايشوا مثل بقية ممثلي التيارات السياسية الأخرى المرحلة القاسية التي عصفت بالبلاد، فإنني أدعوهم من باب النصيحة إلى تغيير خطابهم السياسي وتطويره بشكل يتلاءم مع مقتضيات هذا العصر المليء بالمتغيرات والأحداث المتسارعة على كل الأصعدة. وأنا شخصيا لم أكن أعتبر أو أنظر إلى إخواننا في الأحزاب الإسلامية على أنهم أعداء، بل هم منافسون لنا في الساحة، نحتكم وإياهم إلى إرادة الشعب الذي يختار ما يشاء من ممثليه ومن يحكمه ويسير مؤسسات دولته. أما عن النتيجة التي يمكن أن يحصدها هذا التيار فإنني لا أملك معطيات كثيرة ولا يمكنني الجزم بشيء لست متأكدا منه.. المهم عندي أن يدرك جميع العاملين في الساحة السياسية، وطنيين كانوا أم إسلاميين أم حتى شيوعيين، أن الكلمة الأولى والأخيرة هي ملك للشعب وهو وحده من يقرر، وعلى الجميع احترام هذه الإرادة تطويرا وتنمية للفعل الديمقراطي في الجزائر.