لعل الكثير منكم قد قرأ في طفولته تلك القصة ذات المغزى العميق، مفادها أن راعيا قد وسوس له الشيطان يوما بأن يستهزئ بأهل قريته، فأطلق العنان لعقيرته طالبا النجدة، بحجة أن بقرته قد هوت من عل. وسرعان ما حضر أهل القرية لإنقاذ البقرة المتردية، لكن كم كانت دهشتهم كبيرة حينما اكتشفوا أن الراعي الغارق في الضحك، قد سخر منهم، فعادوا أدراجهم وكلهم سخط وتذمر على فعلة الراعي الطائشة. ومرت الأيام فإذا بالبقرة تهوي فعلا من شاهق، فأخذ الراعي يصرخ طالبا النجدة، لكن لا أحد استجاب لاستجارته، فهلكت البقرة. وما دام «الحديث قياس» كما ورد في ثقافتنا الشعبية، فهل وجد حكامنا أنفسهم في وضعية الراعي، بعد أن ظلوا لسنوات يكذبون على الشعب ويخادعونه؟ ظل النظام السياسي يغذينا برائحة الديمقراطية لمدة نصف قرن من الزمن، ويقدم الوعود المعسولة، فكان حاله كمن سقى الظمآن سرابا، وكان حال الشعب كمن تغذى في المنام. ودأب أهل الحل والعقد، على الحجر على المواطنين، وعلى تجاوز الإرادة الشعبية، والعبث بالديمقراطية كتزوير الانتخابات، وترويض المجتمع المدني، واختزال السلطة القضائية في جهاز يأتمر بأوامر السلطة التنفيذية، وتسفيه الرأي الآخر. أدى ذلك إلى انهيار الثقة بين الحكام والمحكومين، فترسّخت في أذهان الناس مقولة مفادها «كذب الحاكم ولو صدق». وها نحن الآن على عتبة مرحلة سياسية جديدة، بانت معالمها بفضل الربيع العربي الذي دك أركان الاستبداد في الوطن العربي. فاضطر النظام السياسي إلى إرخاء الحبل قليلا، وهو مُكره، وصار يتحدث عن الإصلاح السياسي بكل ما أوتي من قوة، وُصف بأنه لا يقل أهمية عن لحظة نوفمبر العظيمة! لكن السواد الأعظم من الشعب (وهم من الشباب) جعلوا أصابعهم في آذانهم حتى ولو صدق الحكام هذه المرة، لأنهم متيقنون أن فاقد الشيء لا يعطيه، وبأن من شبّ على الاستبداد، شاب عليه. والحق أن الميدان السياسي ينضح بمؤشرات دالة على غياب الإرادة السياسية أو على تكسيرها، كرفض الإدارة الاستجابة لمطالب الأحزاب السياسية الراغبة في استعمال ورقة واحدة في عملية الانتخاب لتقليص فرص التزوير، رغم أن دور الإدارة ينحصر أصلا في توفير الشروط الضرورية التي تراها الطبقة السياسية ضرورية لإنجاح الانتخاب. بالإضافة إلى استحداث «بدعة» خطيرة تهدد الحياة السياسية لم تكن موجودة حتى في السنوات القحط السياسي، وهي استدعاء بعض مرشحي أحزاب المعارضة من طرف الأمن للتحقيق، وهو إجراء تغني عنه صحيفة السوابق العدلية، لو لم تكن هناك نية مبيّتة للالتفاف على مشروع التغيير. ومما يدفع المرء أيضا إلى عدم تصديق السلطة السياسية فيما تدّعيه من إصلاحات سياسية، تضخيم بعض القوائم الانتخابية لحاجة في نفس يعقوب، ورفض تشكيل حكومة حيادية تشرف على الانتخابات، أو على الأقل منع الوزراء من الترشح ما لم يستقيلوا من مناصبهم ، وهذا من باب الحرص على عدم استغلال إمكانات الدولة في الحملة الانتخابية، وكذا عزوفها عن تحرير المجالين الإعلاميين المرئي والسمعي من قبضة الدولة، وهما الضروريان للممارسة السياسية الصحيحة، والمماطلة في فتح الإعلام العمومي أمام الرأي الآخر. هذا مجرد غيظ من فيض مما يمكن أن تتخذه السلطة السياسية من أجل إشاعة جو الثقة تقنع المواطن بالمشاركة في عملية الانتخاب. وعلى أي حال، فإن إحجام النظام السياسي عن تجسيد «إرادة التغيير» في قرارات ملموسة يدركها المواطن بحواسه الخمس، يوحي بأن الأوضاع تسير نحو إعادة استنساخ المهازل الانتخابية الماضية، التي جعلت المخيال الشعبي يعلق عليها دائما بالمثل الشائع «لعاب احميدة ورشام احميدة».