يحاول نص"فروسية" للأستاذ الدكتور عبد القادر رابحي أن يقدم علامة فارقة حول تحول الوعي الشعري من حدود البوح المباشر والتقليدي إلى التعدد والاختلاف والمغايرة،ولربما اختيار العنوان يوحي بهذه المحاولة في المقاربة بين زمنين مختلفين ،إذ يتم التصعيد من عنصر التكثيف اعتبارا من لحظة تراثية تحاول التخلص من اعتباراتها وتهديم نسقها لأجل إعادة الاعتبار للهامشى وهذا إن دل على أمر فإنه يدل على ثورة على كل الممكنات القبلية . وحتى بنية النص تخضع إلى هذا التبعثر ،حيث تم تهديم مرتكزاته الأساسية وذلك باعتماده نظام الفقرات التي تتخللها مقاطع شعرية،إذ يتضح أن الشاعر مسكون بهاجس المغايرة ثائر على الاعتبارات القلبية،يحاول تأسيس منظور مختلف ومنطق شعري تتجاور فيه العوالم،حيث لا سطة إلا للغة ولحضورها الفاعل مهما كان قالبها،ولاهوية لها إلا ما حدده البوح ضمن إشاراتها المضمرة،وهذا التجاوز لسلطة الأقدمين ربما هو نتاج الواقع السياسي والإجتماعي الآني،حيث الثورات المختلفة أضفت إلى اختلاق وعي مغاير يحاول الهروب من سلطة الأنساق حتى يؤسس هوية شعرية جديدة متحررة من الجاهزية المطلقة واليقينية ومن سلطة المعايير القبلية. العنوان:"فروسية" يتشكل العنوان من لفظ واحد يحمل دلالات مختلفة منها:الأصالة والسمو والرفعة والكمال وكرم الطباع والخصال والشجاعة والقوة والجرأة والتحدي،إضافة إلى عدم الاستقرار والتقاتل والتنافر على افتراض أن هذه الصفة تطلق على من يثبت ما قلناه سابقا في ساحة القتال ،وكأن بالنص هنا يتحول إلى بوح يلفه الغموض فيصبح المتلقي في حالة استعداد متحليا بالشجاعة والجرأة لمقاربة المعنى الأصلي،وتصبح محاورته مغامرة محفوفة بالمخاطر نظرا لابتعاده عن حدود المباشرة ،وربما التزام المفردة بصفة الإنكار تأكيد لما قلناه سابقا من تأسس على لحظة غامضة لا كاشفة ،لتصبح المغامرة أكثر امتدادا وأعمق أثرا في ثنايا النص. “أَنَا يَا صَاحِبِي مُنْذُ انْكِسَارِ الوَقْتِ فِي نَافُورَةِ المَعْنَى ذَوَتْ أَنْهَارُ قَلْبِي وَ اكْتَوَتْ بِالصَّبْرِ أَشْجَارٌ رَأَتْ فِي غُرْبَتِي مَا لاَ يَرَاهُ النَّائِمُ المُسْتَيْقِظُ المَكْفُوفُ فِي ضِلْعِ المَرَايَا لَمْ يَعُدْ فِي صَمْتِ هَذَا الجِيلِ مَا يُغْرِي لِبَاسٌ وَاثِقٌ وَ الجَوْفُ مَنْخُورٌ وَ وَرْدُ الرِّيحِ لاَ يَرْسُو عَلَى حَالٍ وَ لَمْ تَرْفَعْ إِشَارَاتُ ال مُغَنِّي لَحْنَهَا صَوْبَ المَوَاثِيقِ التِي تَنْحَازُ لِلأَقْوَى تَمَنَّيْتُ ارْتِقَاءَ العُشْبِ لَكِنْ لَمْ يَعُدْ فِي نِيَّتِي مَا يُجْبِرُ المَعْنَى وَ يُعْلِي هَامَةً فِي طِينَةِ الأَنْسَاقِ صَارَتْ جُلُّ أَشْعَارِي هِجَاءً دَامِسًا يُفْضِي إِلَى بَيْتٍ يَتِيمٍ كُلَّمَا أَحْسَسْتُ أَنِّي لَمْ أَعُدْ أَهْوَاهُ عَادَتْ بِي مَوَاوِيلِي إِلَى نَافُورَةِ المَعْنَى وَ لَمْ أَجْرُؤْ عَلَى تَغْيِيرِ نَصٍّ لَمْ يَكُنْ فِي الأَصْلِ مُحْتَاجًا لِهَمِّي ثُمَّ إنَّ الأَصْلَ فِي الأَشْيَاءِ حُبٌّ غَيْرَ أَنَّ الحُبَّ لاَ يَكْفِي لِهَذَا كَانَتِ الأَشْيَاءُ صِهْرِيجًا مِنَ الأَحْزَانِ مَلَّتْهُ المَرَايَا مُنْذُ مَا يَدْنُوِ مِنَ العُمْرِ الذِي يَنْثَالُ فِي المَعْنَى هَبَاءً". تحدد الذات وجودها بالنظر إلى حركية الزمن المنقضي،حيث الوجود المحايث"يا صاحبي" يقف عند مسافة انتظار اكتمال الهوية اللغوية،ومادامت الصحبة تحمل معاني الاقتراب والتشابه والألفة بسبب ورود عناصر تصل إلى حد التطابق بين الموضعين"موضع الذات" و"موضع الصاحب"،فإن الذات تحاول تحديد إمكاناتها وخصائصها النوعية بالنظر إلى الموضعية الثانية أي الصاحب ،من خلال التجاور والتحاور والتلبس بالتعددية ورغبة الاختلاف الذي تفرضه مساحة التوتر والإرباك في ثنايا الصاحب/القراءة الثانية.ومن هنا يكلم الشاعر إمكانه المتحقق في الوجود المحايث وإن بدا بعيدا في تموضعه"يا صاحبي"،حيث الاعتراف بتشتت الزمن وتبعثره مما يؤدي إلى تشتت المعنى واختلافه بين اعتبارات مختلفة"منذ انكسار الوقت في نافورة المعنى"،والذي يسهم في تدفق الاحتمالات المختلفة في حميمية واضحة،ليكون الوعد بالانجاز المستقبلي"أشجار" محفوفا بالمخاطر والآلام"اكتوت بالصبر"،حيث هذه الاحتمالات ترقب لحظة الاغتراب حينما يتخلى النص عن مركزيته فتصبح اللغة مجرد اعتراف صامت فاقدة لوطن الوضوح،وتتموضع بين تلك المسافات الغارقة في متاهات الانتظار،وكأنها تعبر عن تشتت واضح ضمن تلك الهوية المحايثة"مالايراه النائم المستيقظ المكفوف في ضلع المرايا"،ومن ثمة يفقد المتلقي ثقته في الوصول إلى المعنى النهائي والأصلي"لم يعد في صمت هذا الجبل ما يغري لباس واثق"،فيصمت بحثا عن هذه المغايرات غير القارة والتي تعصف بالمعنى الأحادي الدلالة"وورد الريح لا يرسو على حال"،لتعلن عن حروب المعاني ،حيث عهود التمكن هي للغمكان الأقوى “مغن لحنها صوب المواثيق التي تنحاز للأقوى"،إذ تتهاوى إشارات الارتقاء على أرضية الاختلاق.ومن هنا فالنص يقر بتخليه عن المعنى الأحادي والهوية الثابتة المتعالية والاشتغال على المضمرات ويعد باحتمالية متعددة “يعلي هامة في طينة الأنساق"،فيصبح الشعر هجاء لكل انوجاد قار متسلط ،وتمكينا لبوح مكثف يحمل صفة التعدد والتجدد،حيث يتخلى عن مؤلفه ليبسط احتمالاته وغواياته على القراء،ويبقى الأصل في الوجود الشعري هو الود الواقع بين النص ومتلقيه إضافة إلى ذلك الحزن الذي يلفه ضمن تلك الاحتمالية التي تضفي أحيانا إلى نوع من العبث والافتراضية الواقعة في مأزق التشتت. زَيْفٌ فِي فِضَّةِ الرَّمْلِ زَيفٌ فِي صَدَأ الحَدِيد زَيْفٌ فِي غُبَارَاتِ الإِسْمَنْتْ زَيْفٌ فِي حُبَيْبَاتِ المَاءِ المَالِح هَلْ أَنْتَ هُوَ ذَلِكَ الذِي انْتُشِلَ مِنْ رَدْمِ الأَنْسَاق ذَاتَ نَصٍّ بَائِسْ هَلْ أَنْتَ هُوَ ذَلِكَ المَفْتُونُ بِالبِنْيَةِ المُسَوَّسَة عَلَى حِسَابِ جَمْعٍ غَفِيرٍ مِنَ التَوَجُّعَاتِ ذَاتَ هَزَّةٍ مِنْ يَقِينِ الإِشَارَاتِ وتحطم اليقينية على أرضية الشك"زيف"،حيث يتضح زيف التمثل ضمن كشوفات البحث المضني في تلك الاعتبارات المحايثة"فضة صدا غبارات حبيبات"،ليسائل النص إمكانه المتحقق في لحظة تعثر بزمن الدهشة إن كان هو المنتشل من سلطة الأنساق المهيمنة وبؤس الأحادية من قبل المتلقي"هل أنت هو ذلك الذي انتشل من ردم الأنساق ذات نص بائس"،أو كان هو المسيج بفتنة الإغواء “هل أنت هو ذلك المفتون بالبنية المسوسة.."،والذي أسس هويته على تراكمات أوجاع التحقق حينما فتك الشك بالجاهزية المعلنة والثبوتية القاتلة. مَاتَ المَرْدُومُ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ سَيَّارَةُ البِئْرِ إِلَى البِنْيَةِ المُهَشَّمَة مَاتَ الحُلْمُ المُبَطَّنُ بِاليَافِطَاتِ العَرْجَاءِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ الفَيْرُوسُ السَّاكِنُ فِي مَصْلِ الإِغَارَاتِ إِلَى جَسَدِ الاسْتِغَاثَةِ ويموت المعنى الأصلي"مات المردوم"،وتنتفي لحظته بعد أن تردم صورته الأولية،حيث محاولة الكشف والاستخراج من سحيق الغياب تبوء بالفشل مع تهشمه على صخرة الحضور المتعالي"قبل أن تصل سيارة البئر إلى البنية المهشمة"،إذ حلم التمكن المؤسس على وجع التعثر يتهاوى قبل أن تغيث النص تلك الغارات المختلفة من قبل القارئ ليعيد تشكيل انوجاده وفق أبجدية الوضوح"مات الحلم المبطن باليافطات العرجاء....". َ"يا رَفِيقِي فِي انْكِسَارِ الحَرْفِ صَمْتِي وَاقِعٌ مُرٌّ وَ قَلْبِي ثَوْرَةٌ مَكْتُوفَةٌ العَيْنَيْنِ لَمْ نَفْرَحْ بِأَضْغَاثِ التَرَجِّي حُلْمُنَا صَمْغٌ رُخَامِيٌّ و َ بَيْتٌ مِنْ زُجَاجِ الجُرْحِ وَجَّهْنَا الهَوَائِيَّاتِ لِلْمَنْفَى وَ فُزْنَا بِبِطَاقَاتٍ تَرَى فِي غَمْرَةِ التَشْفِيرِ مَنْ مِنَّا بَكَى يَوْمًا عَلَى أَنْقَاضِ نَصْرٍ سَاهِمِ الرَّايَاتِ مَنْ مِنَّا تَدَلَّى مَرَّةً مِنْ طَابِقٍ يَعْلُو عَلَى المَعْنَى قَليِلاً ثُمَّ دَاخَتْ رََأْسُهُ عِنْدَ انْقِطَاعِ البَثِّ وَ انْثَالَتْ عَلَى حِبْرِ التَّوَارِيخِ التِي فِي صَدْرِهِ بَارُودَةُ الأَنْسَاقِ مَنْ مِنَّا رَأَى فِي الحُلْمِ نَصْرًا زَائِفًا يَبْكِي عَلَى أَبْطَالِهِ بَعْدَ انْقِلاَبٍ عَسْكَرِيِّ الوَزْنِ قَدْ يَبْقَى سُؤَالٌ عَالِقٌ فِي غُصَّةِ المَعْنَى وَ شَيْءٌ مِنْ سَوَادِ اللَّوْنِ فِي شَاشَاتِ جِيلٍ يَسْتَسِيغُ النَّهْلَ مِنْ نَافُورَةِ الأَثْداءْ". ويواصل الشاعر مناداته لإمكانه المتحقق في الوجود المحايث الذي تتهاوى معه هوية النص الأصلية “يا رفيقي"،حيث يقر بتحول بوحه إلى لغة صامتة وبإجهاض أمل المكوث،إذ اللغة والإمساك باختلافاتها تسيج بالاستحالة وإن بان بريقها ،وبالأوجاع المحفوفة بخر التهديم “زجاج الجرح"،لذلك فالشاعر يعترف بطرد المتعاليات ناحية المجهول والاكتفاء ببعض الإشارات العابرة التي تدل على سر النص،ويسأل الشاعر متحديا هل من استطاعة لخرق النص والنصر في اقتحامه،وهل هناك من استطاع التعالي على الوجود النصي وصولا إلى ذروة بوحه او ما فوقه ليدخل في نشوة الارتقاء وذبذبات التيه بعد انقطاع إشاراته الدالة على حقيقته المغيبة،فيدخل في زمنية منقضية بحثا عن لحظة شعرية جديدة تكون بعيدة عن كل الأنساق المهيمنة،ويواصل الشاعر تحده متسائلا:هل من متلق رأى كل تلك المحايثات نصرا بالوصول بعد خلخلة وإرباك وانقلاب لصورة التطابق؟،ليبقى السؤال عالقا معبرا عن خيبة الوصول إلى المعنى النهائي في زمن المستقبل مهما كان امتداده. طَفِّفُوا فِي المَفَاهِيمِ وَ اكْنِزُوا رِبَا الأَنْسَاقِ لِلْيَوْمِ الأَسْوَدِ وَ تَحَفَّظُوا قَلِيلاً عَلَى مَجِيءِ القَادِمِ مِنْ بَرْدِ المُرْتَفَعَاتْ إِلَى حَمَإِ الأَرْضِ المُسَطَّحَةِ فَفِيهِ حَتْمًا شَيْءٌ مَا يُخِيفُكُمْ وبوجه الشاعر أمره للاعتبارات المختلفة حتى تقلل من سلطة المفاهيم واليقينية الثابتة"طففوا في المفاهيم"،ولتجعل الأنساق مهما زادت في حكم المتستر الموجود ضمن مدارات الغياب أو عدم التداول"اكنزوا ربا الأنساق" تحسبا لثورة النص حينما يتحرر من الاعتبارات القبلية"لليوم الأسود".ويأمرها بإظهار التشكك والقلق وعدم قبول ذلك المعنى المتعالي الذي يقضي بأحاديته على حميمية التجاور والتعدد"على مجئ القادم من برد المرتفعات إلى حما الأرض المسطحة"،وذلك لاحتكامه إلى منظور سلطوي قمعي “ففيه حتما شيء ما يخيفكم". زَيَّفُوا الوَحْمَ فِي عُيُونِ الصَّبَايَا زَيَّفُوا الحُبَّ فِي صُرَاخِ الوِلاَدَهْ زَيَّفُوا الحُزْنَ فِي ابْتِسَامَاتِ طِفْلٍ زَيَفُوا الصَّبْرَ وَ الشَّقَا وَ السَّعَادَهْ زَيَّفُوا الوَعْيَ وَ اسْتَعَانُوا بِحِبْرٍ يَرْهَنُ الجِيلَ فِي مُتُونِ الوِسَادَهْ زَيَفُوا النَّصْرَ فِي المَوَاثِيقِ حَتَّى صَارَ نَصْرًا تَحَارُ فِيهِ الشَّهَادَهْ زَيَفُوا الزَّيْفَ فِي القُلُوبِ وَ لَمَّا صَارَ صِدْقًا تَفَرَّغُوا لِلْعِبَادَهْ ويلف الغياب الاعتبارات المختلفة"زيفوا"،إذ التزييف فعل تمكين لوعي مغاير في مقابل الوعي الأصيل،ومن هنا فالخرق يطال النص ولغته"الوحم الحب الحزن الصبر الوعي النصر الزيف.. " ليتم استدعاء المحايثات ،ويصبح الزمن القادم"يرهن" إعلانا عن تأسيس وعي مغاير تنهار فيه كل ترقب ترسمه المعيارية القديمة،إذ يصبح النص قريبا من ارتسامات الحلم الذي تختلط فيه العوالم وتنحل فيه كل القيميات السائدة"يرهن الجيل في متون الوسادة"،ويصير نصر الذات في مقاربة المعنى الأصلي وهما تلفه الاستحالة إذ يبتعد عن حدود المعاينة “صار نصرا تحار فيه الشهادة"،ومن ثمة يصير كل نص حامل لمتعدد آخر وتصبح كل قراءة إساءة فهم للقراءات السابقة،حيث كلما ادعت الذات المتلقية الاقتراب من المعنى الأصيل حاول النص التبرؤ من تلك الاختلاقات"زيفوا الزيف في القلوب ولما صار صدقا تفرغوا للعبادة". زَيْفٌ فِي مَوَاقِعِ الرِّيحِ زَيْفٌ فِي الإِشَارَاتْ زَيْفٌ فِي خِطَابَاتِ الغِبْطَة كَيْفَمَا كُنْتَ لَنْ تَسْتَطِيعْ لَنْ تَسْتَطِيعْ ويبقى التهشيم مسايرا لمنطق البوح،إذ الزيف يسكن موضعية النص مهما اختلفت:حينما تعصف ريح التهديم بالنص فتهلك كل اعتباراته القبلية “في مواقع الريح"،وحينما تكون إشاراته رهن الاستفزاز ،إذ كلما حاول المتلقي الاقتراب منها بان تموضعها في حدود الكذب"زيف في الإشارات"،وأيضا حينما تصدر اعترافات الوصول تخالطها فرحة التمكين، لتنهار أمام حقيقة اللاوصول"زيف في خطابات الغبطة"،لتعلن الذات في الأخير خيبتها وعجزها عن مقاربة المعنى النهائي مهما تعددت المحاولات"لن تستطيع". “أُسَمِّيهِ جُرْحًا نَازِفًا طَالَ صَبْرُهُ سِنِينًا أُسَمِّيهِ دَمْعًا أَحْمَرًا سَاكِبًا جَمْرًا حَزِينًا كَمَا حُزْنُ التِّي لَمْ تَرَ الجَمْرَا أُسَمِّيهِ وَقْتًا سَائِلاً لَمْ يَنَلْ دَمًا فَلاَ رَاجِلٌ دَومًا وَ لاَ رَاكِبٌ دَهْرَا تَنَاءَى كَمَا النِّيرَانُ تَبْنِي عَلَى الرَّدَى سُيُوفًا لَها فِي كُلِّ بَارِقَةٍ نَصْرٌ رَثَى نَصْرَا وَ فِي كُلِّ ظِلٍّ كَانَ لِلشَّمْسِ مَائِلاً وَحِيدًا كَمَا الأَحْزَانُ تَأْوِي إلَى الذِّكْرَى عَصَافِيرُ شَوْقٍ هَذِهِ الأَرْضُ كُلُّهَا دِمَاءٌ لَهَا فِي القَلْبِ نَافُورَةٌ حَيْرَى عَلَى مَا دَهَاهَا مِنْ كُرُوبٍ وَ عَالَمٍ يَرَى فِي سَوَادِ الحَرْفِ أَشْلاَءَهَا الحَمْراءَ مَا لَمْ يَكُنْ فِي سَابِقِ القَوْلِ مِنْ مَسَافَةِ الحُزْنِ فِي التَّأْوِيلِ لاَ تَفْضَحُ السِّرَّا أَحُبُْلَى بِمَا كَانَتْ تَرَى البَحْرَ أَسْوَدَ الغَيَابَاتِ وَهْمًا لاَ كَتُومًا لَهُ أَمْرَا كَمَا يَكْتُمُ التَّدْوِيرُ فِي الحَرْفِ خِرْقَةً لَهَا فَجَوَاتٌ لاَ تُرِيدُ لَهُ سِتْرَا تُذِيعُ مَطَايَا الشَّوْقِ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ وَ لَيْسَ لَهُ قَوْمٌ يَمُوتُونَ دُونَهُ فَتُبْقِي لَهُ الأيَّامُ فِي مَوتِهِمْ عُذْرَا سِوَى مِنْ هَجِيرٍ غَائِرِ الشَّوْقِ مُحْتَمٍ بِرِيحٍ عَلَى الأَسْحَارِ تَبْكِي لَهُ سُدَى حَمَامَاتُ سَقْفٍ مَائِعٍ حَامِلٍ وِزْرَا بُكَاءً رَأَى مِنْ هَجْرِ وِحْدَتِهِ هَجْرَا أَوَقْتٌ لِهَذَا الوَحْمِ دَامٍ كَغَيْرِهِ يُرِيقُ سُبَاتَ العَيْنِ مِمَّا رَأَتْ بِهِ مِنَ الحُبِّ فِي كُحْلِ المَسَافَاتِ عِنْدمَا يُلاَقُونَهُ جَمْعًا وَ يَشْتَاقُهُمْ فَرْدَا يَلُوحُونَ فِي عُمْقِِ الدَّلاَلَاتِ مِثْلَمَا تَرَىَ أَعْيُنُ الزَّرْقَاءِ فِي قُرْبِهِمْ بُعْدًا جَمِيلاَ كَأَنَّ الحُرَّ يَأْبَى رُكُوبَهُ فَكَانَوا لَهُ سَيْفًا وَ كَانَ لَهُمْ غِمْدَا أُسَمِّيهِ بَعْضًا مِنْ حُرُوبٍ تَثَاقَلَتْ هَزَائِمُهَا فِي القَلْبِ حَتَّى تَرَدَّدَ الهَوَى العَابِرَ الأَوْهَامِ فِي يَوْمِ نَكْسَةٍ رَمَى خَيْلَهَا فِي بَحْرِ مِلْحٍ حَسِبْتُهُ وَ لَكِنْ أُجَاجٌ أَسَمِّيهِ تُفَّاحَةُ الصَّدَى بِلَوْنٍ غَرِيبٍ عَنْ هُيَامَاتِ عِشْقِ لَمْعَةِ الوَقْتِ فِي رَحْلِ المُحِبِّينَ لِلذِّكْرَى أُسَمِّيهِ وَ الأَسْمَاءُ فِي سَاحَةِ الوَغَى خُيُولٌ لَهَا فِي الرِّيحِ حَرْفٌ تَوَسَّدَ الرَّحِيلَ الذِي سَاقَتْ جِرَاحَاتُهُ الأُخْرَى لِقَبْرٍ رَقِيقِ الجَوْفِ يَأْبَى لِفَارِسٍ غَرِيبٍ بَأَنْ تَرْثِي عَذَابَاتُهُ القَبْرَا". وتحاول الذات أن تموضع هذا البوح في إطار مفاهيمي مخصص،عله يحدد هويته المنفلتة في زمن المستقبل"أسميه"،لذلك فهو يمنحه التعدد"جرحا نازفا طال صبره سنينا دمعا أحمرا ساكبا جمرا حزينا.. وقتا سائلا لم ينل دما..".وحسب ما يلاحظ فإن هذه الخصائص النوعية تصب كلها في مصب الوجع وحروب التمكن"جرحا دمعا دما.."،ويسمه بالخلخلة وعدم الثبات،حيث يبين منطقه عن لحظة مربكة وتشتت بين اعتبارات زمنية مختلفة"فلا راجل دوما ولا راكب دهرا"،ليتحول النص بعد ذلك إلى سلاح صنع على اشتعال البوح والالتباس فيحقق نصرا واهما يتبعه نصر آخر أو نص آخر"كما النيران تبني على الردى سيوفا لها في كل بارقة نصر رثى نصرا"،ويتخذ موضعية هامشية تبتعد عن مركزية الحضور والوضوح"الشمس"،وتتأسس على الاختلاف والمغايرة والانفرادية"وفي كل ظل كان للشمس مائلا وحيدا كما الأحزان.."،إذ ارتحالات الذاكرة تلوذ بالمتعاليات"عصافير شوق" في حميمية واضحة لتشكل الهوية المستقبلية"تأوي".وتبقى الذات تعترف بالممكنات الآلمة التي تتأسس عليها أرضية النص"كلها دماء نافورة حيرى كروب سواد الحرق أشلاءها الحمراء"،حيث تتلاشى المطابقة وتتبعثر الهوية القبلية فيكون التأويل قابعا في مسافات التوتر والحزن"مالم يكن في سابق القول من مسافة الحزن في التأويل"،باحثا عن سر التمكن الذي يبقى دوما يلفه الغموض"لا تفضح السرا".وتسأل الذات اللغة إن كانت تحمل جنينية واضحة لتمكين لاحق يحمل صفة الامتداد ضمن مسارات الغياب والوهم"أحبلى بما كانت ترى البحر أسود الغابات وهما لا كتوما له". افْرَنْقِعُوا لَيْسَ ثَمَّةَ مَا يُشَاهَدْ ويستحضر الشاعر في الأخير مشهدا تراثيا “افرنقعوا"،وكأن بفروسية النص تتأسس على لحظة تراثية ،وكذلك على سقوط البداوة حينما تخالط اللغة تعقيدات التحضر،إذ ينزوي التراث في ذاكرة النص ليقبل بتراكمات المستقبل فيصبح بالتالي النص تمكينا لزمنين،وإن كان تمكينا يلفه الالتباس ،إذ ليس في النص ما يشاهد أو ما يدل على المعنى الأحادي. ويبقى النص يحمل في طياته تأويلات مغايرة إذ صفة النصوص العظيمة التعدد،وهذا ما نتركه للقراء عثورا على زمن إبداعي مغاير،ولربما أكون قد أغفلت جوانب أو قصرت في محاورة النص وهذا مدعاة لتقديم قراءات أخرى ،فالفروسية تتطلب جرأة وشجاعة في المكاشفة وبحثا مغامرا للعثور في تلك المسافات الصامتة خاصة إذا كانت اللغة مربكة قلقة مخلخلة.