كلية الآداب-جامعة عنابة في التاسع عشر من شهر جوان2009م رحل عن عالمنا الأديب محمد صالح الجابري الذي ترك سجلاً حافلاً بالمنجزات العلمية والأدبية المتميزة،فقد احتل مكانة مرموقة في الأوساط الثقافية والأكاديمية في الوطن العربي،واشتملت اهتماماته على مختلف مجالات الفكر والأدب واللغة العربية، لقد كان الجابري واحداً من المثقفين الموسوعيين، فهو يعدّ بحق رائداً من الرواد، وعلماً من الأعلام الجادين الذين مازجوا بين شغف البحث العلمي، وجماليات الإبداع الفني، وعمق الرؤية الفكرية،حيث استهوته الثقافة الموسوعية،و لم يجعل قلمه حكراً على جنس أدبي معين،و ألف الكثير من الدراسات النقدية، وكتب القصة والرواية والمسرحية، و عمل بجد من أجل التقريب بين أقطار المغرب العربي، وتشييد جسور التواصل بين المشرق والمغرب في عالمنا العربي، وذلك من خلال مشروعه الضخم الموسوم ب:«موسوعة أعلام العلماء والأدباء العرب والمسلمين»،والذي أشرف عليه في إطار أبحاثه لفائدة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التابعة لجامعة الدول العربية، فقضى من أجله ما يربو عن ثلاثين عاماً في البحث والتنقيب خدمة للثقافة العربية، وقد صدر منه تسعة عشر مجلداً. إن من يطلع على منجزات الدكتور الجابري يدرك أن الرجل ملأ الدنيا المعرفية عطاء ونماءً،وأثرى المكتبة العربية بمؤلفات ثمينة،وملأ الملتقيات الدولية بأنفع المحاضرات، ومن المهام التي تولاها :كاتب عام لرابطة القلم الجديد، وعضو في جمعية القصة والرواية لاتحاد الكتاب التونسيين، واتحاد الكتاب العرب، ومدير المركز الثقافي التونسي بطرابلس. ولد الدكتور محمد صالح الجابري سنة:1940م،بمدينة توزر بالجنوب التونسي، ودخل الكتاب في سن مبكر،ثم تابع دراسته بمدرسة «ابن شباط» الابتدائية إلى غاية سنة:1953م حيث واصل الدراسة بالمعهد الثانوي بمدينة توزر، وفي سنة:1957م التحق بمعهد ابن خلدون بالعاصمة التونسية، وتخرج منه سنة:1962م، وفي نفس السنة انخرط في سلك التعليم فعمل في كل من مدينتي:توزر وتونس،وقد عُرف الرجل بصبره وعصاميته،فقد تحمل مشاق السفر بمفرده إلى بغداد طلباً للعلم والمعرفة،فانتسب هناك إلى كلية الآداب،وحصل منها على شهادة ليسانس سنة:1975م، وفي نفس السنة عاد إلى وطنه فعمل بالتدريس في مدينة المنستير، وبعدها بسنتين التحق بمعهد اللغة العربية وآدابها بجامعة الجزائر،وأتم به دراساته العليا. ومن أهم دراساته النقدية:«الشعر التونسي المعاصر خلال قرن»،«محمود بيرم التونسي في المنفى،حياته وآثاره»،«القصة التونسية أوائلها وروادها»،«ديوان الشعر التونسي الحديث»،«دراسات في الأدب التونسي الحديث»،«الأدب الجزائري في تونس»،«رحلات الأدباء التونسيين إلى الجزائر»،«التواصل الثقافي بين الجزائروتونس»،«يوميات الجهاد الليبي في الصحافة التونسية»،«النشاط العلمي والفكري للمهاجرين الجزائريينبتونس». ومن إسهاماته الإبداعية:روايات«يوم من أيام زمرا»،«البحر ينشر ألواحه»،«ليلة السنوات العشر»،ومجموعة قصص«إنه الخريف يا حبيبتي»،و«الرخ يجول في الرقعة»،ومسرحية«كيف لا أحب النهار». والمتأمل في أعمال الجابري الإبداعية يخرج بجملة من الملاحظات والأحكام،من بينها أنه رائد من رواد الواقعية في التجربة السردية في المغرب العربي،فأغلب أعماله مستوحاة من تجاربه الخاصة،وشخصياته مستمدة من الناس الذين خامرهم في حياته . ولعل أبرز كتبه التي حظيت باهتمام بالغ من قبل عدد كبير من المثقفين والأدباء الجزائريين،كتابه:«الأدب الجزائري في تونس» الذي هو بمنزلة موسوعة شاملة،بذل من خلالها الباحث جهداً علمياً كبيراً،لا ينهض به إلا أصحاب الهمم العالية ، فقد ألف ذلك الكتاب الموسوعة مُقدماً من خلاله خدمة جليلة للباحثين والدارسين الجزائريين،مُعبداً لهم الدروب، وفاتحاً لهم الآفاق، وقد أثنى على ذلك الكتاب الكثير من كبار الأدباء والنقاد الجزائريين، فكتبوا يشيدون بمستواه العلمي، وعمقه الفكري، ومن بينهم الدكتور عبد الله ركيبي-رحمه الله- الذي أصدر قراراً وتوصية بدعم طباعته، وتعميمه على كل الجامعات، والمعاهد العليا في الجزائر،فلا يُمكن لأي دارسِ للأدب الجزائري،أن يتجاوز تلك الموسوعة الشاملة، والتي ألفها الأديب الراحل بسبب حبه وإعجابه بالأدب الجزائري، ورغبةً منه في خدمته، والإعلاء من شأنه، وكي يُلملم شتاته المتناثر في شتى الصحف والمجلات التليدة ،ويذكر لنا أسباب تأليفه لذلك الكتاب، وما بذله من جهود في سبيله بقوله:«وإن السبب في إنجاز هذه الدّراسة يعود أساساً إلى غايتين،أولاهما أن أساعد الدّارسين الجزائريين المتطلعين إلى استيفاء مصادر أدبهم،على الكشف عن بعض الصفحات المجهولة حقا من أدبهم، وُأنصف أولئك المبدعين الذين كان لهم شرف إرساء المعالم الأولى للأدب الجزائري الحديث،في صمت وفي ظروف عويصة مفعمة بالإحباط والخيبة، والحرمان، والعنت، وشظف العيش. وثانيهما إعجاب شخصي بهذا التراث الأدبي الذي لم يُركز على تناول قضايا الجزائر في تلك المرحلة الحرجة فحسب،وقد كانت الجزائر أحوج ما تكون إلى من يُعرّف بها وبقضيتها، ولكنه كان يحمل قضية المغرب العربي بكل تبعاتها وأوزارها، وقضية العروبة بمشاغلها ومشاكلها، وقضية الأمة الإسلامية بما فيها من أحزان ويأس وتشتت....وما من شك في أن المصدر الأوحد لهذا التراث الأدبي هو الصحافة والمجلات،على وفرتها وتعددها، مما اضطرني إلى متابعة مئات الصحف، وتصفح بضعة آلاف من الصفحات،ومع كل ما يعانيه أي باحث قدّر عليه أن يتصيد مصادره من المجهول فإنني أعتبر نفسي محظوظاً إذ أبُت بهذا الحصاد الأدبي الوفير، ولقد تعاظمت سعادتي حين أدركت أن الكثير من هذا الأدب الذي استفدتُ منه في وضع هذه الدراسة لم يكن معروفاً لدى الباحثين،كما لم يكن من اليسير بلوغه من مظانه التونسية المتشعبة والمبعثرة بين عدد من المكتبات، ودور التوثيق، والدور الخاصة،ولربما ساعد ظهور هذا الإنتاج الأدبي الجزائري على إعادة النظر إلى بعض الدراسات،التي لم تتوفر لها كل المصادر عن هذا الأدب،وخاصة المصادر التونسية التي يمكن التأكيد بأنها على جانب لا يُستهان به من الأهمية، وباعتبار أن هذا التراث الأدبي يؤلف في مجاله الزمني، وفي حدود المرحلة التاريخية التي تأثر بها وتناولها وعايشها وأسهم في معالجة قضاياها صورة متكاملة عن واقع تلك المرحلة،فقد قمت بدراسة هذا التراث في إطار تلك المرحلة،دون أن أغفل الاستفادة مما أتيح لي العثور عليه من مصادر أدبية حديثة تناولت الأدب الجزائري أو الفكر الجزائري بصورة عامة،أو تناولت الشخصيات التي عاشت هذه الحقبة الزمنية،على أني لمست حقيقة ثابتة لابد من إبرازها وهي أن القضايا والمشكلات التي عالجها هذا الأدب في مرحلة المحنة الاستعمارية ما تزال متجددة في الأدب الجزائري الذي تلا مرحلة الأساس هذه، وهو ما يُوحي بأن المقومات الفكرية للشخصية الثقافية الجزائرية ظلت مؤسسة على حب الوطن، والإخلاص له، والاعتزاز بالانتماء إلى العروبة والإسلام،وأنه لولا هذه الثوابت من المقومات، ولولا أولئك الرجال الأفذاذ الذين نذروا أقلامهم، وكرسوا حياتهم للذوذ عن الشخصية الجزائرية، وجذورها العربيّة الإسلامية،لما أمكن لهذا الجيل الأدبي الجديد أن يقفز قفزته الحالية ليكون في مستوى ما يكتبه أدباء الأقطار العربية الأخرى الذين لم يعانوا مثل المحنة الجزائرية نفسها». وقد أنجز الدكتور سعد بوفلاقة بحثاً عن هذا الكتاب بعد وفاة الدكتور الجابري نشره في مجلة بونة للبحوث والدراسات،أشار من خلاله إلى أن الدكتور محمد صالح الجابري ذكر في كتابه هذا أبرز الأدباء الجزائريين المهاجرين إلى تونس،بين سنتي:1900و1962م، وجمع أدبهم ودرسه ،وقد تخرج معظمهم من جامع الزيتونة،حيث وصل عدد الطلبة الجزائريين الذين كانوا يتابعون دروسهم بالمعاهد الزيتونية بتونس العاصمة،أو بعض الفروع الأخرى بأنحاء البلاد سنة1952 نحو ألف وخمسمائة طالب، ومارس الأدباء خطواتهم الأدبية الأولى بالصحافة التونسية،أمثال:عمر راسم،وعمر بن قدور،وعبد الحميد بن باديس،وإبراهيم أطفيش، وإبراهيم بن الحاج عيسى(أبو اليقظان)،وصالح بن يحيى، ومحمد السعيد الزاهري، وصالح خرفي، والطيب بن عيسى القرواوي، والطيب العقبي ، ومحمد العيد آل خليفة، ورمضان حمود، ومفدي زكرياء، وأحمد توفيق المدني،ومبارك الميلي، وحمزة بوكوشة ، ومحمد الأخضر السائحي ، ومحمد العيد الجباري ، ومحمد العريبي، وعبد الله شريط، وأبو القاسم سعد الله ، وعبد الله ركيبي، وعبد الحميد بن هدوقة، والطاهر وطار، وأبو العيد دودو، وصالح خباشة ، وغيرهم. وقد جاء كتاب الدكتور الجابري-بعد التقديم-في مدخل وبابين،يشتمل كل منهما على مجموعة من الفصول. ففي المدخل، تحدث عن المؤثرات الأساسية التي ساعدت على بلورة اتجاه الأدب الجزائري في تونس،مثل تأثير جامع الزيتونة العريق،والصحافة التونسية،وكذلك الإطار الفكري، والسياسي، والوسط الثقافي الديني الذي ترعرع فيه هذا الأدب،فنشأ وطنياً عربياً إسلامياً. أما في الباب الأول،فقد حاول أن يقدم صورة واضحة عن الشعر الجزائري والمقاومة من خلال ثلاثة فصول،تناول في الأول منها:قضية الهوية والعقيدة،وأسباب تعلق الجزائري بهما .كما تحدث في الفصل الثاني عن إسهام الشعر الجزائري في تونس،في الدعوة إلى الاستنهاض والتحريض على الثورة ضد المستعمر،وتعبئة الشعب الجزائري للمقاومة، واعتزاز هؤلاء الشعراء بماضي بلادهم،والكشف عن الفترات المتألقة من تاريخهم،وبخاصة فترات المقاومة المتواصلة ضد الاستدمار الفرنسي الغاشم،وفي مقدمة ذلك المقاومة التي شنها الأمير عبد القادر الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي في النصف الأول من القرن التاسع عشر،والتي دامت نحو سبعة عشر عاماً. أما الفصل الثالث، فخصّصه للحديث عن مدى وفاء الأدباء الجزائريين للبيئة التونسية التي عاشوا فيها، وارتبطوا بمختلف أحداثها الوطنية، وشاركوا في مختلف الأنشطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وجعل الباب الثاني لدراسة القصة والرواية الجزائريتين إبان الثورة التحريرية الكبرى في الجزائر، وقد حاول في الفصل الأول أن يُبرز تعبير الكتاب الجزائريين المهاجرين إلى تونس عن ثورة بلادهم،وتناول في الفصل الثاني،نضال القرية والمدينة الجزائريتين إبان الثورة التحريرية الكبرى،كما برز في نتاج الأدباء الجزائريينبتونس. أما الفصل الثالث،فخصصه للحديث عن دور المرأة الجزائرية في المقاومة من خلال القصة والرواية الجزائريتين في تونس. وفي الفصل الرابع،تناول«القضايا التونسية التي عالجها القصاصون والروائيون الجزائريون في كتاباتهم،ولاسيما نضال التونسيين ضد الاستعمار الفرنسي،الذي أولاه هؤلاء القصاصون عناية خاصة،سواء في أثناء الكفاح السياسي أو الكفاح المسلح تضامناً مع نضال أشقائهم،وتعبيراً منهم عن الوشائج الدموية، والمصيرية التي تربط بين كفاح الشعبين». وقد عزز هذا البحث بملاحق تضم مختارات من القصائد والقصص وروايتين،نشرتا لأول مرة بتونس في الخمسينيات من القرن الماضي،وتُعدان اليوم في عداد الأدبيات المفقودة، وذلك بدافع الحرص على توفير هذه النصوص التي أصبح من العسير الحصول عليها،لتكون دليلاً للباحثين والدارسين. وأتمَّ البحث بخاتمة سجَّل فيها أهم النتائج التي توصل إليها، ولأهمية هذه النتائج رأيتُ من المناسب تسجيلها هنا. في ختام هذا البحث الذي تناول(الأدب الجزائري في تونس) من سنة(1900-1962)،استخلص الباحث النتائج الآتية: «أولاً: أن الدافع الأساسي الذي حذا بالكتاب الجزائريين إلى أن ينشروا إنتاجهم في الصحف التونسية هو الرقابة الصارمة التي فرضها الاستعمار الفرنسي على الصحافة الجزائرية،وعلى الإنتاج الأدبي الجزائري الذي كان يناهض الاستعمار،فوجد الكتّاب الجزائريون-سواء منهم الذين كانوا يقيمون بالجزائر ويراسلون الصحف التونسية أو الذين كانوا يقيمون بتونس لغرض الدراسة والتعلم- في الصحافة التونسية متنفساً مكّنهم من أن يعبّروا عن آرائهم شعراً ونثراً، ويتوجهوا بها إلى القارئ الجزائريوالتونسي على السواء الذي كان على صلة بهذه الصحافة. ثانياً: أن هذا الإنتاج ظل متواصلاً منذ صدور أول مقالة فكرية في سنة1907إلى سنة1962 سنة استقلال الجزائر بدون انقطاع مع تنوّع وتطور،فمن المقالة السياسية إلى البحث الأدبي والفكري،إلى العطاء الإبداعي من شعر وقصّة ورواية. ولم يتأثر هذا التواصل إلا في الفترات التي تعرضت فيها الصحافة التونسية إلى التعطيل من قبل السلطات الاستعمارية،وفي فترتي الحربين العالميتين حيث احتجبت الصحافة ردحاً من الزمن. كما أن هذا الإنتاج كان متعدد المصادر حيث لم يلتزم الكتّاب الجزائريون نشر إنتاجهم في صحيفة أو مجلة واحدة ،وإنما نشروا في معظم الصحف والمجلات التي ظهرت طيلة هذه الفترة،باستثناء الصحف والمجلات المشبوهة التي كانت توالي الاستعمار. ثالثاً: التزم هذا الإنتاج منذ ظهوره التعبير عن واقع الجزائر ومحنتها و بؤسها وتوقها وطموحها،فصوّر لنا في جميع ما نشر منه حالة الشعب الجزائري الاجتماعية والاقتصادية والفكرية،كما حمل الدعوة إلى الاستنهاض والتثوير،وتخليد الذكريات الوطنية،والتنويه بالمواقف البطولية التي وقفها هذا الشعب. كما التزم في مرحلة اندلاع الثورة مساندة هذه الثورة،واستلهم من بطولاتها وأحداثها معظم القصائد والقصص والمسرحيات والروايات،للتعريف بهذا الكفاح الجماعي البطولي الذي خاضه الشعب الجزائري في القرى والمدن وشعاب الجبال.مثلما التزم هذا الإنتاج التعبير عن واقع الحركة الوطنية التونسية،وكان مثلاً للوفاء والعرفان، وكان صورة صادقة من نفسية الجزائري،وشعوره بالإخاء وبالتضامن مع محنة أشقائه التونسيين رغم ما كان يتعرض إليه في تلك الظروف القاسية من اضطهاد وبطش واجتثاث على يد المستعمر الفرنسي. رابعاً:انطلق هذا الإنتاج منذ ظهوره منطلقاً وطنياً وقومياً وإسلامياً لتأكيد انتساب الجزائر إلى العروبة والإسلام،ومقاسمتها المحنة والآلام مع شقيقاتها الدول العربية والإسلامية،فكانت لهذا الإنتاج مواقف من حروب التحرير التي خاضتها الأمة العربية على امتداد رقعتها الجغرافية،وخاصة الأقطار المغربية التي كانت تعاني نفس المحنة،وتتعرض لنفس البلاء الاستعماري. خامساً:أن هذا الإنتاج يزكّي الرصيد الفكري والثقافي الذي أبدعه الكتّاب الجزائريون الذين كانوا يقيمون بالجزائر،ونشروا إنتاجهم في الصحف والمجلات الجزائرية.وأن الكشف عنه سوف يؤدي بلا شك إلى إعادة النظر في الدراسات الأدبية والتاريخية التي ظهرت بعد الاستقلال ولم تستفد من المصادر التونسية نظراً لبُعدها عن متناول الباحث. كما أن إبرازه سوف يمكّن من إنصاف الأدباء والكتّاب الذين ساهموا في إثراء هذه المرحلة،ثم انطوى ذكرهم دون أن يُواصلوا عملهم الأدبي لأسباب مجهولة. سادسا:على أن هذا الإنتاج سوف يتيح للدارسين كذلك متابعة تطور المراحل الفنية للأدب الجزائري،وخاصة تطور الشعر والقصة،نظراً لأن الصحف والمجلات التونسية توافرت على معظم باكورات إنتاج الأدباء والشعراء الجزائريين الذين نشروا محاولاتهم الأولى ثم واصلوا الكتابة في الصحف والمجلات الجزائرية بعد هذه المرحلة،وقد أهمل بعضهم هذه الكتابات إما بسبب الشعور بضعفها الفني،وإما لعدم التوصل إلى المصدر الذي نشرت فيه. سابعاً:على أن هذا الإنتاج الأدبي الجزائري أيضاً كان له دور فكري وفنّي في تطوّر القصيدة والقصة في المغرب العربي عامة،وكان له تأثير أدبي في الوسط الفكري التونسي،نظراً لأن معظم الكتّاب والأدباء الجزائريين لم يكتفوا بمجرّد الكتابة والنشر فقط، وإنما كان لهم دورهم في الأندية والجمعيات الثقافية في تونس،وكانت لهم مساهمات بارزة في«الخصومات الفكرية» وفي«النقد الأدبي». وقد أكد الدكتور سعد بوفلاقة على أن هذا الكتاب يعد أحد الكتب النفيسة التي لا تقل قيمة علمية عن أثمن الأطروحات الجامعية التي تُقدّم للحصول على شهادة الدكتوراه،فقد جمع المؤلف ما كُتب في الموضوع في الصحافة التونسية،وما تفرّق في مختلف المظان والمصادر والمراجع، وقرأها قراءة نقدية،وحلّلها تحليلاً علمياً،وقد سلك في دراسة تلك النصوص الشعرية والنثرية مسلك الحياد العلمي،ممّا جعل الكتاب هاماً قيّماً لا يستغني عنه أي مهتم بالأدب الجزائري الحديث، وتاريخ شمال إفريقيا مُطلقاً،خصوصاً وقد أضفى عليه المؤلف جمالاً ورونقاً بأسلوبه الممتع الشيق،حيث توخى فيه السهولة والسلاسة،الشيء الذي جعل الكتاب ذا قيمة علمية وأدبية وتاريخية،فهو يذكر المصادر والمراجع بكل دقة، ويتعمق في البحث،ولذلك فالكتاب صالح للجمهور والباحثين معاً، وهذا ما جعل جامعة الجزائر وأساتذتها،يقدّرون هذا العمل العلمي حقّ قدره،ويصدرون بشأنه قراراً بدعم طباعته وتعميمه على كل الجامعات والمعاهد العليا بالجزائر،إدراكاً منهم لأهمية ما تضمن من المعلومات والوثائق، واعتزازاً منهم بتراث وطنهم ، وتقديراً واحتراماً لصاحب الكتاب الذي أسهم إسهاماً كبيراً في توثيق العلاقات الثقافية بين الجزائروتونس من خلال هذا الكتاب،ومن خلال ثلاثة كتب أخرى هي: 1- النشاط العلمي والفكري للمهاجرين الجزائريين في تونس،«وهو الكتاب الذي أصبح مرجعاً أساسياً في موضوعه لكل باحث في نشاط المتعلمين الجزائريين في تونس،خلال نصف قرن، أما عمله الثاني،فهو رحلات جزائرية،وهو زيارات ثقافية واستطلاعية قام بها بعض الصحافيين والأدباء التونسيين لمدن وعلماء جزائريين ». أما كتابه المعنون ب:«التواصل الثقافي بين الجزائروتونس»، فهو يعتبر واحداً من أهم الأسفار التي تناولت العلاقات الثقافية بين البلدين بالدرس والتحليل، والرصد الشامل، وقد تطرق من خلاله إلى شتى الروابط الثقافية بين البلدين الشقيقين وأبرزها من خلال جملة من المنابر كالمجلات والجرائد والمسرح والرحلات والمذكرات،وهو يتميز بأنه كتاب متنوع ويحوي مجموعة من الأبحاث،من أهمها بحثه الموسوم ب«رحلات الأدباء التونسيين إلى الجزائر»،الذي تتبع فيه أربع رحلات أسهمت في تعميق التواصل الثقافي بين البلدين ، وذلك نظراً لأهميتها،إذ أن الهدف الرئيس من وراء هذه الرحلات هو الاطلاع على أوضاع الجزائريين الاجتماعية والسياسية والفكرية، وكذلك تدعيم الوشائج الثقافية بالاتصال مع العلماء والمثقفين، وهي: رحلة الشيخ محمد الخضر حسين التي نشرت بمجلة«السعادة العظمى». ورحلة الشيخ أحمد حسين المهيري،وقد نشرت بجريدة«لسان الشعب». ورحلة الطيب بن عيسى ونشرت بجريدة«الوزير». والرحلة الخامسة هي رحلة الشاعر الجزائري«حمزة بوكوشة»،وقد كتبها بطلب من جريدة «الوزير»، وقد سجل من خلالها انطباعات دقيقة عن بعض المدن الجزائرية. وقد استخلص الدكتور الجابري جملة من الملاحظ الهامة التي تتصل بهذه الرحلات،دونها على النحو الآتي: «1-تنديد أصحاب هذه الرحلات بالاستعمار وأعوانه من الأجانب، وعملائه من الجزائريين،والتركيز على ما يعاني الجزائري من اضطهاد وتمييز وتفقير وانتزاع لأرضه وإهدار لحقوقه،باستثناء رحلة الشيخ الخضر حسين التي لم تتناول هذا الجانب،لأن رحلته كانت أساساً من أجل الالتقاء بالعلماء ومحاورتهم حول المسائل الدينية. 2-نقمة أصحاب الرحلات على الطرقية والزوايا،ونعت أصحابها بالسذج والبسطاء والمحتالين،والتنويه بالمصلحين الجزائريين الذين كانوا يقومون بدور بارز في مقاومة الطرقية والانحرافات الدينية،وذلك أيضاً باستثناء رحلة الشيخ الخضر حسين التي لا يرد فيها شيء من ذلك بسبب أن تيار الطرقية لم يكن في مطلع القرن يشكل الخطر الذي أصبح يشكله بداية من العشرينيات. 3-عناية هذه الرحلات بوصف الحياة العامة في الجزائر من أسواق يومية وأسبوعية،وذكر لأسعار المواد الأساسية كالزيت واللحم وغيرهما،واختلاف تداول العملات ونوعيتها من ولاية إلى أخرى، و اكتظاظ المقاهي بالعاطلين... كما اعتنت كذلك بوصف حياة المرأة الجزائرية في هذه الحقبة،عندما كانت تتصنع الحجاب في المدن حفاظاً على شخصيتها،واعتزازاً بتقاليدها بينما نراها في الريف والقرى تناضل إلى جانب زوجها،وأحياناً بمفردها لانتزاع قُوتها اليومي،وقد شاهد الرحالة التونسي نماذج من النساء الجزائريات،ووصفهن وصفاً يفي بحقهن،وينوه بكفاحهن وصلابتهن،وحفاظهن على تقاليدهن وأصالتهن العربية الإسلامية. 4- تُجمِع هذه الرحلات على إبراز عناية الجزائريين بالمساجد،بما يليق بهذه المعالم من مكانة دينية وعلمية،وقد وصفها بعضهم بدقة وتفصيل،وأشاد بما يتحلى به الجزائري من توقير للإمام والقاضي وحارس المسجد،وأطنب جلهم في التنويه بالمكانة العلمية للقائمين بإلقاء الدروس التعليمية والوعظية والدينية بهذه المساجد،وقد حضر معظمهم حلقات علمية، وخاصة الشيخ الخضر حسين الذي كان حرصه منصباً على حضور الدروس التي تُلقى بهذه المساجد، ومساجلة أصحابها في المسائل الفقهية العويصة،وقد أثنى ثناء عظيماً على علماء الجزائر، وأبدى إعجابه بطرق طرحهم للمسائل الاجتهادية وتمكنهم من الموضوعات الدينية. 5-تُبرز جميع هذه الرحلات تمازج الشعبين التونسيوالجزائري،وعمق التبادل العلمي والتجاري بينهما،فقد ورد في هذه الرحلات ذكر للعديد من أسماء التجار التونسيين الذين كانوا يتعاطون التجارة في مختلف المدن التي زاروها، وذكر للعلماء الذين كانوا يقيمون بهذه المدن لنشر التعليم،وقد أسس بعضهم مدارس من حرّ ماله لهذا الغرض،كما تبرز الرحلات العلاقة الوطيدة، والمشاعر العميقة التي ظل يكنها خريجو جامع الزيتونة من الجزائريين لهذا المعهد،ولكل العلماء الذين تتلمذوا عليهم،ورفاقهم الذين زاملوهم في الدراسة، والدور الفعال الذي يقوم به خريجو الزيتونة في النهضة الإصلاحية بالجزائر، وفي إثراء الحياة العلمية والثقافية. 6-تتفق جميع هذه الرحلات على الإشادة بخصال الجزائريين، وما يتحلون به من أخلاق فاضلة،وشيم عالية،وكرم وفادة، وبذل سخي في سبيل نهضة وطنهم،وتفاؤل بمستقبل بلادهم،وإصرار على النضال ضد المستعمر وأعوانه. 7-ونظراً إلى أن هذه الرحلات كانت موجهة إلى القارئ العادي،فقد غلب عليها الأسلوب الصحفي المبسط الذي لم يخل أحياناً من استعمال للعامية،والدخيل من اللغات الأجنبية خاصة اللغة الفرنسية،وذلك إمعاناً في التوضيح،والاقتراب من نفوس الناس،والالتزام بالواقع المحض،ونقله نقلاً مباشراً دونما تدخل أو افتعال،ولم تشذ عن هذا الأسلوب غير رحلة الشيخ الخضر حسين التي كتبت بأسلوب العلماء،وكانت مرصعة بالشواهد من القرآن، والحديث النبوي والمسائل الفقهية مفصحة عن أسلوب صاحبها وشخصيته كعالم ديني».