اللهوجة والاضطراب والقلق والتوتّر الذي ينتاب المجموعات العاملة في إنجاز المسلسلات والبرامج التلفزيونيّة العربية قُبيل شهر رمضان، يجعل المراقب المتابع يظنّ أن شهر الصوم قد حلّ فجأة وعلى غير ميعاد، كما لو كان هطولا للثلوج والأمطار في ذروة فصل الصيف. وكما تحرص معظم الموائد العربية على أن تكون عامرة بالأطعمة المتنوّعة خلال أيام الصوم، كذلك تظهر الشاشات الصغيرة العربية أشدّ حرصا من الموائد على عرض وبثّ ما هبّ من المسلسلات وما دبّ من البرامج، دون اهتمام بمستوى المعروض وقيمته. ما يملي ذلك هو أن معظم المشتغلين في مونديال الدراما العربية -خلافا للمونديالات الرياضية المتنوّعة- لا تصفيات يُجرونها، ولا تقويمات يمارسونها، بل تراهم يقومون بالزجّ بما تطوله أياديهم وما يمكن تلفيقه على عجل، كي يغطّوا بثّا يستمر أربعا وعشرين ساعة على مدار ثلاثين يوما. ومن أُتيح له الاطلاع على وقائع وكواليس عدد من الأعمال، سيذهل من العواصف التي تهبّ قُبيل رمضان لكأنما هذا الشهر يحلّ فجأة، وعلى غير موعد، فارضا في الآن نفسه على أطقم الأعمال الدرامية تقديم عروضهم بلا تردد ولا تأخّر، ومُكرِها إدارات المحطات الفضائية على المسارعة إلى فتح خطوط الاتصال مع كل الجهات المعنية للحصول على ما يغطي 24 ساعة بث بأي ثمن كان، وعلى أي مستوى فني كان. سيؤجل كاتب القصة أعماله وأشغاله التي كانت بين يديه ويعكف ليلا ونهارا على كتابة مسلسل، منقطعا عن جميع معارفه لأنه سيكون في سباق مع الزمن، وسيقوم المخرج بفتح خطوط الاتصال مع الممثلين وبتوقيع العقود المتعددة معهم. ومن جهتهم لن ينشغل الممثّلون بالاطّلاع على النصوص -غير المكتملة أصلا- إذ يعلمون أن بإمكانهم التعرّف على أدوارهم في مواقع التصوير قُبيل ساعة الأداء، كما بإمكانهم التفاهم مع كتّاب المسلسلات حول التعديل والتبديل عبر هواتفهم المحمولة أينما كانوا. بعد ذلك، حدّث ولا حرج عن عمليات القص والإلصاق والفتق والرتق والحذف والحشو، وذلك عبر اتصالات حيّة ومباشرة مع طاقم العمل كله، حتى إذا ما حلّ شهر رمضان أُرسلت بضع حلقات للبدء في بثها في الثلث الأول للمونديال، على أن يتم تزويد المحطات بالحلقات المتبقية التي سيجري تصويرها وإنجازها بسرعة البرق لتتمكّن من الوصول إلى القناة قبل موعد البث. هذه اللهوجة وهذا التدبّر والتلفيق في إعداد المسلسلات والبرامج التلفزيونية الرمضانية ستجري وفق آليات تشبه حربا عسكرية نشبت على حين غرة، فتداعى إليها القادة والجنود وراحوا، بما أُتيح لهم من العتاد والسلاح، يخوضون المعارك. والسؤال البسيط الذي يخطر في البال: إذا كان يمكن معرفة تاريخ حلول رمضان بعد سنوات من اليوم، فلِمَ هذا التكاسل والإهمال المريع حتى أسابيع قليلة قبل حلوله؟ ولِمَ لا يتمّ الإعداد المتأنّي لعروض شهر الصيام من كلّ عام؟. الجواب بكل بساطة: لعادة ذميمة اعتاد عليها المشتغلون في معظم الأعمال الرمضانية التلفزيونيّة، واعتادت عليها محطّات وقنوات البثّ، والممثّلون، ومهندسو الإضاءة، وغيرهم. فتكرّست واستمرّت حتى يومنا الحالي. تأثير مباشر. ولأمر آخر لا بدّ من ذكره -وربما كان السبب الرئيس- وهو أن شهر رمضان على الصعيد التلفزيوني شهر التسوّق النهم، بحيث يمكن لأيّ عمل أن يجد قبولا وترحيبا لدى المحطّات، مهما حُشي بالثرثرة واللغو، أو كان مُلفّقا تلفيقا، أو كان مُستنسخا من برنامج أمريكي أو أوروبيّ أو تركيّ. في ظلّ ما سبق هل من داع حقّا للاستعداد والتهيؤ والتأني في الاختيار ثم التنافس لتقديم الأرفع والأعمق طالما أن القنوات الفضائية والأرضية تقبل بأي معروض، بل هي تسعى إليه، وطالما أن الأموال الهائلة تجني أهول منها، وطالما أن المشاهد راض كلّ الرضا بما تقدّمه له الشاشات الصغيرة من وجبات. لقد سعت مختلف الملتقيات للبحث عن الطرائق المثلى التي من شأنها رفع مواد الشاشات العربية الصغيرة إلى مستوى ثقافيّ واجتماعي ومعرفي رفيع، لكون جهاز التلفزيون -من بين مختلف وسائل الإعلام- هو الأكثر وجودا وتأثيرا مباشرا في كل بيت عربي، غير أن كل التوصيات التي خرجت بها ذهبت هباءً، فأصبح هذا الجهاز في حياتنا على ما نسمع ونشاهد.