عزيزتي أنيسة، لا زلنا في انتظارك هذا الصباح مثل كل الصباحات، لن نمل ولن نيأس من الانتظار مهما تأخرت، لأنك ذلك النور وتلك الشعلة التي تفسح للأمل وللحلم طريقا حتى وسط العتمة. يا امرأة لفها الحزن وأحرق فيها الكبد وذوب منها القلب لكنها لم تستسلم لا لليأس ولا للصمت وجعلت من حرقتها أقلاما وألوانا قزحية بين أنامل الأطفال في المدارس المهمشة والمنسية التي دمرها القتلة. المدرسة العليا للفنون الجميلة تنتظر اليوم إطلالتك البهية أنت الحاضرة دوما في المنعطفات الوعرة لتحويل الغياب إلى حضور آخر شبيه بالحياة حتى لا يخطف العمر من العمر على حين غفلة. أطمئني، هنا لم يغب لا طيف أحمد ولا طيف رابح ولا قامتك المطلة صفصافة وافرة الظل والدفء وغزيرة الحنان تضم عزيزين في لحظة خاطفة مثل البرق. يغيب الأب والإبن الوحيد في رمشة عين داخل المدرسة بأيدي الظلام. عزيزتي أنيسة، يا رهينة الصبر والانتظار كنت تغمضين عينيك بقوة لإقناع نفسك وإقناعنا أن ما حدث كابوسا فقط ولما تفتحين عينيك سيعود كل شيء كما كان وأن أحمد في جولة مع طلبته فقط يرسمون الشمس والقمر وأساطير الأولين وسيعود بعد حين وأن رابح طفلك الوحيد الجميل الخلوق والمدلل، حتى لا يسرقه الوقت وحتى لا يسهو مع الزحمة، ذهب مع أصدقائه لاقتناء هدية 8 مارس، اليوم الذي حولناه إلى أيام وأسابيع وأشهر لأننا جعلنا من أيامنا كلها صرخة دائمة في وجه أعداء الحياة وأعداء الذكاء وأعداء المعرفة وأعداء النور وأعداء الإنسان. تختلط في ذهنك الأشياء والصور وتتزاحم الأحداث، تتساءلين هل حقاً انت المفجوعة أم أنت فقط هنا مع من فجعن قبلك وفي كل أشهر السنة التي أصبحت متشابهة في الدم وفي مواكب الجنازات. عزيزتي أنيسة، أنت التي كنا نرى فيها الوجه الآخر للصبر والقوة ونحن نحاول جاهدات أن نداري الجرح ومخادعته وإيهامه حتى لا تتقاطع أعيننا وحتى لا تفضح هشاشتنا الخفية والمعلنة، تسللت بكلك وبكل حملك الثقيل إلى كل الأماكن الخفية في هذا الوطن الذي بالرغم من قساوته لم تسمحي لأي أحد مهما كان أن يجرح دمه أو يخدش حنين تربته وأنت تصدحين كفى دما كفى أيتاما كفى خطفا كفى اغتصابا كفى ثكالى شبيهاتي، ركبت البر والبحر وأجنحة الغيم لصنع أعلام المحبة والسلام وتر حلين بها إلى أقاصي الدنيا حتى يتغلب الحب على الكراهية وحتى يتغلب التسامح على الحقد وحتى تشرع الحياة قلبها لمن خانهم الحظ في الحلم وفي الابتسامة انتظرناك اليوم في نفس المواعيد وفي نفس الأماكن المحددة وبنفس الطقوس لتحضير الاحتفالات، يبدو أنك نسيت موعدنا هذه السنة ، لا زالت الأشهر متشابهة بكل تواريخها التي حفرناها في الذاكرة، والتي ودعنا فيها أعز الأحبة وأعز الأصدقاء حتى أصبحت المقابر التي نبت فيها العشب والنوار من ملح دموعنا تعرف كل تفاصيلنا وهي تشرع بسخاء أبوابها لاحتواء الجرح من أقصاه إلى أقصاه. عزيزتي أنيسة، شهر مارس الذي خطف منك الزوج المجاهد الذي التحق بالثورة وهو طالب مباشرة بعد إضراب الطلبة في 1956، وخطف رابح في عز الشباب خطف أيضاً عبد القادر علولة ، وكما يتموا المدرسة العليا للفنون الجميلة يتموا المسرح وجرحوا الركح وغيبوا سارقي شعلة النار المقدسة. عزيزتي أنيسة، يا من لا شبيه لها في الفجيعة إلا مريم وآل البيت أضمك الآن بقوة إلى صدري مثل تلك اللحظة الحميمة قبل موتك سنة 2000 بأشهر فقط وأن تقولين بين الشهقة والشهرة « تعبت مني يا زينب، تعبت من أنيسة القوية، تعب مني صبري وتعبت من مداراة حزني» رحمكم الله أحبتي، ليس لي ما أقول إلا ما قال العقاد في جنازة «مي زيادة» وهو يشير إلى قبرها « كل هذا في التراب؟ آه من هذا التراب!»