يحرص ذلك الأب الشاب الوسيم أن يؤثث مكتبته المنزلية بما يقتنيه من أمهات الكتب باللغتين العربية والفرنسية، التراثية منها و المعاصرة، في شتى الصنوف والأجناس، يقتطع ثمنها من راتبه كأستاذ ومترجم محلف، الأمر الذي يزعج أحيانا زوجته الجميلة. إنه يروم أن يجعل من المكان جنة ابنته، وقد لاحظ بعين العارف أن شجرة ميولها الأدبية تزهر يوما بعد يوم. الطفلة تكبر و تترك خلفها قصص الأطفال والشبان، ومؤلفات المنفلوطي، ورسائل جبران لمي زيادة. الحقيقة، أنه بعد تحصينها، لم يعد يؤذيه أن تمد أصابعها الطرية إلى أغلفة أخرى. لم يعد يهتم بوضع بعض العناوين "الراشدة" بعيدة عنها في الرفوف العليا كي لا تصل إليها، لأنها أصغر من أن تفقه فلسفتها ومرماها. اختلف الأمر الآن. لم يعد يأبه أن تلتقط يداها كتاب ألف ليلة وليلة، أو ديوان أزهار الشر لشارل بودلير، أو كتابات النفري، أوالبسطامي، أو أرسطو أو التوحيدي، أو منامات الوهراني، أو فيكتور هيغو، أو الحلاج، أو غارثيا لوركا، أو طه حسين، أو العقاد، أو هنري ميللر، أو نازك الملائكة، أو محمد ديب، أو مالك حداد، أو ابن عربي و«ترجمان الأشواق"، أو أشعار ولادة بنت المستكفي.. كل كتاب تلتقطه تحت عينه الحارسة، يتلوه نقاش حول مائدة الطعام . لكن ذلك الأب الشاب الوسيم في تلك العشية قدم لها كتابين مختلفين وهو يبتسم : - لازم تقراي هاذ الزوج كتوب بابا..! هكذا يذكرها ويؤنثها كما يشاء بلهجته الندرومية العريقة، وهو يمد لها كتابين أنيقين لمولود معمري.الأول نصفه بالقبائلية ونصفه ترجمته إلى اللغة الفرنسية، بعنوان "إسفرا السي محند أومحند" والثاني روايته "الهضبة المنسية ". الأب الشاب المثقف يريد من خلال تقديمه لابنته كتاب " إسفرا سي محند"، أن يفتح أمام عينيها البريئتين سماء أخرى تطل منها على حقيقة واضحة مثل الشمس، وهي أن بلادها الكبيرة مترامية الأطراف، ثرية بثقافاتها المختلفة، ولغاتها، وتعدد أقواس قزح فيها. كان اكتشاف الفتاة للشاعر الكبير سي "محند أو محند"، دهشة كبيرة مفاجئة ، وكان لمجرد ترديد أشعاره متعة فنية وفكرية مختلفة . كبرت البنت القارئة تلك، وظلت أشعار سي محند تسكنها. كانت إشارة الوالد المثقف كافية لتفتح أمامها أبوابا لا بد منها، قصد معرفة نفسها، وبلادها، وأهلها، والثقافات المتعددة التي تنتمي إليها. لم يتوقف فضولها الذي دفعها إلى الذهاب بعيدا في تحقيق رغبة عارمة لاكتشاف عوالم مولود معمري، وقراءته بنهم. وجدتْه مثقفا إيجابيا، ومناضلا ثقافيا رزينا، يؤمن أن الأدب ليس كلاما تذروه الريح . بل إن فن الأدب يحمل صوتا داخليا عميقا يقول شيئا ما. همسا ما. رسالة ما. وإلا فليصمت. كأن ذا الدا المولود أحب نفسه في البلاد التي يحبها، فبحث فيها عن نفسه، ويدعو قراءه للفعل نفسه. نقّب عن التراثات العديدة المتعانقة على جغرافية أرضه منذ أزمان، كباحث أنتربولوجي متمرس، يسير على أثر لهب الشعر الإنساني في كل مكان يشع فيه، ويشير إليه ليراه الناس والعالم . حرك الدا المولود عنه غبار النسيان المكدس، بفرشاة العارف المُتقن لمهنته، وأزاح التراب من حول التراث الشعري الصحراوي " آهاليل" لمنطقة غورارة فحوّل أنظار العالم وعين اليونيسكو تجاهه. فكر الدا المولود بعقل المحب، وعشق العاقل الباحث في اللسانيات أن يؤلف " تاجرومت "، العمل الشجاع الذي ليس من السهل إنجازه، لكي يضبط به قواعد النحو في اللغة الأمازيغية. لم يُثْنه الوقتُ المتسارع لكي يتواجد في النقاط الأساسية التي تُشكل محور العمل الثقافي الجاد والموجه . فكان الدا المولود أستاذا جامعيا، وباحثا في اللسانيات، وأول رئيس لاتحاد الكتاب الجزائريين، ومؤسسا لمجلة "آوال" أو الكلمة، ومؤسسا لمركز البحوث الأمازيغية، وظل أديبا يمزج رمادية الواقع بألوان الحلم ويبهر قراءه ويعلمهم في الوقت نفسه. لم تتوقف القارئة النهمة بنت أبيها عند هضبة "الدا المولود" المنسية، التي أشار بها عليها ، بل اندفعت إلى عوالم روايته " غفوة العادل"، و رواية "الأفيون والعصا"، ورواية "العبور". كبُر حضوره في وجدانها الأدبي و الثقافي، كما في مكتبة البيت. كبرتْ وهي تتبع إشارة والدها نحوه، فتابعت مسرحياته، وقرأت بلهفة كتابه "أشعار،القبيلة" وظلت تشير لأبنائها ولطلابها الجامعيين نحوه: - اقرأوه..عند الدا المولود ما يستحق أن يُكتشف..! عادت الفتاة التي أصبحت امرأة ناضجة لزيارة بيت أبيها ومكتبته. إنه موعد العشاء من 26 فبراير1989. حول المائدة العائلية أيضا يجلس زوجها الأديب أمين الزاوي، الذي وصل لتوه من المغرب، بعد أن شارك في ملتقى نظمته جامعة وجدة المغربية، وكان الكبير مولود معمري قد ألقى فيه محاضرة حول "الثقافة الشفوية"، وافترقا الصديقان على أمل اللقاء بعد أن تناولا فطور الصباح معا. كان النقاش حارا حول المائدة أطفأ شعلته صوتُ مقدمة نشرة الثامنة وهي تعلن عن وفاة الأديب مولود معمري في حادث مرور مؤلم قرب مدينة عين الدفلى. يُدوّي الخبر مثل انفجار عنيف في رأس بنت أبيها، تنظر إلى وجه زوجها الذي يبدو عليه عدم التصديق . إلى أبيها الذي وقف وهمس مكبرا. كأنها رأت يديه، تلك اليدين نفسيهما. يشيران لها نحو ( إسفرا محند أومحند( منذ سنوات طويلة مرت تركت مكانها، واتجهت نحو مكتبة والدها. تفقدته. مازال الكتاب في مكانه. حملته بين يديها، وبدأت تقرأ القصيدة تلك، بصوت مرتفع يحمل جينات سي محند أو محند، وحفيده الدا المولود.