قد لا يتوقف قراءة الشعر عند الشعراء فقط، و لكن يمكن لأي ملاحظ أن يلاحظ أن الشعراء لا يقرءون الشعراء بما فيه الكفاية، أو ربما لا يقرءونهم تماما، أو لم يعودوا يقرءونهم مثلما كانوا يقرءونهم من قبل. ذلك أن مسألة قراءة الشعر، في عالم الشعر المغلق و المنطوي على نفسه، هي على درجة كبيرة من الحساسية و التعقيد بالنظر إلى ما تطرحه من إشكالات طالما نوقشت من طرف الشعراء أنفسهم و من طرف المهتمين عموما، و هي متعلقة أساسًا بدور الشعر في المجتمعات المعاصرة، و بقدرته على تمرير الأفكار الكبرى ضمن خطاب يسهل وصوله بصورة واضحة إلى القراء العاديين، و بقدرته على التأثير في مجتمع لا ينفك يُقبل بشراهة على ما يساعده على تيسير لحظة الوجود المتسارعة كما تقترحها الحياة المعاصرة بما تحمله من تعقيدات لم يعد الشعر جديرا بتوفير حضوره المتواصل فيها كما هو الحال بالنسبة للأجناس الأدبية الأخرى و خاصة الرواية التي أصبحت تغذي بصورة كبيرة جملةً من الفنون الأخرى التي تعلق بها الجمهور تعلقا كبيرا كالسينما والمسرح و ما تولد منهما أشكال استعراضية عديدة مرتبط أصلا بمبدأ العرض و المشاهدة و الفرجة. ربما كان ترسيخ الوسائط التكنولوجية للبعد البصري في تلقي الأشكال الأدبية المعاصرة سببا رئيسيا في تقهقر العلاقة التاريخية بين الشعر و الجمهور، و دافعاً أساسيا في التخلي عن قراءة الشعر بوصفه جنسا أدبيا مرتبطا بالسماع أصلا ثم بالقراءة ثانيا، أي بوسيلتين نخبويتين لم تعد لهما القدرة على توصيل الشعر أو توصيل الفكرة التي أصبح يحملها عن العالم كما كان ذلك سائدا في أزمنة سابقة لم تكن فيها فنون العصر البصرية مُكتشفةً بعد. لا يختلف اثنان في أن فعل القراءة فعل تأسيسيّ و أن مجرّد التفكير في التخلي عنه بصورة أو بأخرى هو نقضٌ لكلّ ما يمكن أن يبني عليه الشاعر تصوره للشعر و هو يتحقق قولا أو كتابة. و ربما كانت حياة الشعر و موته مرتبطين أصلا بالسماع و بالقراءة. لا تتحقق دهشة ميلاد الشعر إلاّ عندما يصدح به الشاعر وسط الجموع، و هو تصوّر لماهية الشعر ساد لفترات طويلة و بصَمَها ببصمته الفكرية و الجمالية. و لا تتحقّق كينونته الوجودية إلا عندما يقرأُ، وهي كينونة لا تتوقف عند استحضار الأزمنة الغابرة التي بإمكان الشعر أن يختزنها في بلاغاته الظاهرة و أنساقه الباطنة، بل تتجاوزها إلى مسالك غامرة في عمق الذات الإنسانية و هي تبحث عن بصمة الإنسان في الشعر لتستخرج منها ما يمكن أن يجدّد روحها فلا تزول عن الشعر دهشةٌ و لا يغادره بهاءٌ. و لعل تقهقر قيمة الإلقاء بوصفه فعلا تواصليا بين الشاعر و الجمهور في الشعر عجّل باختفاء قيمة الإصغاء بوصفها سبيلا وحيدة لتمثّل الفعل الشعري من خلال الوعي بعوالمه و لغته و الوقوف عند غاياته و مآلات ما يريد توصيله للجمهور. ليس الشعر وحده هو ما أصبح غامضا لم تعد قيمة الإصغاء قادرة على فكّ رموزه، بل أصبحت قيمة الإصغاء نفسها غامضة في نظرتها إلى الشعر نظرا لما أصبحت تحمله من أبعاد شوّشت على العلاقة التقليدية التي طالما ربطت فن الشعر بفن الإصغاء. و لعل في ما تحمله صورة الشعر عند الجمهور في واقعنا الراهن من غموض ما يدل على انتقال مركز الأنانيات المتحكمة في مصائر التواصل إلى بؤر اهتمام أخرى أملتها رغبة العصر في إعادة تشكيل صورة التلقي و نقلها إلى مستوى آخر يتلاءم مع مبدأ مهيمن هو مبدأ المشاهدة بوصفه آلية إبهار و تخدير جديدة. في حين أن مبدأ الإصغاء في الشعر هو آلية إدراك و تثوير. غير أن الشعر لا يُشاهد كما السينما، و لا يُقرأ كما الرواية، و لا يُستمع إليه كما الغناء. و لعله لذلك، يجد الشعر صعوبة كبيرة في إيصال عمقه بوسائله التي اعتادها، و التي هي السماع و الإصغاء، إلى جمهور لم يعد ينظر إلى السماع ولا إلى الإصغاء و لا إلى القراءة بالمفهوم نفسه الذي كان سائدا في فترات زمنية سابقة. و على الرغم من أن قدرة اختزان البعد الصوتي لما يمكن أن يحمله الشعر من إمكانات إبلاغية و تخييلية كبيرة، إلاّ إننا نجد ما يقوض كلّ هذه الإمكانات داخل التصور العام الذي ساد لمدة طويلة في الدراسات النقدية و الذي رسخته الأطروحات النصية في عمق ذائقة القارئ الأنموذجي و هي تنظر إلى الشعر بوصفه أشكالا و موجودات حِبرية موزعة على بياض العدم بطريقة تفتح للدارس شهية تأويل المتاه الغامض و تفكيك البناء الموصد و تشريح المفازات الوعرة. و لعله لذلك، ازداد الجمهور نفورا من الشعر كما أصبح يُنظر إليه من طرف القارئ المعاصر. فلم يعد يرى في هذه القراءات غير ما يمكن أن يضيف إلى الصورة التي ترسخت في ذهنه عن غموض الشعر غموضا آخر هو غموض القراءة، في حين أن الشعر لا يمكنه أن يكون غامضا إلى درجة تنتهي معه قراءته إلى ما هو أكثر غموضا منه. ذلك أن الشعر، بما هو رهان على الحياة، لا يمكن أن يكون غامضا في جوهره حتى و إن تعمّد الشّاعر التوشّح باللبوس المتغير الذي يعبر به الأزمنة حاملا جوهر الشعر المضيء إلى أدغال الحياة و كهوفها.