وفية بلعربي.. المرأة التي خرجت من بيتها ذات يوم في حقبة الإستعمار لتلتحق بصفوف التحرير الوطني وترفع التحدي مع مجموعة من الوجوه الفنية من بينهم الهادي رجب، مصطفى كاتب، أحمد وهبي، صليحة الصغيرة وغيرهم من الذين حملوا أرواحهم على كفهم من أجل التضحية في سبيل رؤية الجزائر حرة مستقلة، فهؤلاء كانوا ينشطون في فرقة مسرحية وطربية وجابوا العالم من أجل جمع الأموال لشراء الأسلحة وتزويد الثورة المجيدة بالمال لتستمتر وليعرفوا بصوت الجزائر الحر. المهرجان المحلي الثقافي والموسيقى للأغنية الوهرانية في طبعته الرابعة جعلها رمزا بجانب المطرب المرحوم على الكحلاوي، وهذا التكريم أعاد لها الحياة والتبجيل بعدما رحلت ذات يوم صادف 8 سبتمبر 1998 بوهران بعدما قاست ويلات المرضي والتمهيش والإكتئاب. التكريم الذي قامت به لجنة المهرجان وعلى رأسها المحافظة السيدة ربيعة موساوى التي خصصت لكل طبعة رمزين من الوجوه الفنية الوهرانية التي طويت في صفحة النسيان أعاد الحياة لتاريخ عظيم للفن الوهراني والمرحومة الفنانة وفية بلعربي رجعت لها الحياة وأكيد ستفرح في قبرها والآلاف من الناس يترحمون عليها في ليلة صيفية جميلة والأخت إبتسام تذكر بمناقبها ومسارها الفني، فتلك اللبوءة ولدت من بطن الحرة التي أنبجتها وصقلت موهبتها الحياة وجاهدت وفية بلعربي في سن مبكر في صفوف جبهة التحرير الوطني رفقة أسماء كانت شعلة حقيقية في رفع صوت وراية الجزائر عاليا في المحافل الدولية في ظل الإستعمار الذي أراد أن يحاصر الثورة المجيدة بالحديد والنّار. وفية بلعربي فهمت الرسالة في أول لحظة وركبت موجة الجهاد رفقة زملائها واختارت الخشبة والصوت لتعبر عن آلام وأحزان آلاف الأمهات الجزائرية اللواتي كن يرددن تحيا الجزائر. * فرقة حميد شارلو... كانت البداية ولدت الراحلة بلعربي وفية سنة 1933 بوهران، بدأت حياتها الفنية مع »فرقة حميد شارلو« بمدينة وهران، كما إلتحقت مع بداية الخمسينات بفرقة جبهة التحرير الوطني تحت قيادة مصطفى كاتب وأحمد وهبي كممثلة ومغنية في نفس الوقت وبعد الإستقلال إلتحقت بالمسرح الوطني الجزائري كان ذلك في 1 مارس 1963. شاركت الفنانة »وفية« في أغلب الإنتاجات الوطنية فمع المسرح الجهوي بوهران، شاركت في أغلب مسرحيات ولد عبد الرحمان كاكي رحمه الله مثل الڤراڤور، الڤراب والصالحين، الأمطار الخالدة وغيرها، وساهمت كذلك في جل أعمال المرحوم عبد القادر علولة منها»الخبزة« العلق وإلى كلا يخلص، حوت يأكل حوت، بالإضافة إلى كل هذاشاركت في عدة أفلام جزائرية ومسلسلات مثل المفتش الطاهر، فيلم قورين لمحمد افتسان، مسلسل أزمة أسرة لمحمد حويذق، الشمس لزكرياء شويطر للحاج رحيم، وأعمال أخرى لاتعد ولا تحصى إلى أن أحيلت على التقاعد. هذه الأعمال الفنية تركت بصمتها بارزة في الساحة وفي تاريخ الفن الجزائري الذي عكس عبقرية لازالت السينما والمسرح والطرب يشهدون عليها. واستفاد المرحوم عبد القادر علولة من قدرات الفنانة وفية بلعربي التي شاركت في جل أعماله بحكم تميزها في الأداء وقدراتها على العطاء وشخصيتها في تقمص الشخصية التي تعكس وجدان المرأة الجزائرية وكانت رحلة وفية بالعربي طويلة في مجال الفن من خلال الجولات الفنية التي قادتها الى العديد من البلدان العربية والأجنبية سواء أثناء مرحلة الثورة التحريرية أو بعد الإستقلال من خلا ل مشاركتها في الأسابيع الثقافية التي كانت تقام في إطار التبادل الثقافي بين الدول وهذا مكنها من صقل موهبتها الفنية في كل مرة أكثر وجعلها من الوجوه القلائل الذين تميزوا أمثال كلثوم وليندة وغيرهن. * جمعت بين الطرب والتمثيل وتعتبر الفنانة الراحلة وفية متعددة العطاءات الفنية فقد كانت في بداية الخمسينات مطربة برعت في الأغنية العصرية إلى جانب كونها ممثلة موهوبة، وقد برزت موهبتها المسرحية في تلك الأعمال الإبداعية التي ساهمت فيها وخاصة إبداعات المسرح الجهوي بوهران فجل المسرحيات التي أنتجها هذا الأخير، كان للرحلة دورا فيها واتسمت شخصيتها بالبساطة وبالطيبة وهذا يلمسه لكل من كان قريبا منها من الزملاء والرفاق وظلت وفية تحمل في ذاتها الوفاء للمسرح إلى أن أحيلت على التقاعد في سن نضجها، هذا التقاعد الذي فرض ويفرض على فئات مثقفة ومبدعة في أوج عطاءاتها اداريا كانت خسارة لا تعوض وبعد أن أحيلت على التقاعد، فإن الراحلة وفية شعرت بنوع من الإحباط وعبرت عنه عدة مرات في حياتها من خلال تواجدها في ملتقيات ومهرجانات مسرحية، ولمايئست ابتعدت عن الأضواء الى أن انطفأت شعلة الحياة في جسدها ذات يوم من سنة 1998 بوهران. وهكذا فقد المسرح الجزائري واحدة من عناصره الممتازة وإن لم يعرف الجيل الجديد هذه الفنانة فلأن حلقات التواصل والإتصال لم تكن في المستوى المطلوب ومن المفروض أن يساهم المسرح الجهوي أو الوطني بالتعريف بفنانيه وفناناته وهم أحياء كالتكريمات واصدار دوريات تبرز حياتهم الفنية ومنجزاتهم الإبداعية ليتطلع عليها الجمهور لأن الفنان ملك الجمهور. بالأمس رحل علولة وكاكي وفتحي عصمان وسيراط ووفية وغيرهم وهذا في صمت، فالمرحومة كانت خجولة وخلوقة هذه الصفة يعرفها كل من عرف هذه الفنانة وتتبع مراحل حياتها الفنية وخاصة منذ أن التحقت بالمسرح الجهوي بوهران يدرك بأنها تقدر العمل وتتفانى في أدائه باخلاص. إن سنة الحياة أن تكون هناك الموت والحياة والخلود لله وحده سبحانه وتعالى لكن أن يهمش الفنان وهو حي يرزق وأن يحال على التقاعد وهو في أوج عطائه شيء مؤلم لهذا الفنان وخاصة أن الفنان يمتلك أرق المشاعر والأحاسيس وهذا ما أكدت عليه زميلتها وصديقتها الفنانة سبح الهوارية التي أكدت أن وفية رحلت وفي قلبها حزن كبير لأنها قدمت الكثير للخشبة ووجدت نفسها بعد التقاعد محرومة من الوقوف فوقها وتقديم أعمال أخرى لأن الفنان لايتقاعد بل يستمر في رسالته الفنية إلى آخر رمق له في الحياة. إن الإهتمام بالفنان الحقيقي وبالمثقف المبدع من الواجبات التي تعكس رقي الأمم التي تحترم وتهتم بمثقفيها الفاعلين وفنانيها وفناناتها المبدعات فللفن وظيفة نبيلة وسامية ولابد الحفاظ عليها ولا يتم هذا إلا بإعادة الإعتبار له ولفنه بعدم خنقه وحصره في دائرة التهميش. والفن الحقيقي يعيش في الذاكرة الجماعية وهاهو مهرجان الأغنية الوهرانية يعيد الإعتبار للفنانة الراحلة وفية بلعربي بتكريمها وإحياء إسمها في فضاء المهرجان وأكيد يوم التكريم كانت روحها ترفرف فرحا لوقوفها فوق خشبة الطرب الأصيل.