لعله من المفيد التذكير بأن المناسبات السياسية الكبرى هي فرصة للرفع من المستوى السياسي للفئات الشعبية المختلفة من خلال التحسيس و التوعية، بطرح البرامج السياسية و الأفكار الجديدة التي تنهض بالأمة و تعالج الأوضاع على جميع المستويات، الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية، و بالتالي جعل هذه الجماهير تلتف حول التشكيلات السياسية و تنخرط في برامجها السياسية و في أفكارها. و توظف في هذه المناسبات التي تقع في صلب عملية الاتصال، مختلف الوسائل التي تجعل الفاعلين السياسيين يتواصلون مع مناضليهم وأنصارهم و المتعاطفين معهم، و حتى الراغبين في معرفة المسار السياسي لهذه التشكيلة السياسية أو تلك. فإلى جانب وسائل الاتصال التقليدية من لقاءات مباشرة (تجمعات، اجتماعات)، وإذاعة و تلفزيون و صحافة مكتوبة و ملصقات إشهارية، هناك الوسائل الحديثة من الانترنت و مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبح لها حضورا قويا في العملية السياسية. و المعروف أن جميع هذه الوسائل توظف اللغة، سواء كانت مكتوبة أو شفوية، و أن اللغة تملك عدة مستويات، منها المستوى الراقي حيث المفردات القوية والأساليب الفخمة و الفصاحة والاحترام الصارم لقواعد اللغة، و هي لغة الأدباء والمثقفين والأكاديميين. و المستوى الثاني و الوسيط أو العادي و هو المستوى الذي نتعامل من خلاله مع الناس الذين تكون علاقتنا بهم غير حميمية، أي علاقة عمل أو علاقة اجتماعية التي فيها الكثير من الاحترام المتبادل مثل التعامل مع الكبار سنا و مقاما مثل الأساتذة الذين يقدمون لنا الدروس أو المسئولين في المؤسسات، فلغة في هذا المستوى تكون مقبولة من ناحية المفردات و من حيث احترام القواعد اللغوية، مثل كتابة الرسائل و غيرها من المواقف التي تتطلب اللياقة الاجتماعية. و أخيرا المستوى الثالث و هو المستوى الشعبي حيث يكون التبادل بين أفراد العائلة و الأصدقاء و توظف هنا اللغة في التواصل اليومي، حيث يتميز هذا المستوى من اللغة بنوع من الحيوية و الديناميكية و الحرية الكبيرة، إذ لا تحترم فيه القواعد اللغوية النحوية منها و الصرفية و يكثر فيه الكلام السوقي و العامي، كما يكثر فيه الاقتراض من اللغات الأخرى دون ضوابط، أي ما يسمى باللغة الدارجة أو العامية. و من هنا السؤال: أين تقع اللغة السياسية أو بأي مستوى لغوي يتم توجيه الخطاب السياسي؟ يتعين على الرجل السياسي أن يأخذ بعين الاعتبار أنه يتوجه إلى عموم الناس باختلاف مستوياتهم الاجتماعية والثقافية، فيهم الشباب غير المتعلم والمتعلم ممن لهم أرصدة معرفية متفاوتة ما بين المستوى الابتدائي والثانوي والجامعي، والنساء بمختلف مستوياتهن و المسنون من رجال الأعمال و المقاولون والموظفون، باختصار جميع الفئات الشعبية دون استثناء. و لا يمكن للسياسي أن يوظف في خطابه المستوى اللغوي الراقي، للأسباب التي ذكرنا و لا يمكنه أن يتناول في خطابه المستوى العامي المحض. على السياسي في حملته الانتخابية و في جل تدخلاته عبر القنوات المتاحة، أن تكون لغته تتأرجح بين المستوى الثاني و الثالث، فلغته تكون مثل اللغة الإعلامية، أو بالأحرى أن لا تكون مغرقة في الرقي و لا أن تكون مغرقة في السوقية. ويمكن القول أن لغة التواصل اليومي في الجزائر، أي الدارجة هي أقرب إلى اللغة العربية الفصيحة، فهي وإن اقترضت من اللغات الأخرى بعض الكلمات فإنها تخضعها للتركيب العربي، لكن مع تطور الوسائل التقنية و التكنولوجيات الحديثة، أصبح استيراد الأجهزة الحديثة و المعلوماتية والسيارات بمختلف قطع غيارها، تفرض منطقها على المستهلك الجزائري، فيستعمل تسمياتها المختلفة و لو بصيغة عربية. هناك ظاهرة أخرى أصبحت مستشرية في التبادل تتمثل في دخول اللغة الفرنسية المكسرة في الحديث اليومي، و هذا ما نلاحظه في التبادل اللغوي اليومي و بخاصة في المدن الكبرى، و منها العاصمة الجزائرية، على وجه التحديد. هل هذا إفساد للغة الجزائرية أم ثراء؟ هذا السؤال يحتاج إلى دراسة معمقة ليس مجالها هنا، ولكن بطبيعة الحال، هذا الأمر لا يخدم اللغة العربية، و إن كان بعضهم يرى فيه إثراء للغة اليومية. باختصار على السياسي أن لا يسقط في الشعبوية فيوظف الكلام السوقي لأن ذلك يعطي انطباع سيئ عن مستواه الثقافي و الفكري، و هذا ما نلاحظه في العديد من المناسبات، و عليه أن لا يوظف اللغة العالمة و المصطلحات الجديدة في خطابه، و إن وظفها، يقتضي منه الموقف التبسيط و الشرح، لأن الحفاظ على اللغتين الوطنيتين، العربية منها و الأمازيغية، مسألة تحدي و رهانات هوياتية كبرى.