تحدثت في ملتقيات وندوات أدبية عن تجربتي في الكتابة، وكنت أجتهد في تقديم عرض مبسط عن مساري حسب تواريخ صدور أعمالي الإبداعية معتقدا أن هذا العرض سيسهم في التعريف بتجربتي إذ كنت أقسم إنتاجي الأدبي إلى فترتين تاريخيتين مميزتين تفصل بينهما أحداث أكتوبر 1988م، وقد كانت هذه الأحداث صدمة قوية بالنسبة إلى كاتب عايش مرحلة الحماسة السياسية لمشروع اجتماعي أجهض منذ شروع الحكومة في وضع معالم الاقتصاد الليبرالي التي عرفت وقتذاك بالإصلاحات، وأفضت في آخر المطاف إلى عهد العددية الحزبية. وكنت أحدد الفترة الأولى بما أنجزته من روايات قبل هذه الأحداث وهي (رباعية الجبل الأخضر: هموم الزمن الفلاقي، والانفجار، وخيرة والجبال، وزمن العشق والأخطار)، و(الانهيار)، و(بيت الحمراء)، وقصص (السائق)، و(أسرار المدينة)، أما الفترة الثانية وهي التي أعقبت أكتوبر1988، وما تمخض عنها من أحداث سياسية وتعددية حزبية، وقد صدرت خلالها رواياتي اللاحقة وهي (الكافية والوشام)، و(الوساوس الغريبة) وإلى غاية (سفاية الموسم) و(همس الرمادي). وبمرور الوقت، رأيت أن هذا العرض لا يعبر عن تجربتي بالشكل التي أرغب فيه فحاولت أن أربط رواياتي المنشورة ببعض محطات حياتي الشخصية، معتقدا أن هذا الجهد سيعكس عمق تجربتي، واجتهدت في تحديد ملامحها كالآتي: 1- كتاباتي الأولى التي تمنح من طينة البيئة المحلية التي عشت فيها بمنطقة غليزان، وتجلت في رباعية الجبل الأخضر وقصصي القصيرة وروايتي (الانهيار) و(بيت الحمراء) 2- وظهرت في زمن الانفتاح على العاصمة ومدن أخرى أي في مرحلة مخاض التعددية السياسية، وقد عسكتها (الكافية والوشام)، و(الوساوس الغريبة)، و(سفاية الموسم) و(همس الرمادي) الخ.. ويبدو الهم السياسي واضحا في هذه الأعمال التي رصدت فيها التحولات الكبرى التي عاشتها الجزائر منذ أحداث أكتوبر. 3- وفي المرحلة اللاحقة ازداد اهتمامي بالبحث عن موضوعات مميزة بالعمق الشعبي وهاجس التراث فالتفتُ إلى التصوف والفن البدوي والتاريخ ووقائعه المنسية (عائلة من فخار، وسفر السالكين، وشعلة المايْدة، وشبح الكليدوني، وأيام شداد.) واليوم وبعد ممارسة سنوات، توصلت إلى أن التجربة هي أعمق من هذا العروض، فهي في نظري رحيق الحياة التي عشتها من يتم وشظف العيش، وصراعات يومية ورغبات النفس وأحلامها، وأيضا معاناة الكتابة وهواجسها التي لازمتني منذ مراهقتي أي هي البصمة التي تتجلى في كل عمل أدبي أنجزه. ولا ريب أنني أعجزت عن شحن بعض أعمالي الأدبية بتجربتي المتنوعة ولكنها ستظل تشكل جزءا من بصمتي الحياتية، فالنقاد الذين اهتموا بكتابات نجيب محفوظ هم من اكتشفوا بصمته المميزة في أعماله الإبداعية فكان لها القبول والانتشار الجماهيري، وصارت بذلك من النصوص المعيارية في الأدب العربي. وجون اشتنباك الروائي الأميركي العالمي الذي وجهت له نقود قاسية جدا، صمد في وجه كل العواصف النقدية حتى كان اليوم الذي اكتشفت فيه بصمته وبالأخص في « عناقيد الغضب» ، و « رجال وفئران» ، أما القوالب الجاهزة التي يحاول بعض الدارسين والمنظرين فرضها على المبدعين فهي لا تخلف عن أسطورة سرير بروكوست. فالكتابة الإبداعية تبقى بصمة معبرة عن موهبة صاحبها بل هي بصمة مطبوعة في الذاكرة التي أنجزها الجزائريون بمعاول الكد، وسيوف المقاومة، والأقلام الواعية بأهمية التراكم المعرفي في إثراء تاريخنا المعاصر .