كتابات محمد مفلاح المتعلقة بالتاريخ تحمل قيمة خاصة، وهي إثراء لذاكرتنا وللمكتبة الجزائرية، أي جهد أسطوري يقوم به هذا الباحث المنزوي في مدينة غليزان مذ كانت الأرض غمرا! على هذه المدينة أن تسعد بوجود محمد مفلاح على ترابها، عليها أن تقيم له كل تماثيل الحب والعرفان لأنه أحد أعلام الجزائر وظل من ظلال الأنبياء. وهذه بعض آرائه ومواقفه من الكتابة والنقد والموروث.. تابعوا. كيف ينظر الأديب محمد مفلاح إلى كتاباته الروائية، بصرف النظر عما يقوله النقد ومختلف الدراسات؟ إن نظرتي الحالية إلى كتاباتي الروائية تختلف عن نظرتي إليها في زمن مضى، وأستطيع القول بأنها تغيرت كثيرا بعدما أصبحت الآن تتحكم فيها خبراتي الحياتية وتجربتي في ممارسة الكتابة. ولهذا تجدني غير متحمس لأي عمل أنجزته إلى حد الساعة، بل أتمنى لو كنت قادرا على إعادة كتاباتها كلها وفق تجربتي الحالية. والأديب الجيد في نظري هو الإنسان الذي لا يكون راضيا عن انجازاته مهما كان مستواها الفني، لأن الحلم يجعله يسعى دائما لتحقيق هدفه المنشود والذي يظل في مستوى المثل الأعلى. ولكن هذه النظرة النسبية إلى أعمالي الإبداعية لا تلغي مشاعري القوية نحو كتاباتي التي تشكل جزءا من حياتي الوجدانية والعقلية. وكتاباتي بهذا المفهوم هي بعض سيرتي الذاتية المنجزة في لحظات تميزها العزلة والتصالح مع الذات في جو حميمي جدا. ولهذا لا يمكنني أن أتخلص من هذا الجزء الهام من سيرتي والذي تَشَّكل عبر المعاناة والخبرات الحياتية القاسية. هناك روائيون مكرسون عالميا كانوا يراجعون باستمرار سردهم السابق، ومنهم من أعلن، رغم شهرته، أنه لم يتعلم الكتابة. إن الروائي الجيد يعرف أن مراجعة كتاباتي لا مفر منها، وأعتقد أن هذه المراجعة وهواجسها الرهيبة سببها شعور الكاتب بالعجز عن تحقيق هدفه الأعلى، لهذا فهو يرى في كل عمل جديد مغامرة وجودية غير مضمونة العواقب.. وقد قرأت في هذا المجال سير عديد الروائيين الكبار الذين كانوا يراجعون أعمالهم أكثر من ثلاثين مرة، ومنهم الروائي العالمي هيمنڤواي الذي أعاد كتابة آخر صفحة من نهاية (وداعا للسلاح) تسعا وثلاثين مرة، والروائي الكبير فولكنر الذي كتب (الصخب والعنف) خمس مرات منفصلة، وهناك روائيون كبار يئسوا من كتاباتهم فأحرقوها أو مزقوها لخوفهم المرضي ووساوسهم القهرية من هذه المغامرة القاسية المتمثلة في “الكتابة الحلم"، الحلم الإنساني المستحيل التحقيق. الكتابة من منظورك موهبة أم صناعة، أم كلاهما معا؟ الموهبة أساس العمل الإبداعي، وهي بمثابة الأرضية الصلبة التي يشيد عليها الأديب صرحه الفني، ولكن هذا الصرح لا يجسده إلا الجهد المتواصل، أو العرق كما كان يسميه الروائي بلزاك. أما الصناعة فيكتسبها الأديب بواسطة الممارسة. ولاشك أن المطالعة الجيدة تفيده كثيرا في فهم نشاطه الإبداعي، غير أن الممارسة تعطي روحا لهذا النشاط. وعلى الكاتب ألا ينشغل كثيرا بالتقنية إذا كان موهوبا وقادرا على بذل الجهد وتنظيم عمله. وهنا أشير إلى استفادتي من تجربة فولكنير التي لخصها في رأيه عن التقنية وهو كالآتي: “ليصبح الكاتب جراحا أو بناء قرميد إذا كان مهتما بالتقنية، ليس هناك أسلوب آلي تتم به الكتابة". ما دور البلاغة في الإعلاء من شأن النص؟ النص الإبداعي الذي لا يهتم صاحبه بالبلاغة هو نص ميت، فالبلاغة هي بلوغ الغاية المتمثلة في إيصال الخطاب (أو المعنى) إلى القارئ للتأثير فيه. ولا يوجد كاتب ينكر دور البلاغة في تشكيل النص، ولكن الاختلاف قد يكون حول نظرتنا لمفهوم البلاغة في وقتنا الحاضر. فواقعنا الحالي يتطلب اجتهادا متواصلا في هذا المجال حتى يصبح النص معبرا عن روح العصر وهموم الإنسان، أي أن تكون بلاغة مستوحاة من رصيدنا الحضاري وواقعنا المعاصر. من واجبنا الاستفادة من التراث ولكن لسنا مجبرين على الخضوع لقوالبه الجامدة. لقد أصبح لهذا العصر بلاغته المكتسبة بواسطة جهود المبدعين المتميزين الذين لم يحفلوا بالفكر التقليدي الذي قيدته اللفظية والاجترار. لا بدّ أنك تتابع الرواية والشأن اللغوي. إلى أين وصلت اللغة بعد عشرات السنين من بداية التجربة الروائية في الجزائر؟ هناك تنوع كبير في الكتابة الروائية التي تعددت مضامينها وأساليبها، لذلك لا يمكن لأي متتبع أو ناقد إصدار حكم نهائي وقاطع عن التجربة الروائية في الجزائر. ففي السنة الماضية قرأتُ أكثر من عشرين رواية ولمختلف الأجيال، فوجدت في بعضها لغة سردية جميلة تجاوزت اللغة التي عرفها جيل المؤسسين، ولكن هناك كتابات لا ترقى لغتها إلى مستوى السرد الروائي. فاللغة قضية شائكة وهي الأداة الأساسية لأي عمل أدبي. وجل نقاد الرواية لم يهتموا كثيرا باللغة التي أنجزت بها هذه الروايات، وهي في حقيقة الأمر لغات متعددة امتزجت فيها الأجناس الأدبية بشكل غير مدروس فاختلط الحابل بالنابل. ويعتقد بعض المهتمين بالرواية أن المعيار الصحيح هو الضجة الإعلامية ونسبة المقروئية. وأرى أن الروائي العاجز عن خلق لغته المعبرة عن ذاته، والمكتشفة لآفاق المضامين الجديدة، لا يستطيع أن يكتب فنا مميزا. هناك من يتحدث عن قضية الحداثة بعيدا عن هوية النص وعن الذات، بل إنّ الحداثة أصبحت تقتصر على مفاهيم عينية لا تدخل أصلا في باب الحداثة. هل يمكن الحديث عن هذه الحداثة بمعزل عن المحيط والموروث؟ واقعنا معقد جدا، ولكن هل يستطيع الإنسان أن يمشي في الهواء إذا ما تضايق من وجود جبال وعرة تعترض طريقه؟ بعض المثقفين يريدون صنع حياة معاصرة افتراضية هروبا من الواقع البائس، ويعدون هذا السلوك حداثة، فهم لا يبذلون أي جهد لفهم محيطهم وموروثه الثقافي، وهذا لمواجهة جبال التخلف الوعرة التي تظل في أمس الحاجة إلى فكر نيّر لتعبيد الطريق والخروج من عنق الزجاجة. إن المثقف الذي يغرف من المعرفة الغربية دون أن يحلل واقعه الحضاري والثقافي ثم يعمل على تطويره، سيعيش لا محالة الاغتراب القاتل، لذلك سيكتب نصوصا شاحبة لا هوية لها، هي أقرب إلى الخواطر.. جميل جدا أن نقرأ كافكا، وبروست، وسارتر، وفوكو، ودريدا... إلخ، ونحاول أن نفهم تجاربهم الفكرية والأدبية في ضوء محيطهم الحضاري (الإغريقي، والروماني، واليهودي-المسيحي) الذي استمدوا منه حداثتهم بعد جهد فكري عظيم، ولكن ما جدوى تلك القراءات إن لم تشكل إضافة جديدة تسهم في إضاءة نصوصنا وشحنها بروح المحيط الذي نعيش فيه. إن موروثنا الشعبي الذي أهملناه هو كنز لا يفنى، أما التحدي الحقيقي فيتمثل أولا: في كيفية الاستفادة منه لتوليد وخلق المفاهيم المعاصرة، وثانيا: في كيفية استعماله لتحقيق ذاتنا وحداثتنا. هل تتصور رواية جديدة لا تحتاج إلى نقد؟ إن الرواية - قديمة كانت أو جديدة- ومهما كان مستواها الفني، هي نص إبداعي يخضع بالضرورة لعملية النقد.. فالنقد بمفهومه الإبداعي هو إضاءة للعمل الإبداعي. ومهمة النقد كما يعتقد بعض الكتّاب، لا تعني الأديب في شيء، لأن خطاب النقد موجه أساسا إلى القارئ. وبالنسبة إلي فإنني أحب قراءة النقد، وقد اهتديت إلى جل الروايات المتميزة بفضل هذا النقد. والمتتبع لتاريخ الرواية يلاحظ أن النقد كان سببا في الترويج للكثير من الأعمال الإبداعية وإن كانت نسبة مقروئيتها ضئيلة، وأذكر منها روايات جويس، وبروست، وكافكا، وسيمون، وروب غرييي، وسيلين، وكاتب ياسين الخ.. ولم يكن الانتشار الإعلامي الواسع لهذه الأعمال إلا صدى لتلك الكتابات النقدية الجادة. المعروف عن الأستاذ محمد مفلاح أن له انشغالات كبيرة بالموروث والتاريخ والأنثروبولوجيا والدين. إلى أين وصلت بحوثك المتميزة؟ اهتمامي بالتراث والتصوف والأنتروبويولجيا والتاريخ، بدأ منذ اللحظة التي تفطنت فيها إلى شعوري بالعجز عن التعاطي مع المحيط الثقافي والحضاري الذي أتحرك فيه جسدا وروحا، وقد أدركت أن كتابات المفكرين الغربيين ورغم استفادتي الكبيرة منها، فهي لا تقدم إجابات عن بعض تساؤلاتي الوجودية، لأن هذه الكتابات منطلقاتها الفكرية تختلف جذريا عن منطلقاتنا. وقد ازدادت انشغالاتي بهذا المجال بعد أحداث أكتوبر1988 والأزمة الدامية التي عرفتها بلادنا، فقررت مقاربة هذا الواقع لفهم الرموز والتقاليد التي تشكله، كما قررت الغوص في الذاكرة لمعرفة معالمها وأعلامها، ووقائعها المغيبة. وقد قرأتُ لهذا الغرض تاريخ العلامة ابن خلدون وجل الإنتاج الثقافي الذي خلفه كتاب وأدباء العهد العثماني ومنهم ابن سحنون الراشدي، والشريف الزهار، وأبوراس الناصري، والمشرفي، وابن هطال، والمزاري، والشقراني، والزياني الخ.. كما قرأت كتابات المؤرخين المعاصرين منهم الميلي، والمدني، والبوعبدلي، وسعد الله، وبوعزيز، وسعيدوني، وقداش الخ.. وبفضل هذا الجهد الذي بذلته خلال سنوات الثمانينيات والتسعينيات، وجدت في نفسي الرغبة في الكتابة عن هذا التراث الثقافي والتاريخ المحلي، وقد اقتصر نشاطي على منطقة غليزان التي أنتمي إليها. وقد وضعت برنامجا لهذا النشاط المندرج ضمن مشروع طموح حققتُ منه إلى حد الآن ستة كتب في تراجم الأعلام، والشعر الشعبي، والمقاومات والثورات، ومراكز التعليم العربي الحر، وجمعية العلماء، وبالإضافة إلى بحث عن ثورة سيدي الأزرق بلحاج المندلعة سنة 1864. وأسعى من وراء أبحاثي هذه للإجابة عن الأسئلة التي مازالت تؤرقني وهي: كيف كان مجتمعنا الجزائري؟ وكيف وصل إلى هذا الوضع المضطرب؟ وكيف سيكون مصيره؟ وهي أسئلة لها ارتباط وثيق بهموم الجزائري المنصهر في واقعه المعقد، واقع ثقافي خلفه الأسلاف وهو متداخل مع واقع مستجد تشغله التكنولوجيات الحديثة. وكأديب ابن بيئته، فإن أبحاثي المتواضعة إلى جانب مطالعتي المستمرة لكتب التاريخ والاجتماع والفكر، منحتني فرصة للإفادة من الخبرات الإنسانية، ودفعتني لتأمل هذا الواقع الذي يجب هضمه أولا ثم تجازوه، لأنني أومن أن الإبداع هو كشف لوقائع ومضامين تتجاوز هذا الواقع الذي تسوده الحياة الفارغة من أي معنى. أعمال الروائي والباحث محمد مفلاح روائي وقاص وباحث، من مواليد 28 ديسمبر 1953 بولاية غليزان (الجزائر)، أنجز العديد من الأعمال الإبداعية والأبحاث المتعلقة بتاريخ وتراث منطقة غليزان. وهو اليوم بعد تقاعده، متفرغ للكتابة الإبداعية والبحث في تاريخ منطقة غليزان وتراثها الثقافي. في الرواية: 1- الانفجار، 1983، نالت الجائزة الثانية في الذكرى العشرين للاستقلال الجزائر (سنة 1982). ترجمت إلى اللغة الفرنسية، منشورات اتحاد الكتاب الجزائريين، (2002). 2- هموم الزمن الفلاقي، 1984. نالت الجائزة الأولى في مسابقة الذكرى الثلاثين لاندلاع الثورة (سنة 1984). 3- زمن العشق والأخطار، 1986. 4- بيت الحمراء، 1886. 5- الانهيار، 1986. 6- خيرة والجبال، 1988. 7- الكافية والوشام، 2002. 8- الوساوس الغريبة، دار الحكمة، 2005. 9- عائلة من فخار، 2008. 10- شعلة المايدة، 2010. 11- انكسار، 2010. 12- هوامش الرحلة الأخيرة، 2012. في القصة القصيرة: 13- السائق، 1983. 14- أسرار المدينة، 1991. 15- الكراسي الشرسة، 2009. قصص للأطفال: 16- معطف القط مينوش، 1990. 17- مغامرات النملة كحلية، 1990. 18- وصية الشيخ مسعود، 1992. كتب في التاريخ والتراجم: 19- شهادة نقابي، 2005. 20- سيدي الأزرق بلحاج رائد ثورة 1864م المندلعة بمنطقة غليزان، 2005. 21- أعلام من منطقة غليزان، 2006. 22- شعراء الملحون بمنطقة غليزان من العهد العثماني إلى غاية القرن العشرين (تراجم ونصوص)، 2008. 23- غليزان: مقاومات وثورات (من 1500 إلى غاية 1914)، 2010. 24- جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في مدينة غليزان (1931-1937)، 2011. 25- مراكز التعليم العربي الحر في مدينة غليزان (من الاحتلال الفرنسي إلى غاية الاستقلال)، 2011.