الإهداء : إلى أمّ أمجد كان صوت الجدّة يتناهى إلى سمعي و هي توصي المولود الجديد في احتفالية العقيقة، تدافعت الوصايا أشبه ما تكون بتمائم علّقت على شجرة حياته التي ستعرف لحظات تورق فيها أزهارها، و لحظات تحول الزهرة إلى ثمرة قد لا تذو ق حلاوتها ، و قد لا تتعرّف على اليد التي قطفتها، ستعرف رياحا عاتية تكابد خلالها الهلع من اقتلاع جذورها ، و ستطمئن لقطرات الغيث المتناسلة من السماء تغسلها و تعيد الألق لأوراقها. ستدركها كآبة فصل الخريف فتيبس أوراقها و تتناثر لتملأ وجه الأرض. مدّت العجوز يدها المعروقة ،حكّت أذن المولود الجديد و هي تكرّر قولها على إيقاع زغاريد النسوة:« كاين الله ، و كاين الرسول، كاين أمك فلانة و كاين أبوك فلان " و راحت تعدّد أسماء أفراد العائلتين ، نطقت امرأة التحفت رداء مزركشا و اشتغلت بإطلاق البخور و تمتمت : و كاين الرعد و كاين المطر ، كاين البرد و كاين السخانة " و توالت وصايا الجدة تحك أذن الصغير و تمتم بصوتها الهادئ المصقول على حجر الخبرة في هذه الحياة. كنت حينها أشتمّ رائحة البخور الزكية و عيني على إناء الماء ، الذي قامت فيه الجدّة بطقوس الغسل الأكبر و الوضوء للصبي الصغير الذي مرّ على خروجه إلى هذه الحياة أيام سبع ، كما السنابل السبع الممتلئات.منظر قنّينة الكحل و المرود جعلني أسترجع لحظة أمسكته الجدة بعد أن ألبسته ملابسه الجديدة و قامت بتمرير المرود بين جفنيه و هو هادئ مستمتع بعد أن شبع من حليب أمّه، و كأنّني به أدرك بحاسة ما أنّ يومه هذا استثنائي في حياته ، يوم أرادته الجدّة بوصاياها قاعدة تبني عليها عمره بأكمله ، تساءلت في لحظة شاردة : أين ذهبت وصايا جدّات التعساء في هذا العالم، لما لم تستقر في شريط العمر منذ البداية ؟ و استقرّ نظري على وجه الصبي الملائكي و هو يحاول تحرير يديه من قماطة القماش التي لفته بها الجدة و أحكمتها على مفاصله ليكون قوامه أجمل في المستقبل. هذا الصبي الذي كان مجرّد أمنية حملها قلب الأمّ الشابة ، تحرّك يوما في أحشائها ، طارت فرحا، تناسلت أحلامها به منذ أن يولد إلى أن يكبر و يصير طبيبا أو مهندسا ، ها هو اليوم أمامها خرج من سكينة رحمها إلى هذا العالم الذي يعجّ بالآلام فربطت منديلا على رأسها وضعت فيه حلقا من فضة كإشارة للمولود الذكر، ها هو اليوم أمامها تعدّه الجدّة لمجابهة الحياة بحلوها و مرّها ، بحقائقها المفجعة و بلحظات السعادة القصيرة فيها ، تهادت لحظتها في ذهني الشارد مقولة جبران خليل جبران :«عندما كنت كلمة صامتة بين شفتي الحياة المرتعشتين ، كنت أنا مثلك كلمة صامتة ، و ما أن تلفظت بنا الحياة حتى برزنا إلى الوجود و قلبانا يخفقان بتذكارات الأمس و الحنين إلى الغد ، و ما الأمس سوى الموت مطرودا و ما الغد سوى الميلاد مقصودا ." تقوم الجدّة منتصبة تفوح منها رائحة القرنفل و الأعشاب البرية التي مشطت بها شعرها ، مسبلة ضفيرتيها وراء ظهرها ، تحمل الصبي بين يديها تتبعها الأم الشابة و تتبعهما النسوة في موكب لتعريف الصبي بغرف البيت و زواياه، تلقنه الجدة أبجديات سكن جديد و هو الذي ألف رحم أمه سكنا له. تتعالى الزغاريد توزع قطع الحلوى على الأطفال،ومن وسط النسوة تخرج طفلة صغيرة هي الحفيدة المدللة ، تلتحف منديل الجدّة و ترقص مبتهجة و هي تغني:« سيري و ميحي يا أم البنات ، عايشة مشات و الكوزينة أنا ليها ".تتحسس أم الوليد القرط في منديلها و في داخلها تنبت أمنية أن يكون المولود القادم أنثى.