من أجمل المواقف واللحظات التي يعيشها الأولاد في كنف الأسرة تلك التي تكون بحضور الجدة ليستمتع هؤلاء الصغار بجلسة حميمة تكون في الغالب ممزوجة بحكايات وقصص ترويها على مسامعهم، تحمل في مضمونها معاني وعبر لتكون تلك الجلسة معبقة بمجموعة من النصائح والحكم، مثل هذه الجلسات يفتقدها معظم الأطفال في عصرنا الحالي، حيث استبدلت الأمهات الجدات بالمربيات أو ما يعرف ب ''البيبي سيتر''. تعد الحكايات والقصص التي تقوم الجدة بسردها لتساهم بذلك في تربية الأطفال من المعطيات الأولى التي يستعين بها الفرد في حياته اليومية، بل تكاد تشكل له المصدر الوحيد لاكتساب الحكم والأمثال، كيف لا والجدة هي المدرسة الأولى في الحياة بحكم تجربتها الميدانية الكبيرة التي تحاول نقلها للأحفاد، ولأن الجدة بحكم سنها تسعي جاهدة في كل مرة إلى تربية الأجيال وتعليمهم أسس التربية التي تساعدهم في الحياة من خلال ما تعلمته منها هي. الخالة ''يمينة'' عينة من الجدات اللائي أشرفن على تربية الأجيال في الزمن الذي كانت تربية الأحفاد من مهام ومسؤولية الجدات فقط. وتروي خالتي ''يمينة'' من خلال تجربتها في تربية الأحفاد سعيها إلى حمايتهم من الأخطاء التي ربما كانت قد وقعت فيها في وقت مضى حيث ترى أن الجدة تشكل مصدر الراحة والأمان والنبع الذي يفيض من الحنان. وفي بعض الظروف الصدر الحامي الذي يلجأ إليه الأحفاد هروبا من عقاب الأولياء، ومن المهام التي كانت تتكفل بها الجدة في الماضي، تسيير شؤون البيت إذ كانت المستشارة الأولى في إداراتها وبمثابة شرطي المرور الذي يسمح بتمرير أمر على أمور أخرى، كما كانت استشارتها ضرورية في كل أمور البيت صغيرة كانت أم كبيرة . العقل المدبر يزاح من مكانه تقول الخالة ''حجيلة'' التي هي جدة لما يزيد عن 12 حفيدا هناك من زف منهم، أن الجدة هي التي تتكفل بتنظيم المناسبات العائلية، أفراح كانت أو أحزانا وتجدها حاضرة في كل وقت، فقد كانت العقل المدبر في الأفراح، فكلما تعزم الأسرة على القيام بفرح زفاف تتأهب هذه الأخيرة تبدل النفس والنفيس في إدارة الأمور فتراها تحضر الكسكسى مع الجيران والعائلة في لمة عائلية يطبعها ترديدها لمجموعة من الأغاني والأشعار التراثية الممزوجة بزغاريد النسوة مما يضفي على المكان نكهة خاصة. كما كانت الجدة تشرف أيضا على علاج أحفادها، فلا يستدعي الأمر زيارة الطبيب وإنما تتكفل بنفسها بذلك وفقا لبعض الوصفات التقليدية من خلال تقديم بعض الأعشاب والسوائل التقليدية، وغالبا ما تكون النتيجة إيجابية. إلى جانب ذلك كانت الجدة تلعب دور الرقيب على سلوكات الأطفال. وتزيد خالتي ''حجيلة'' على كلامها أن أشد ما يغضب الجدة هو تقديم أبنائها الأموال لأحفادها، وإن سمحت بذلك وغضت النظر فإنها تحرص ألا تصرف تلك الأموال فيما لا يفيد أو تبذر في شراء الألعاب، وما شابه ذلك من التفاهات. هذه الطريقة في التربية جعلت ما يميز الأطفال اليوم عن أطفال الأمس احترامهم للغير، بحيث لم يكن يشهد في الماضي في التصرفات والمعاملات مع الكبار، فلقد انكسر حاجز الاحترام، وصار الصغير لا يرفق عبارات الاحترام في مخاطبة الكبير، أو استخدام عبارات لا تمت لتقاليدنا بصلة كأن ينادي العمة أو الخالة بتسمية ''طاطا'' فاليوم انقلبت موازين الحياة رأسا على عقب، إذ لم يصبح للجدة مكان في الأسرة الجزائرية، وإن أتيحت لها الفرصة تبقى هذه الأخيرة مهمشة ومجردة من حقوقها، ليبقي وجودها يقتصر على الحضور الجسدي فقط من الأكل والشرب والمبيت فقط لا سلطة لها حتى في الإدلاء برأيها. أريد العيش وحدي وتواصل الخالة ''حجيلة'' قائلة: ''لعل من الأسباب التي دفعت بالجدة أن تنسحب من الأسرة الجزائرية هو تطور المجتمع وتنامي فكرة تفضيل الأزواج الجدد العيش بمفردهم، حيث أصبحت أول فكرة تشغل بال الزوجين قبل الزواج هي توفير مسكن خاص ليعيشا فيه بمعزل عن الأسرة الكبيرة، تجنبا للمشاكل التي تحول بينهم وبين الحياة السعيدة، وهو الأمر الذي يبعد الجدة عن المشاركة في تربية الأحفاد، فيسعى الزوجان إلى خلق جو أسري مليء بالراحة والرفاهية من خلال توفير المستلزمات الضرورية لأبنائهم، ويجسدون ذلك بفكرة العيش لوحدهم، وهذا ما لا يتماشي وتفكير الجدة. كما أن بعض الأزواج أصبحوا ينظرون إلى الجدة على أنها بدائية لا تواكب تطورات العصر من خلال أفكارها وآرائها إذ لا يصح إذا مرض الطفل أن يترك على حاله والاعتماد في شفائه على الأعشاب، وإنما من الضروري أخذه إلى الطبيب الذي يكشف عليه ويصف له الدواء اللازم وهذا ما تعده الجدة خرقا لعادتها وتقليلا من درايتها بأمور الحياة وكل هذا وذاك يجعل الجدة تنسحب وبشكل ملفت للانتباه من حياة الزوجين، فاسحة لهم المجال في تربية أبنائهم كيفما شاءوا. للمربية الأولوية في التربية عن الجدة ما يلاحظ في مجتمعنا اليوم خروج المرأة إلى العمل، فلا يمكنها التوفيق بين أمور البيت وعملها، فتلجأ إلى البحث عن مربية تعتني لها بأبنائها، وهذا ما ترجمته ''خليدة'' من خلال إبداء رأيها في تربية الجدات للأحفاد، حيث تجد أن الجدات متقدمات في السن، ولا يقوين على العناية بأنفسهن فكيف الأطفال، وعدم التوفيق بين العمل والمنزل يجعل الأمهات مجبرات على اتخاذ موقف وإيجاد من يتكفل بأبنائهن، وهو ما دفعني إلى الاستعانة بمربية تقوم برعاية طفلي وتحرص على خدمته. فبعد ما كانت تلك مهام الجدة خصوصا في حالة ما إذا مرضت الأم أو كانت منشغلة، عوضتها المربية التي عادة ما تكون مجهولة ولا يعرف سلوكها، وهذا ما يمكن أن ينعكس سلبا على تنشئة الأطفال الذين في غالب الأحيان يعانون من نقص الحنان والدفء العائلي، ويظهر هذا جليا من خلال سلوكاتهم الشقية التي تعكس التربية التي يتلقونها زيادة على أن تربية الجدة لأحفادها تربطها صلة رحم قوية، قرابة الدم فتسقي الأحفاد بالحب والحنان، في حين تبقي المربية دخيلة عن العائلة لاتمنح الطفل كل هذه المشاعر. وإلى حين أن يعاد الاعتبار إلى الجدة وتسترجع مكانتها في الأسرة الجزائرية، يبقى هذا النبع الفياض معترفا به في تربية الأجيال على مر الأزمنة والمدرسة الأولى في تربية وتعليم النشء الصالح.