ما زلتُ أذكر صوت أبي العائد من باريس و قهوته الصباحية المميزّة على شرفة منزلنا الصغير و حبّه للموسيقى الشرقية و للكمنجة الذي يقبع في قلبي منذ ذلك الزمن... كنتُ صغيرة عاشقة لصوت فيروز إلى أن صادفتني يوما نغمة من حنجرتها الشجية ' صادفتني كعنقود منسي من العهد الجميل : " كذبك حلو...شو حلو لمّا كنت شي كذبة بحياتك..." أذكر أنّني يومها اعتقدتُ أنّ الأغنية لفيروز , ذلك لأنّ حشرجة صوتها النائم في ظل الألحان الراقية ليس ببعيد عن "فيروز بيروت" و كانت تلك السنوات الأولى لبداية انهيار هوية الأغنية العربية أين ظهرتْ بسيليس " فيروز حلب" بكل قوّة إلى العالم العربي , بفن ٍ يوجد في عمقه مبدأ و رسالة , بموسيقى تطربُ لها الأذان و تأنس لها الأرواح ...كلّما ترّنحتْ بشدوها فاحتْ من عبق صورتها و صوتها الهادئ كلّ معاني الصفاء و الجمال ...تعود بكَ إلى أجواء الشام و ياسمين حلب الشهباء التي كانت أميّ عائدة منها للتو حاملة في وجهها جماليات خالدة ,اكتملتْ في نفسي بصوت بسيليس ، تعود بك إلى نقاء الكلدان والأبرشية المقدسة بترانيمها المتسلسلة كما جمال الله في الطبيعة . و شاء القدر أن يلتقي قلبَيْ امرأتين إحداهما غنّتْ فسحرتْ: " وحدي بلا رفيق" ، " دايما رح أهواك" ، " لو تغمرني" ،« على موج البحر" ، " خلينيّ على قدّي" ، " هوى تاني" ،« بقلبي في حكي" . و الأخرى اعتادتْ ألاّ تكتب شعرها إلا و لحن مياّدة يُناجي من نافذتها القمر . فعشقتْ و تشرّبتْ كل معاني بوحها .الحزين برونقه ، الغابر بكيمياء عطره، القابع في مخيّلة الأساطير ، أمام صوت بسيليس المتمّيز، استطاعت ميادة الحفاظ على الغناء الأصيل في زمن الغوغاء، ساعدها على ذلك أنها نشأت في بلد لا تعرف سوى الأصالة في الفن وهي مدينة حلب السّورية , فلم تجد نفسها إلاّ وهي تحفظ تراثها وتتغنّى بأغانيها الأصيلة .. رغم أنها أخذت طريقا آخر في الغناء وهو الرومانسي والهادئ ولكنها بقيت محافظة على كلاسيكية الكلام و المعنى وتحاول دائماً ألاّ تتخلّى عمّا يرقى في الغناء حتى ولو كان حديثاً ومعاصراً . من عشاق صوتها أصبحتُ و لا أدري لماذا أشعر أنّ كلما ازدادت نبرة بسيليس في الحزن ازداد الصوت لمعانا و اللحن رونقا...لا يعني أن يكون الغناء عن موضوع يحمل بعض الحزن أن يصل باهتاً بالضرورة للمتلقّي ، بنبرة تفقد اللمعة والبريق المطلوب .. لاتحمل عادة دموعنا بقدر ما تحمله قلوبنا من المآسي .. ولاتستطيع نبرات صوتنا أن تترجم الأحاسيس التي نشعر بها أثناء كلامنا .. عندها يأتي الغناء ليحمل وبرفقة الموسيقى وخاصة إذا كانت صادقة كل هذه الأمور لتصل للمتلقي بكل صدق وأمانة . "وحدي بلا رفيق" ... أغنية خالدة تبكيني شخصيا و تلمس الجراح في كل القلوب الوفية المقهورة... كيف ترى ميادة الصداقة من عالمها الجميل المضيء يا ترى ... الصداقة المقصودة بتلك الأغنية مختلفة تماماً عن معنى الصداقة السائد ..و هو ما يقصده في تأليفها ربما زوجها الموسيقار "سمير كويفاتي" وهو يهدف إلى إيصال رسالة وهي أن الدروب الصعبة ستكون سهلة أمام الطموح المفعم بالإيمان .. ولم يقصد نهائياً بأن لديه الرغبة بالتخلّي عن الرفيق أو الصديق كما فهم البعض حين انتُقدتْ الأغنية وقتها و احدثتْ ضجة ...يوضّح أيضا أن ماينتابنا أحياناً من شعور بالإحباط والكآبة يكون مصدره بعض من يدّعون بأنهم من أصدقائنا لذلك كانت جملة : "بيريّحني الملل بعّد قد مافيك .. وبيتعّبني الأمل إذا معلّق فيك ؟؟ .. "وهذا هو في الحقيقة مفهوم الصداقة حسب وجهتِهِ .. كمثالية مكرسة تنعم في عالم مبتهج . يمثل الحب لميادة بسيليس الكثير و تراه موجودا في زمن الفولاذ والضجيج...لايمكن لأي مخلوق على وجه الأرض أن يشكك بوجود الحب .. فهو موجود رغم متغيرات الزمن واختلاف طبائع البشر .. الحب طبيعة والطبيعة هي خلق من الله ولا يمكننا أن نعيش بدونها . ويمثل الحب لها لحناً يحمل في طياته أنغام تتنافس في الجمال والروعة . و رغم أنّ غناءها أرستقراطي الطباع . و يشترط أن يكون مستمعيه من طبقة معينة .إلا أنّ ميادة وصلت الى قلوب العامة... و كان سر ذلك هو اعتقادها أن موسيقى عصر النهضة أو "البار روك" لم تكن حكراً على طبقة معينّة من الشعب ولَم تستطعْ توجيه الجمال لفئة خاصة ضيقةّ و من هنا انتشرتْ .. الفن الجميل يستطيع أي فرد تذوّقه . وأن تصل إلى قلوب العامة فهذا يعني أنك صادق بما تقوله .. وهذه صفة الفنان الحقيقي الذي لا يكثر الحديث عن نفسه و فرصته الفعلية هي أن يقف كحربة جاهزة العطاء على المسرح . و عن "جبل الغيم الأزرق" . الوطن الشامي الأصيل سوريا " تصلي ميادة له أن يستفيق من أزمته و أن تمطر غيمات دعائنا مطرا يغرقه في المحبة و السلام شامية حتى النخاع و هو ما يجعلها حزينة حين يعصف ببلادها كل هذا الألم .. وما تفهمه حين تحادثها ايمانها التام بأن الأزمات تفنى و المواقف تنتهي و الرجالات ترحل و وحدها الأوطان تبقى و تستفيق وتنهض من كبوتها و تشرق عليها مجدداً شموس الأمل وتعود لا محالة لتضمّ أبناءها جميعاً و يعودون هم ليُغنّوا لها و يحتفلون . سيكون العيد القادم أبهى وأجمل و سنثبتُ للعالم أجمع و للبشر باختلاف طوائفهم ومذاهبهم أننا ما زلنا على قيد الفرح ميادة بسيليس . [email protected]