بعد نصف قرن من العطاء في بحر النغمة الموسيقية ومغازلة الأصوات الجميلة، وفي مسار نابض بالإبداع الصادق والذكريات الخالدة التي يفوح منها عبق الأصالة بفعل تألق زمن العمالقة، يعود الموسيقار الجزائري الكبير علي الزبيدي الذي أجحفت في حقه الكثير من الأقلام الصحفية، متناسية لمسته وحسه الفني المتميز ليعري الحقائق بداية من الدوافع التي تبقي على تهميش الفنان إلى غاية القصيدة التي تركها له شاعر الثورة مفدي زكريا ليلحنها، ومازال في رحلة البحث عن صوت قوي ليؤديها، إلى جانب إثارته لحرب الملحنين على الأصوات الجميلة وسر عشقه الكبير لصوت الفنانة الجزائرية »فلة عبابسة«. »الشعب« اغتنمت فرصة زيارته لمقر الجريدة، وتسللت لتقصي مغامرة الفنان الجميلة مع الألحان والأصوات والإرتقاء بالنغمة العذبة. ❊ يمكننا أن نقول أنكم تعودون من زمن العمالقة على اعتبار أنك كنت محظوظا بالإحتكاك بالموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب وفناني عصره من جزائريين وعرب، هل بقي جيل الشباب محافظا عليه من الإرث؟ وهل عرف كيف يطور الكنوز الموسيقية القديمة ويستفيد منها؟ ❊❊ نحن جيل تتلمذ على يد الجيل الذي سبقنا وكنا امتداد حقيقي لهم، حملنا ذات الرسالة النبيلة، وللأسف أجيال اليوم لم تتمكن من الإستمرارية حيث حدث نوع من القطيعة لأنه فن بدون علم ودراسة وبحث لن يحقق أي تطور وارتقاء. ولا أخفي أن الجيل الحالي ركز كثيرا على الأغنية السهلة سواء تعلق الأمر باللحن أو الكلمات، لكن لا ألوم الفنان الشاب بقدر ما ألوم أصحاب شركات التسجيل التي غرّرت بالمواهب، فأسندت لها كلمات بذيئة أو لا ترتقي إلى المستوى المطلوب الذي يتطلع إليه المتلقي. مدرسة ألحان وشباب مشروع ذكي لكنه منقوص ❊ في كل مرة تفتح مدرسة ألحان وشباب أبوابها تكشف عن ثروة من الأصوات القوية البلبلية، ما رأيك في هذا المشروع الذي جذب الشباب الموهوب؟ ❊❊ للأسف رغم أن فكرة هذا المشروع ذكية وجيدة غير أنها منقوصة، لأن الشباب المتألق فيها لا يستمر في الدراسة وصقل موهبته، لأن هذا الأمر يحتاج إلى معاهد وأساتذة ومؤطرين، وبدون كل هذا سنبقى ندور في حلقة مفرغة. ❊ نعود إلى سؤالنا التقليدي ما هو الجديد الذي تحمله في قريحتك، وإن كان مازال مشروعا تتطلع إلى تجسيده خاصة وأنك تغيب عنا بالثقل الذي عرفه حضورك في الساحة الفنية الجزائرية خلال العقود السابقة؟ ❊❊ عكفت على كتابة كلمات وتلحين أنشودة تتناول موضوع المناخ وطبقة الأوزون، أحذّر فيها العالم في شكل نداء عاجل للإنسانية، أقول في مطلعها: »نداء عاجل لكافة البشر، أحيطكم علما بآخر خطر، كوكبنا مهدد وبان الخطر والأوزون هاج استفحل وتطور وإذا مالت الأرض أين المفر...«. وحاولت أن أذكر فيها الأمراض الفتاكة التي تتهدد الطبيعة في الكرة الأرضية. ولعلمك لقد سجلت هذه الأنشودة منذ حوالي سنتين، لكنها بقيت بدون تبني لا من طرف الإذاعة ولا التلفزيون، ومؤخرا تحدثت مع المخرج حاج رحيم لتسجيلها في شكل فيديو كليب ووعدني بذلك. كفانا إطلاق الوعود ويجب التعجيل بقانون الفنان ❊ يبدو من خلال حديثك أن الفنان تواجهه صعوبات ويلاقي عراقيل حتى من الجهة التي تتبنى إبداعاته، نود تسليط الضوء على هذه النقطة بالذات ومعرفة ما هو التحدي الحقيقي الذي ينتظره؟ ❊❊ أوجه صرختي في البداية إلى وزارة الثقافة لأنبّه أنه يكفيها إطلاق الوعود، لأن الفنان إلى غاية اليوم مازال يفتقد لقانون يحميه، وكل الوزارات التي تعاقبت تتماطل وترمي الكرة بعيدا، ويبقى الفنان يعاني ويتخبط في ظروف صعبة. وأغتنم الفرصة لأؤكد أنني حزنت كثيرا عندما شاهدت انصهار الفنانين المصريين في صوت ويد واحدة ومناصرة فريق كرة القدم لبلدهم، وهو يعكس مدى العناية بالفنان وتفعيل مشاركته حتى في المنافسات الكروية وهذا ما يغيب عندنا. وبالموازاة مع ذلك يجب أن أشير أنه نتمنى أن تحدث تصفية القلوب بين الجماهير الرياضية الجزائرية والمصرية، ويحدث التسامح وتعود المياه إلى مجاريها، لأن الجزائر الأصيلة بطبيعتها لا تستطيع أن تقاطع أي بلد عربي. ❊ سمعنا عن قصة القصيدة التي خصّك بها الشاعر الكبير مفدي زكريا وطلب منك تلحينها، لماذا لم تظهر؟ وما سر اختفائها؟ ❊❊ بالفعل، بحكم علاقة الصداقة القوية التي كانت تجمعني بشاعر الثورة المتميز مفدي زكريا، قبل وفاته ترك لي قصيدة لألحنها له وأسند أدائها لصوت قوي وجميل. وتحمل هذه القصيدة عنوان »رجعتي بعد الجفاء«، وبالفعل عكفت على تلحينها غير أنها بقيت بدون تسجيل، وأخبرك أنني لازلت أبحث عن صوت رجالي جميل ليؤديها على اعتبار أن كلماتها تخاطب أنثى. ❊ هل يمكن أن نقول أنك لم تعثر في كل هذا الوقت على صوت يستحق وجدير بتأدية هذه الكلمات الملحنة، والتي تعد إرثا من شاعر الثورة الخالد مفدي زكريا؟ ❊❊ أعترف بوجود عدة أصوات جزائرية رائعة غير أنها معزولة. ❊ نود معرفة البعض منها؟ ❊❊ أعتقد أن الفنان يوسفي توفيق لديه موهبة وصوت عربي جميل جدا قادر على أداء جميع الأغاني العربية الأصيلة، إلى جانب الفنان محمد لعراف وكوكبة أخرى من الفنانين، غير أنهم يعيشون في عزلة كبيرة مؤلمة وكان عليهم الإحتكاك والبروز أكثر لأنهم موهوبين. ❊ ما هي أهم المحطات التي تعتز بها؟ وهل توجد أمور مؤلمة في مسارك وأنت تشرف على بلوغ عقدك السابع؟ ❊❊ تمكنت إلى اليوم من تلحين نحو 150 أغنية وقصيدة طيلة نصف قرن كامل من العطاء، ووصلت في كل هذا إلى قناعة أن الفنان يظل هاويا إلى غاية رحيله عن هذه الحياة وإلا لانتهى مساره الفني. وأتذكر أجمل الذكريات في فضاء العطاء في عقد السبعينات، حيث امتحنت أمام العمالقة على غرار الموسيقار عبد الوهاب وأم كلثوم وتألقت، حيث تحصلت على جوائز وتمّ إعتمادي في إذاعة القاهرة وهناك سجلت عدة أغاني. يجب تطهير ظاهرة ضغط واحتكار الملحنين للأصوات الجميلة وفوق هذا وذاك يجب أن أميط اللثام عن ظاهرة مازلت أتقزز منها، ومازالت مستمرة بشكل محسوس وحان الوقت لاستئصالها، لأن الحديث عن حرب الملحنين الشرسة وضغطها على الأصوات الجميلة بهدف احتكارها أمر مؤلم، ولا يخدم على الإطلاق الفن ولا يساهم في ترقيته. وأذكر أنني كنت جد معجب بصوت الفنانة المطربة صليحة، وكانت ترغب كثيرا في التعامل معي إلا أن وجود أحد الملحنين الأنانيين حال دون تعاونها مع غيره، ومازالت هذه الظاهرة تسيطر وتسفر عن ممارسات لا تعكس جمالية الفن ورقته إلى يومنا هذا، وأعتبر هذا أكبر خطأ يقترف في حق الفنانين بل أرى أنه عيب كبير. ❊ قلت أنك كنت جد معجب بصوت الفنانة المرحومة صليحة، وما هي الأصوات التي تثير إعجابك وتطمح للتعاون معها في الوقت الحالي؟ وما هي المواضيع التي تروقك لتلحن فيها؟ صوت »فلة عبابسة« قوي وكبير لكنها لم توفق في اختيار الألحان ❊❊ بدون تردد أهوى تلحين أغاني وقصائد عن الحب لأنه الجوهر في كل شيء، ولا أخفي أنني جد معجب بصوت جزائري قوي يثير إعجابي ويتعلق الأمر بصوت فلة عبابسة. هذه الفنانة القديرة التي لم توفق في اختيار أحسن الألحان لكي تتألق إلى أبعد ما يكون في أداء الأغنية الجميلة والخالدة، لأن صوتها متميز وبإمكانها أداء القصيدة الثقيلة والألحان الدسمة. ❊ نحن أمام أحد المخضرمين الكبار في الفضاء الموسيقي، ماذا تقول لجيل الفنانين الصاعد والقائمين على الفن الجزائري؟ ❊❊ أشعر أنني كبرت كثيرا وتقدت في السن، لذا أوصي أبنائي من الأجيال اليانعة والصاعدة بالإحتكاك بالكبار والشيوخ وكل من لهم رصيد في هذا المجال، لأنه مفتاح اكتشاف ما يجهلونه، ويجب أن يعلموا أنه ليس كل من يملك صوت جميل بإمكانه مباشرة تسجيل شريط غنائي، لأنه يشترط التكوين وصقل الموهبة لرسم أول الخطوات ببصمة قوية وخالدة تيسر له التألق والنجاح والعطاء الحقيقي. وحان الوقت كي تتحرك وزارة الثقافة لتشكل لجنة صارمة تختص في اختيار الألوان الغنائية التي تسجل، وتفرض الرقابة الراقية والحقيقية على تجار الشريط الغنائي. ❊ نترك لك كلمة أخيرة تقول فيها ما تشاء... ❊❊ يجب أن يعلم جميع الجزائريين أن الجزائر عظيمة، مناخها متميز، طبيعتها منيرة، وأعتبر أرضها جزءا من الجنة في الأرض لأنني سافرت ولم أغازل غيرها.