تبدو مفاتيح الدخول إلى رواية الكاتبة التونسية المميزة، خيرية بوبطان: ابنة الجحيم، صعبة المنال. تقتضي من القارئ أن يكون متنبها لكل كلمة وفاصلة وحدث لأن المعنى ينشأ من هذه التفاصيل الصغيرة غير المرئية أحيانا. لا شيء زائد فيها ولا مجاني. الكل حامل للمعنى وبتكيء عليه في النهاية لإنتاح المعنى الكلي للرواية ويقربنا من الفهم. أن تقرأ رواية حدثية كلاسيكية بكل آلياتها البنيوية والبنائية، شيء، لكن أن تقرأ نصا تأمليا فلسفيا يتوغل في رحم التحولات البشرية ومصائرها، شيء أخر. لهذا كانت متابعتي لهذا النص المهم، كبيرة. بدأتْ يوم وصلني فصل صغير أولي من روايتها تحت عنوان المندسة وقتها، وكان متينا حد الإدهاش. وتم اقتراحها على هذا الأساس من بين الكتاب الذين اشتركوا في ندوة البوكر، أو ورشة الكتابة التي تنظمها جائزة البوكر سنويا، التي أدرتها شخصيا في الإمارات العربية، أبو ظبي، في قصر السراب، قبل سنتين، وكانت فرصة كبيرة للاستماع إلى خيرية وإلى مشروعها، ومحاولة تصويبه بالمقترحات والنقاشات. وخرجت خيرية من هذا اللقاء بسلسة من النتائج أعتقد أنها أفادتها كثيرة من حيث الخصائص البنيوية للرواية وإشكالية الكتابة التأملية في الإنسان المهمة كثيرا بلا شك. المشكلة الوحيدة هي أن يقبل الكاتب بالقروئية المحدودة نسبيا، لا لنقص في الرواية، ولكن لعادات قرائية مهيمنة في العالم العربي، ومتحكمة للأسف في الذائقة العامة. لنا في العالم العربي قراء يميلون نحول المباشرة والسهولة وعدم التفكير العميقة. وهو ما نسميه القراءة الكسولة. وكلمة قراء، ههنا، لا تعني فقط فئة الشباب الخاضع لعلاقة بترية مع الزمن، في ظل الوسائط الاجتماعية المهيمنة، ولكن حتى الفئات الاجتماعية الأخرى كالمعلمين والأساتذة والكتاب أيضا الذي يتابعون ويقرؤون بنفس العين ونفس الخاصيات المحدودة. لهذا أقول وأنا على يقين مما أقوله، إن خيرية بوبطان، الروائية والشاعرة التونسية، قد خطت بروايتها الجديدة: ابنة الجحيم، التي طبعتها في دار التنوير، في بيروتوتونس ومصر، هذه السنة، خطوة كبيرة باتجاه ترسيخ اسمها كروائية عربية مميزة، لم تختر الطريق السهل لبدء مشروعها الروائي، وهو أمر يحسب لها وليس عليها التفكير في نظام العالم المحيط بنا ليس مثل التفكير في ظواهره من حيث العمق. تحية كبيرة لها ولدار التنوير التي تعمل بجدية على اكتشاف المميز من المواهب، وتشتغل وفق خيارات دقيقة منها التحرير واحترام حقوق النشر والمتابعة الأدبية والإشهارية للكتاب والكاتب. بروايتها الثانية التي لا يمكن أن تكتبها إلا امرأة في عز تحولاتها الجسدية والروحية، تكون خيرية قد ضمنت مكانا حقيقيا في سجّيل الرواية العربية. لقد تخطت بسرعة مزالق الرواية الأولى: عايش ميت التي تناولت فيها جزئية معاصرة من تاريخ تونس الحديث، مع ارتدادات كثيرة نحو الماضي. رواية جاءت في وقتها، في عز الغليان التونسي. رواية ابنة الجحيم، تجربة أخرى. قصة امرأة تقطع مسافات غير محدودة داخل فراغ أصبحت جزءا منه، فترسمه لحظة لحظة، معلما معلما. الرواية دقيقة في خياراتها الفلسفية، التي تتخفى وراء النص. تضع، لأول مرة، أمام أعيننا المندهشة، فكرة الحياة بشكلها التجريدي الغامض، والعميق. نرى كل شيء بشكل مشهدي في لحظة تكوينه. كابوس قاس لا يشبه الحقيقة بل يتخطاها نحو المبهم واللامنتهي. هل الحياة خطأ؟ هل هي انتحار متكرر بأشكال جديدة ومختلفة؟ ماذا تحمل البطلة، جنينا للفرح أم قنبلة موقوتة؟ لقد كبرت وتكلمت ونطقت وحللت كما الكثير من الأنبياء في النصوص المقدسة معلنة عن عالم كانت تعرف بعض أسراره، هل هو قدر الأشياء منذ قتال قابيل وهابيل على الجبل الأعلى؟ الأمر الذي يجعل من امتلاك مفاتيح الدخول إلى الرواية أكثر من ضرورة إذ تتطلب المعطى الديني في رمزيته وليس في معضلاته الإيمانية. ابنة الجحيم رواية تأملية في جذر الحياة وتحولاتها ونحتاج لذلك إلى قراءة منتبهة، عاقلة ومتريث ، تخرج عن دائرة القراءة التقليدية التي تراهن فقط على المتعة والقصة وبداية ونهاية الرواية على طريقة الهيپي أيند happy end أو النهاية السعيدة. ليس لأن خيرية أرادت أن تصعب من مهمة القاريء، ولكن لأن الحياة نفسها بغموضها وغرابتها تقتضي ذلك إذ رسمت خيرية المصائر الإنسانية من لحظة تكونها حتى تلاشيها. أن تمنح الحياة، هذا يعني بالضرورة أن تكون قادرا على العطاء والحب والفناء أيضا من أجل هذه الحياة. نحن داخل الجحيم المقدس القريب من جحيم دانتي إليغريي حيث التغيرات كبيرة وتهز اليقينيات السابقة، وكل تغير في وضعيات الشخصيات تعقبه تغيرات مخيفة أحيانا في محيطه الصعب والقاسي والذي يحتاج فيه الكائن إلى جهود كبيرة للتأقلم معه، وتجاوز الخديعات الكثيرة التي تنشأ من الاصطدامات غير المنتظرة، للانتقال إلى البرزخ، قبل أن يدرك عتبة الجنة المستحيلة أو السعادة الكبيرة التي تعيده إلى نقطة البدء. قد تبدو القصة في معناها المباشر، أو المستوى الأول للقراءة، بسيطة. هي قصة أسماء ابنة فاطمة ويوسف التي قرر الجد الذي يعيش مع أرواح الموتى، تزويجها بلا نقاش وبلا خيارها أيضا، فاضطرت إلى كتم حبها لابن الجيران الذي عزف عن الحياة بيأس، واختار المسجد كمآل للخيبة والهزيمة العاطفية. تعيش كوابيسها في لحظة غشاوة تدفع بها نحو أعماقها ولم تستيقظ إلا بعد يومين. وحيدة في مواجهة عالم أصم لا لغة له إلا لغة الموت. افتراقها مع يوسف وذهابها للعيش مع خالها حتى موتها، يدخلها في مدارات جديدة. الكثير من القصص تمر عبر العمة سالمة التي تحادث الموتى أيضا وكأن الموت هو الحالة الوحيدة الثابتة لدى الكائن الحي. كل شيء آيل إلى الزوال حيث يتساوى الكل السعيد والبائس. تحب أسماء وتكره زوجة والدها في الآن نفسه. تقودها الحياة الكابوسية الشديدة التعقيد إلى مستشفى الأمراض العقلية ، حيث تقابل هناك طبيبها النفسي الدكتور أيمن الذي يصاب بها ويصبح عرضة لنفس كوابيسها التي كانت تراها. أليس الجنون مهربا سالما في عالم هو المجنون الحقيقي وليس البشر في مواجهة مصائر ثقيلة جدا. الفكرة الجوهرية هي أننا كلما مَنحنا الحياة للغير، فنحن نموت قليلا. الجنين لا يخرج إلى الحياة والأرض إلا بعد أن يكون قد أكل شيئا من عمر أمه. الأم التي تتألم بحملها، وتعاني الأمرين، وتمرض، وتسهر، وتخاف، ولا تنام، وتصاب بالنوبات المختلفة، كل هذا جزء من عمرها الذي تمنحه بسخاء، وتموت من خلاله قليلا. وكلما ظننا أننا امتلكنا الحياة، اكتشفنا بأن ما يبدو على السطح سهلا، يحتاج إلى حالة من التبصر والتعمق. الحياة لها ظاهر وباطن. وكثيرا ما يكتفي الإنسان بما يلمسه خارجيا. سؤال الرواية الفلسفي والإنساني: كيف تنشأ الحياة منذ لحظتها الجنينية، وسط ظلمة قاسية، حيث العالم يكاد يكون هلاما بلا شكل واضح وبلا جسم. من هنا، فرواية ابنة الجحيم ليست نصا يقرأ على أريكة. هي فعل ثقافي وفلسفي غامض مثل غموض الإنسان نفسه، تعترضنا الأسئلة الوجودية الأكثر إحراجا. لهذا تحتاج ابنة الجحيم منّا إلى بعض التوقف والتأمل لمحاولة فهم عالم شديد التركيب والغموض. حتى العناوين المنشأة في الروية على العدم، اختارتها الكاتبة وفق نفس المنطق بذكاء، منذ العدم الأول ومرحلة بين التي تتكون فيها الأشياء دون أن تنتظم، ودون ان يتحكم فيها مخلوق. ومن خلال عمليات السرد الذكي، تتضح المراحل الكونية الثلاث: انفصال الشيء عن مداره العام قبل أن يكوّن مداره الخاص الذي تنشأ من نطفته الأولى خلية الكون، بذرة الحياة. ثم مرحلة بدء التكوين حيث تتجلى الأشياء بأشكالها. قبل أن تبدأ المرحلة الثالثة، الرحلة الأثيرية. يمكنني أن أسمي ابنة الجحيم، رواية الحيرة والأسئلة الوطودية والمأساوية، لأنها تترك قارئها معلقا في فراغ مهول كلما ظننا أننا فهمناه، زاد ابتعادا وتشابكا خالقا فراغات جديدة من حولنا غير منتظرة. في حديث مع مع خيرية، فهمت منها أنها بصدد الانتهاء من رواية جديدة، هل ستكون اجتماعية كما روايتها الأولى: عايش ميت التي أرخت لحقبة من تاريخ تونس؟ أم ستكون بنكهة جديدة تنطلق مرة أخرى من رحم إنساني مجروح لا يعيد في النهاية إلا إنتاج حيرته الوجودية وانتقاماته، وتوحشه أيضا، أم شيئا آخر أقرب إلى انشغالات القارئ العربي العادي. لكل كاتب أسراره، ولخيرية أيضا سرها الروائي الذي سيتجلى بوضوح في نصها القادم.