نظمت ولاية المدية، من الثالث إلى السابع نوفمبر 2017، الطبعة الحادية عشرة للمهرجان الوطني للمسرح الفكاهي، وهي مهداة إلى روح الممثل حسان الحسني. "لقد عاد ( المهرجان) ليجدد العهد مع الكلمة الناقدة عبر ملتقى" الفكاهة، التربية والجماليات"، كما ورد في كلمة الدكتور سعيد بن زرقة، أديبا ساخرا ومحافظا. كانت المسرحيات التي قدمت راقية جدا: كشرودة، إنتاج المسرح الجهوي لسوق أهراس(خارج المنافسة)، مسرحية 107، لجمعية الأقواس لمواهب الشباب، المدية، مسرحية" الضيف" لجمعية نجوم الفن، تيبازة، " بيرات خرابيب " للمسرح الجهوي بقسنطينة والجمعية الثقافية الماسيل، مسرحية فن الكوميديا للفرقة الجوالة لولاية تيارت، وكارت بوستال للمسرح الجهوي لمعسكر. تنافست هذه الأعمال الجميلة، بمستوياتها المتباينة، على جائزة العنقود الذهبي، محاولة، في أغلبها، التعامل مع خطابات بنيت على النقد الساخر للمحيط الخارجي وللتاريخ، وهي النقطة المشتركة ما بين العروض مجتمعة، كأنما اتفقت على ذلك. كان الواقع مادة مسرحية تمّ التعامل معها بأشكال نبيهة، وعبقرية، مقارنة ببعض العروض الخافتة التي شهدتها مهرجانات أخرى أقلّ قيمة، وأقل احترافية، رغم الميزانية المحترمة التي خصصت لها من أجل إنتاج عروض هزيلة، ولا قيمة لها، لا فنيا ولا موضوعاتيا لأنها لم تجتهد، أو لأنها اعتبرت نفسها مركزا ومرجعا. ما الذي يضحكنا؟ ثمة قضايا كثيرة طرحت في مختلف العروض، بذكاء كبير أحيانا، وبشكل تقريري في حالات أخر مع أن ذلك ضروري في سياقات بالنظر إلى مستويات التلقي ما يكشف عن الجهد المبذول من قبل الكتّاب والمخرجين والممثلين و"مهندسي" الخشبة، إضافة إلى المكلفين بالصوت والإضاءة، وغيرهم من صناع العرض، ككل متكامل، سواء كان لغويا أو غير لغوي. راهنت بعض المسرحيات على خطاب الجسد كعنصر قابل لإنتاج الضحك، الأمر الذي استثمرت فيه بعض العروض التي أدركت قيمة هذه اللغة المشتركة ما بين الجميع. كما تؤكد على ذلك بعض الأفلام الصامتة: شارلي شابلين عينة. لقد كانت هذه العروض ذكية بما يكفي لجعل القاعة تتفاعل بقوة، كما كانت ذات قدرات كبيرة على تمرير ما وجب تمريره بأساليب مثيرة ونبيهة في تعاملها مع الإيماءة، مع اللباس، مع الحركات والعلامات المؤثرة، في غياب العنصر اللغوي الذي يصرح، أكثر مما يضمر. في حين لجأت مسرحيات أخرى إلى العلامات اللغوية المتواترة في المحيط الخارجي، إلى أقوال وملفوظات وحقول معجمية انبنت على النقد الآيل إلى السخرية السوداء من واقع عابث ومرير، سواء عن طريق المحاكاة، أو عن طريق التخييل، أو باللجوء إلى المغالاة كعنصر مهيمن، مع أن هذه المغالاة كانت وظيفية جدا، وقريبة من طبيعة الأحداث الفعلية التي يمر بها المجتمع. كما احتمت بعض العروض بتحريف اللسان، وتحديدا ما كان ذا علاقة بنطق اللغة الأجنبية، وهي طريقة أكثر إضحاكا في حالات عينية، كما الخطابات الفظة التي انتشرت في بعض المسرحيات، لكنها، في واقع الأمر، ورغم قيمتها التواصلية، تجعل العرض محليا، منحسرا، غير مؤهل لإحداث التأثير ذاته خارج الحدود الجغرافية، شأنه شأن العامية التي وسمت بعض المسرحيات، أو كانت متكأ قاعديا لتمرير خطابات ساخرة يتعذر فهمها في بلدان أخرى لها عاميتها وشحناتها الدلالية المخصوصة، وهي إحدى الإشكاليات التي طرحت أثناء المناقشات. كانت المحاضرات الأكاديمية المكملة للمهرجان نقطة غاية في الأهمية بالنظر إلى تركيزها على الفكاهة والسخرية والعبث والنكتة، ما جعلها مجاورة للعروض، مفسرة وشارحة، ومؤثثة لها، إن استغلتها في اجتهاداتها اللاحقة كعناصر ضرورية لفهم المجتمع ومكوناته، خاصة في ارتباطها بالتحليل النفسي والاجتماعي والأنتروبولوجي، وبتحليل العناصر المشكلة للفكاهة، قديما وحديثا، إضافة إلى تأثيراتها الممكنة وأبعادها، بمختلف طبقاتها المعنوية. ربما كانت هذه المناقشات التي تلت كلّ عرض من أهم التقاليد المستحدثة في مسرحنا عبر تاريخه. كان لقاء الجمهور والأكاديميين بالمسرحيين، بعد كل عرض، نقطة لافتة في المهرجان. كان التقريب بين هذه الأطراف، في واقع الأمر، حتمية من حيث إن المسرحيين يتعاملون مع المتلقي، وليس مع الذات، أو مع ظلالهم وأصدائهم، ومع بعض الأوهام الشخصية التي أبعدتهم عن المشاهد كطرف جوهري في عملية التواصل. إن لهذا المتلقي، كيفما كان، نفسية وذوقا وتربية جمالية وفنية، ومن ثمّ إمكانية الاستفادة من ملاحظاته لأنه جوهر من الجواهر التي تشكل أطراف الخطاب، بمفهومه العام. أمّا الأخذ برأيه فمسألة أخرى: من المهمّ أن نستمع إلى المتلقي، وهذا مكسب في حدّ ذاته. يجب الإقرار، في هذا السياق، بقيمة هذه الجلسات التي رحبت بالنقد الأكاديمي المؤثث معرفيا، دون استعلاء، كما كان يحدث في أغلب اللقاءات التي ظل فيها المخرجون والممثلون والسينوغرافيون والمقتبسون وكتاب السيناريو آلهة، ومستبدين لا تعنيهم الملاحظات التي تأتي من الجمهور، رغم جانبها العلمي وثقافتها المسرحية وقدراتها التمييزية بين العروض، الناجحة منها والفاشلة، أو تلك التي تدعي المعرفة، أو تلك التي لا علاقة لها بفنون العرض أصلا. أتصور أنّ التناغم الذي حصل بين المسرحيين والنقاد سيكون خطوة مهمة للتقريب بين الطرفين المتصادمين. لا يمكن للمسرح أن يعيش من دون ملاحظات تقوّم فجواته وتقوّي جوانبه الايجابية، كما لا يمكن للنقد أن يظل نظريا، بعيدا عن الممارسة والتجربة، أو متفرجا سلبيا يدّعي السيطرة على المعرفة برمتها، دون أن يقوم بتحيينها، أو بنقلها من الورق إلى الواقع: الواقع المسرحي في هذا السياق: على النقد أن يتعلم بدوره كيف يقرأ، وكيف يستمع للمنظورات الأخرى في تعاملاتها، دون استعلاء مرضي. التنازلات المتبادلة ضرورية للارتقاء بهذا وذاك.