ألم تشبع أيها الموت من خطف أحبتنا قبل أن تشبع منهم الحياة وقبل أن نشبع منهم. مسافات الوداع غدت قصيرة وقصيرة جدا، ما إن نخبئ في التربة عزيزا حتى يفتح قبر آخر أكبر من أي حزن وأكبر من أية حرقة وأكبر من أي فقد. نور الدين سعدي والذي يناديه الأحبة والحميميون نونو تسلل مثل النور ومثل نجمة هاربة في هدوء وسكينة مساء هذا الخميس 14 ديسمبر، وكأنّنا به يقول، أنا مسافر وسأعود، انتظروني في أماكني المعتادة وفِي قلوبكم قبل أن يصيبها التعب والوهن "سأرجع معكم يوما إلى حينا" لأملأ الأمكنة بي، وبكل أصواتي التي وزعتها بسخاء لمن لا صوت لهم ولمن خانتهم أصواتهم ذات ألم وذات حزن وذات فجيعة وذات حق مسروق. يا ألله!؟ كنت معنا وبيننا بحضورك الوافر والطاغي في الطبعة الأخيرة من معرض الكتاب بالجزائر، جلسنا وحكينا وضحكنا كثيرا وتناقشنا عن الواقع والأضلاع المستجدة في عالم عربي الذي بدأت قصور الرمل فيه تنهار واحدا تلو الآخر. التقيت بقرائك ومحبيك ووقعت آخر رواية في دار النشر برزخ، ولم نكن ندري أن المرض أيضا كان يوقع معك وكان يتجول معك في أروقة المعرض محطة محطة وأن الموت كان مختبئا ومندسا بين أسطر وصفحات آخر كتاب. كنّا نعرف أن التعب سكنك قليلا، لكن ليس لدرجة الغياب. كعادتك كنت بشوشا ومتفائلا، كما أنت دوما تنظر للأشياء بعقلانية وحكمة ورزانة وتحاول لمس ما هو إيجابي أكثر مما هو سلبي. بابتسامتك السمحاء ودعاباتك الأنيقة وخجلك الشفاف وتواضعك الصادق، لم تحسسنا أبدا أنك جئت لتودع الناس والأمكنة والذكريات والحارات الحميمة التي جمعتك مع رفاقك ذات زمن سري، منهم من تغرب قسرا مثلك ومنهم من قهرته غمة الوضع ومنهم من غدرته أيدي القتلة والإرهاب بكل بشاعته. أراك الآن تقبل أيدينا نحن النساء بأناقتك المعهودة ولطفك، وتقول كنت معكن بكل قوتي وثقافتي وفكري وقناعاتي وكتاباتي، ليكون وضعكن أحسن وحقوقن أقوى وأوفر، لأن المجتمع السوي والقوي لا يمكنه أن يتكئ على رجل واحدة أو ينظر بعين واحدة، فهو في حاجة لكل أياديه المنتجة وعقوله النيرة ليعانق العالم الجديد ويستشف كل الأنوار المتخفية ويتقبل الآخر المختلف ويتصالح مع ثقافاته ولغاته وأديانه. سكنت الغربة وسكنتك إلى أقصى حد. بعد أن أعطيت الأجمل وكونت وعلمت وأبدعت هددك القتلة، قاومت ولم تستسلم لا للمساومات ولا للإغراءات ولا للمناصب، اشتهيت نفسك حرا. تغربت ولم تتخل عن تربتك وطلبتك. أنت الذي سكنك النضال والوقوف في وجه الظلم منذ طفولتك، واجهت الإستعمار وأفكاره القاتلة في حضن الطلبة الجزائريين وفِي الأحزاب التقدمية واليسارية لتواصل مواجهتك في وجه التخلف والجهل بلقاءاتك ومحاضراتك ومقالاتك ومواقفك المبدئية الصارمة، من أجل بلاد متقدمة ومجتمع متنور واضحة معالمه وأهدافه وصورة مستقبله، لا يقبض على العصا من الوسط. جاء الخبر سريعا ومفاجئا. لم نرد أن نصدق ولم نجرأ لحظتها أن نكلم لا العزيزة جميلة ولا الأطفال خوفا من أن يكون الخبر متسرعا وغير صحيح. في آخر الليل يأتي صوت سارة ابنتك الرائعة لتؤكد الخبر بصوت مبحوح ودموع غزيرة أحسست أنفاسها وحرارتها من وراء السماعة تقول لقد غاب العزيز لقد غاب دون ألم، سرقه الموت بين إغفاءة وإغفاءة. نور الدين كم ملأت الحياة بك وبأعمالك وبنضالك. لم يكن تكوينك ولا اختصاصك في الحقوق حياديا ، بل وضفته من أجل الدفاع كتابة وعملا ، عن كرامة الإنسان وعن كل القيم الإنسانية العليا. سكنك الإبداع الجميل ليتفجر في الغربة أعمالا روائية جميلة ونصوصا عن الفن بكل أشكاله إذ كرمت بقلمك المتميز والراقي وإحساسك المرهف الكثير من الفنانين مثل "حورية عايشي والمعطوب الوناس ودّوني مارتينيز " وآخرين. في القلب والذاكرة ستبقى دوما. قبلة حارة على جبينك النير.